إبراهيم عرفات
لا يمر أسبوع إلا وأقطع المسافة بين الحلمية الجديدة والحسين سيراً على الأقدام، إن لم يكن مرتين فلمرة واحدة على أقل تقدير. وما شعرت يوماً بطول المسافة أو بطء الزمن لأن الطريق هو الصديق. مليء بالحركة والنشاط. يؤنسني ويشوقني. يحكي الكثير عن الناس ويسليني بمشاهدهم. ولم يكن ينسى أيضاً أن يكشف لي عن مآسيهم وآلامهم. ما بين الحلمية والحسين دنيا كاملة. شوارع تعج بالحركة وتمتلأ بالأصوات فتنبه الغافل وتوقظ النائم وتدفع السائرين إلى الحذر والانتباه. كان جاري وصديقي “عبد الرحيم تلبانة” يرافقني في بعض الأحيان. وكنت أسبقه في أحيان أخرى لكي أقضي ما أمكنني من وقت في ملاحظة الناس.
وما أمتع ملاحظة الناس وأتعسها. ملاحظتهم ترضي ما في النفس البشرية من نهم للتطفل والفضول. لكنها تكشف بالمثل عما فيها من حماقة وتدني. وبرغم نصائح الصالحين بغض البصر، لم أستطع إلا أن أكون إنساناً. واصلت التطفل ولم أقمع فضولي. ولم أندم يوماً على ذلك. فلم أكن بتطفلي أتلهى بتتبع الحسان أو التضييق على خلق الله، وإنما كنت منشغلاً من خلالهم بالبحث عن سبيل أوسع للخلاص من ثقل العيش. كنت أراقب الناس حتى أعرف من بين كل تلك الآلاف التي أراها من منهم نال السعادة وكيف وصل إليها؟
حافظت على رحلتي الأسبوعية للحسين طوال العشرين سنة الأخيرة دون انقطاع. ولما لا وأنا شاب فاته قطار الزواج فكان أن أنعم الله عليه بقدر لا ينكر من راحة البال وحرية الاختيار وبزاد من الوقت يوجهه كيفما شاء. وهو نفس ما أنعم به على “عبد الرحيم تلبانة”، ابن منطقتي وصديق عمري، وعلى معظم رفاقي الذين كنت ألتقي بهم في ذلك المقهى الصغير الواقع على بعد أمتار من المشهد الحسيني.
اعتدت السير عبر شوارع ضيقة تمتد من بيتنا الواقع بالقرب من قسم الدرب الأحمر إلى أن أصل إلى شارع السروجية ومنه أواصل رحلتي إلى المغربلين فسوق الخيامية ثم منطقة تحت الربع وصولاً إلى باب زويلة، ومنه أعبر إلى المنجدين فالفحامين ثم سوق الأزهر لأعبر جوهر القائد إلى أن أصل إلى غايتي بالقرب من مطعم المشهد الحسيني. كنت أرى خلال الطريق ثم من موقعي في هذا المقهى الدنيا بكل تفاصيلها.
لم يكن انشغالي بالسمر مع أصدقائي يمنعني عن مراقبة عوالم الحسين العجيبة ولا التوقف عند بعض الوجوه الجالسة أو الماضية في كل اتجاه. في الحسين يوقن المرء أنه ليس أكثر من إبرة في كومة قش أو قطرة في محيط. تنسى نفسك كثيراً لشدة الزحام إلى أن تقع عيناك على ما يعيدك للتفكير في نفسك من جديد وفي الهم الأكبر الذي يشغلك. وكنت مثل غيري من الناس أنسى شواغلي وسط الزحام ولا أهتم إلا بتأمين سلامتي وسط أمواج متتالية من الأجساد والرؤوس إلى أن ألوذ بذلك الركن من المقهى الذي يعيدني للتفكير بروية في حالي من جديد.
وكم لفت انتباهي ذلك الرجل الحنطي ربع الجسم المبتسم دائماