كان يمكن أن تكون “مقامات عربية ” مجرد هجائية ساخرة مُدهشة لفوضى الحكم والعلاقة مع المحكومين ، نستعيد من خلالها عصراً أقرب الى زمن المماليك حيث شعار :”الحُكم لمن غلبْ ” ، وحيث السلاطين ينافسون الشعب فى العدد ، وحيث يُولّى الحاكم ليلاً ويُعزل فى الصباح فيطلق عليه المصريون لقباً ساخراً هو “سلطان ليلة ” ، كان يمكن أن يكتفى “ناجى” بالقول من خلال هذه الملهاة أن شيئا فى حياتنا لم يتغيّر ، واننا ما زلنا نُحكم على الطريقة المملوكية حيث الصراع فى القصر / القلعة ، والزفة فى الشارع مع الشعب الذى يتفرج وكأنّ الأمر لا يعنيه ، ولكن ما يجعل من “مقامات عربية ” عملاً عظيماً وعالمياً بحق أن مؤلف الرواية لم يقنع بجانب الملهاة ، لقد قرر أن يضع الصراع على السلطة فى إطار إنسانى أشمل هو صراع الإنسان ضد الزمن ، وصراع الإنسان فى مواجهة نفسه ، وصراعه للبحث عن المُطْلق ، وكلها أفكار فلسفية تمنح الرواية مذاقا انسانياَ عاماً وليس عربيا فقط . “مقامات عربية ” تحوّلت بذلك الى ما يشبه الأصوات المزدوجة الصادرة من “عمود المنادى ” فى الرواية : تبكى ثم تضحك ، تضحك ثم تبكى ، تبدأ الرواية بما يشبه الهزار : ” لمّا لحس الجربْ شعر سعد ابن ارنبة ، غطى قرعته بطرحة ، وكحّل عينيه وخلع نعليه ، وعمل شيخ عرب ، ولكى يقنع الناس بوضعه الجديد ، نفخ صدره وملأ شدقيه بالهواء ، فكان إذا تكلم بعبع ، فلا نفهم نصف كلامه .” فجأة تحول هذا الأحمق الى شيخ حارة ، ثم أصبحت الحارة مدينة ، ثم تحولت الى سلطنة ، انتقل سعد ( باختيار الناس ) من أضحوكة الى مؤسس أسرة حاكمة تشبه عصر سلاطين المماليك فى مصر والشام ، وبعد أن كان السلاطين يخافون من ظلالهم سيتحوّلون هم أيضا الى ظلال ، وسنرى حكاياتهم الساخرة على شاشة خيال الظل . تدريجياً تحولت اللعبة الى جد ، ومن خلال “العقرب الكبير” توضع قواعد حتى يحتفظ السلطان بمنصبه الى الأبد ، يسود منطق البيضة والحجر والعصا والجزرة والسرقة والتعكيم ، والرشوة و “البرطلة” ، والذبح والنحر فى سبيل الكرسى ، يبدأ ناجى “السارد الماكر” والسلطان هو الذى يلعب بالسلطة ، ثم نكتشف أن السلطة هى التى تلعب بالسلاطين ، ويكون الإكتشاف الأهم والأعمق فى السطور الأخيرة إذ أن مرايا الزمن هى التى ستلعب بالجميع . أبطال الحكاية ماهم إلا تروس فى آلة الزمن التى تستهلك السلاطين كما تستهلك البشر ، والتى تجعلهم جسداً واحداً متعدد الرؤوس ، او كأنهم بقايا صور فى مرايا متكسرة ، يذهب السلاطين الى خافية النسيان الى أن يكتب “ناجى” حكايتهم ، فتعود التروس الى الدوران وتبقى الذاكرة ، ونستعيد أصل اللعبة : الزمن يلعب بالسلاطين ، والسلاطين يلعبون بالسلطة ، والسلطة تلعب بالناس ، والناس بقايا عابرة فوق الماء أو ظلال وأشباح فوق شاشة الزمن ، يستعيد الزمن / الساعة الزمام من اللاعبين بعد أن يطلق الحكم صافرته ، وهكذا تنتهى الملهاة بما يشبه المأساة ، وتنتهى اللعبة بالجد ، وتنتهى القدرة بالعجز ، وتبقى كلمات الرواية الأخيرة تذكرنا بالدائرة الأكبر ، الزمن هو الذى يعيشنا ولسنا نحن الذى نعيشه : ” وهذه الساعة ( التاريخ / ذاكرة الأيام والبشر) باقيةٌ من عجائبنا الى اليوم ، ومكتوب تحتها : “هذه ساعة الزمان ، فيها خطوط سير الأولين والآخرين ، وكما كان يكون ” . كأن اللعبة ستكرّر نفسها ولكن بلاعبين آخرين وفى ظروف أخرى ، وكأن “التاريخ مقدمات متتالية لمقدمات متوالية ” كما كتب “ظلّ الفار ” فى أوراقه ، وكأن الدائرة تعود لتنفتح من جديد بلا توقف ، وبدون نهاية .
موضع الملهاة فى “مقامات عربية ” واضح لدرجة أنك يمكن أن تسقط من الضحك كون أن البشر يتعاركون على مقعد ، وكون أن المنطق التقليدى ينتهى بنا الى ما يشبه العبث ( أشخاص يهربون من خيالهم ثم يعشقونها ثم يتحوّلون هم الى ظلال ، وبشرٌ يتلاعبون بالألفاظ حتى يُصبحوا أسرى لهم ، وتجسيم كامل لكل الأفكار فالمنافق له لسانان بالفعل أو اسمه النصّ نصّ ، والمعارضة تتخرج من مدرسة ” لا ” ، أما السلاطين فهم أغبى خلق الله وكأن الغباء شرطٌ للسلطنة ، بل إن مؤسسى السلطنة يتكلمون فلا نفهم منهم شيئاً ) ، ولكن موضع المأساة هو الذى يحتاج الى توضيح أكثر ، وهو أيضا الذى يمنح الرواية مسحة فلسفية عميقة . تبدو المشكلة فى إيمان الإنسان “محدود القُدرة” بأفكار “مُطلقة” غير محدودة ومن الصعب الإمساك بها تماماً كالسراب ، من هذه الأفكار مثلاً : القوة والمجد والشرف والجمال والخلود ، الإنسان يبحث عن السلطة فى إطار بحثه عن “المُطلقْ” وهو بحث خاسر ومعروف النتيجة ، فى “تسابيح النسيان ” هناك لوحة كاملة بعنوان ” أباطرة النسيان ” يتحدث فيها “ناجى” عن فكرة الشرف والمجد التى تستحوذ على عقل ملكين أحدهما مسلم ، والآخر مسيحى ، وفى عصرين مختلفين ، وكأن الفكرة موجودة مسبقا ولكنها تبحث عن موضوع وتفاصيل . القراءة الأكثر عُمقاً لرواية “مقامات عربية ” لا تضع الإنسان فى مقابل السلطة ولكنها تضعه فى مقابل السراب لأنه يتعلق “بالأمر المُطلق ” بما يذكرنا برباعية “صلاح جاهين” البديعة عن الإنسان الذى اغتوى بالأمر المُحال ، ومع ذلك لا يعنيه سوى الإرتواء رغم معرفته بالفشل المسبق لعدم توازن الطرفين . بسبب هذا المغزى الإنسانى تظهر فى الرواية شخصيات هامة ومحورية تتوه فى رحلة “الإغتواء بالمُطلق” ، وهذه الشخصيات موجودة فى كثير من روايات “ناجى ” ، خذ مثلاً “العقرب الكبير” عاشق السلطة والقوة وفيلسوفها ، انظر كيف ينتهى الى الذهول عن نفسه فلا يعرف مكانه من القصر الواسع ، يهزمه الزمن بالضربة القاضية فتبدو وصاياه مضحكة وبلا معنى خاصة عندما ينجرف وريثه “العقرب الصغير” الى مُطلق آخر وهو “الجمال” حيث يتعلّق قلبه بالجميلة القادمة من وراء النهر “نهريّة ” ، ينتهى “العقرب الصغير ” ميتاً فى حُفرة يسأل كل من يطعمه : “من أنا ؟ ” . نموذج ثالث هام فى البحث عن المطلق بلا جدوى هو “ظلّ التراب ” الذى يضيّع عمره فى البحث عن الذهب “الأصفر الخالد ” وسط الرمال دون أن يصل الى شئ ، يعيش ساعات فى دور السلطان ثم تلتهمه الذئاب فلا يبقى من جسده سوى “الأصفر الخالد ” / لون الموت . نموذج رابع من نفس المقام / مقام البحث عن المطلق ، “ظل الماء” الهارب من الصراع والعبث للبحث عن معنى عائشاً بين الماءالمالح والماء العذب ومبشراً بالرحمة ، نموذج خامس تمثله “ظل النسيم ” زوجة “العقرب الصغير ” التى تبدأ بالغيرة من “نهريّة ” ثم تنتهى بالوقوع فى نور جمالها ، ربما وجدت فيها الجمال الغارب الذى رأته فى مرآتها ، نظرت إليها فأبصرت نفسها التى كانت ، اغتوت بالأمر المحال وقبلت أن ترتوى به حتى لو كان الثمن أن تموت بسهم واحد يجمعها بالجمال .
تستطيع القول أنّ الذى هزم الإنسان فى “مقامات عربية ” هو المرايا / مواجهة النفس ، والسراب / التعلّق بالمُطلق مع ضعف القُدرة ، ولذلك لن يتوقف السلطان “الكافورى ” عن التساؤل ، ولذلك سيطلق على مقبرته “دار الإنتظار ” ، وتتجسّم الهزيمة عندما يقوم الأمراء الأربعون الذين يتناوبون حكم السلطنة بالتلاعب بالزمن وبالساعة فيتلاعب الزمن بهم جميعاً ، ولا يبقى من اللاعبين فى النهاية إلا “زمبلك الزمان” القادم من الناس الى القصر ، ومعه ظلّ النار، وظلّ الماء ، ورهطٌ من الناس يفتحون الكتاب محاولين اكتشاف المعانى المُطلقة وأسئلة الوجود ، ولكن يظل أهم ما ينتهى إليه “زمبلك الزمان” أن هناك أعمدة أساسية لبناء قصر/ وطن جديد . هى أشبه ما تكون بعُملة واحدة لها ثلاثة أوجه : العدل والرحمة والحق ، الحق هو العدل ، والعدل هو الرحمة ، والرحمة هى عين العدل ، والعدل هو عين الحق . لن يتم بناء هذا القصر الجديد حيث سيستمر الصراع للحصول على مفتاح الأموال المدفونة فى صندوق . تظلّ مشكلة الإنسان فى نقاط ضعفه ، فى داخله وليست فى خارجه ، ولذلك ستتواصل اللعبة فى أزمان أخرى بطرق واساليب مختلفة .
فى روايتنا الفريدة كل سمات عالم “ناجى” كما فصّلناها فى مقالات سابقة : ذاكرة الرواية فى السارد العليم الذى يسجل مارآه ، ولكنها أيضا فى “العقرب الكبير” الذى يمثّل “ذاكرة الإستبداد العربية” ، وفى “ظل الفار” الذى يكتب أوراقا تلخّص معنى التاريخ وطريقة عمله : ” يُجازى الخلف بأعمال السلف ، فأعمالهم أسباب لصلاح من يأتى بعدهم ، أو لهلاكهم ” . ” المعانى المستقرة هى وقفات .. لانهايات ” . الذاكرة هى أيضاً فى مسرحيّات خيال الظل التى تحكى ما حدث بطريقة ساخرة ، وتتجسد بشكل اوضح فى “سلامة ” خادم القصر الذى يتكلّم فتعود الذاكرة ، ويبلع لسانه فيبدأ النسيان ، ومن الأمور الدالة فى الرواية أن يتحول “سلامة ” شاهد المهزلة العبثية ولعبة الكراسى السلطانية الى صاحب “دار السراب ” حيث ذلك المشروب الذى ينقل الإنسان الى عالم آخر ينسى فيه عجزه ومأساته وتعلقه بما لايمكن امتلاكه ، وحيث يتجاور السلطان والحرافيش . فى روايتنا ( مثل كل روايات ناجى ) وجوه متعددة للأشياء وكأننا نُطلّ عليها من خلال مكعب شفاف ( رجال وظلال ، مرآة تُحطّم الوجوه الى أشلاء ، تراب وذهب ، سلطان فوق وسلطان تحت ، أبو النورو العتمة ، ثعالب وأرانب .. سلالم الصعود هى نفسها سلالم الهبوط … إلخ ) ، بل إن السلاطين يبدون كما لو كانواً جسداً واحداً له مائة وجه .
مثل كل روايات “ناجى” ، فإنّ البناء المركّب والمعانى والرموز الكثيفة تقابلها سلاسة مدهشة فى السرد ، هناك استفادة واعية من مصادر شتى وتوظيفها بطريق خلاّقة ومبدعة ، من عالم المقامة لم يأخذ “ناجى” الشكل الكلاسيكى التقليدى الذى يستلزم وجود راو و بطل يصاحبه الراوى فى مغامراته ، ولكنه أخذ مضمون الفكرة ، فالرواى العليم من شهود الحكايات ، والبطل هو “السلطان” مهما تغيّرت اسماؤه ، وهناك أجواء تآمر ونصْب واحتيال وسرقة مثلما يحدث فى المقامات ، ومن عالم “ألف ليلة وليلة ” ستجد هذا البناء الخيالى المتماسك بكل تفاصيله، وستجد أحياناً تقنية السارد الشفاهى للحكاية الشعبية الذى لا يكتفى بالسرد ولكنه يقوم بعمل المؤثر الصوتى لتجسيم الموقف للسامعين ( عو عو .. كوكو .. تك تك تك .. ) ، الرواية تشبه عالم “ألف ليلة وليلة ” أيضا فى أنها تتحدث عن لعبة السلطة والسلطان فى الشرق عموماً ولكن بنكهة مصرية ساخرة تعيدنا الى عصر المماليك حيث الإمتزاج بين الفصيح والعامى ، هناك أيضا استيحاء لفن الموال بالذات فى أغنيات “سلامة ” المعبرة ( يا هل ترى / أبكى اللى راسه على الحديد محمولة / وللا اللى عينيه بالدموع مشغولة ) ، ( يا هل ترى / أنا كنت وللا ماكنت / وقلت وللا ما قلت / يا هل ترى .. ) ، وهناك استيحاء ساخر لأغنيات معاصرة ( سلامتك من الآه ، تقول لأ وأقول لأ وتقول قلوبنا آه .. ) ، واستيحاء للأمثلة والمأثورات الشعبية والألعاب الشعبية ( عسكر وحرامية وحصان للولد وعروسة للبنت .. ) ، وهناك أجزاء للمحاكاة الساخرة تذكّرك بكتب النُحاة وعلماء اللغة فى جدلهم العقيم حول معانى الألفاظ ومدلولاتها ( ومن غرائب لغتنا أن يكون للكلمة المنطوقة معنى غيره وهى مكتوبة وكلاهما فصيح ، فقولك لأحدهم “ياناصح ” مع الغمز بالعين ، فيه من المعانى مالا تقرؤه العين فى الكتابة ) . مزيج فريد لا يتأتى سبكه بهذا الإتقان إلا لأحد “الأسطوات ” الكبار فى فن الحكى وفى صنعة الرواية ، “أسطى” جديرٌ بأجداده رواة وكتّاب “ألف ليلة وليلة ” .
” مقامات عربية ” هجائية بمذاق الرثاء للإنسان الباحث عن السراب والعائش وسط الظلال ، ملهاة بمذاق المأساة عن رحلة تبدأ بالهزار وتنتهى الى الجد ، عن حكيم ولص يتحوّل الى تمثال ورمز ، عن عمود يبكى ويضحك كلما همست فى أذنه الريح ، عن شاهد صامت يبيع السراب للشاربين ، عن قبّة بلا شيخ ، عن قصر تدقّ العناكب فيه أوتاد الحرير ، عن أسئلة تحتار فيها الإجابات ، عن “مالى” و “أنا مالى ” ، عن مرايا تحطّمنا وتدعونا للهلاك والتبدّد ، عن بشر كالظلال وظلال كالبشر تنمحى إذا أضاء الموت مفتاح النور ، عن رئيس الحراس الذى يقتُل سلطانه ليخلّصه من حيرة السؤال .
تضحك وتسعد من السخرية الذكية والتورية العذبة والقافية المصرية البديعة ، ولكن تبقى فى عقلك دوماً أنشودة عاشق لاتُنسى : سلاماً يا دار الإنتظار / سجنُ العاشق فى الزمان / أيامُك أرديةٌ من حجر / ضيّقة الأطواق والأساور ، ويبقى سؤالٌ آخرٌعن احتراق الشمعة : هل هو موتٌ أو حياة ؟
الأرجح انه موتٌ بمذاق الحياة .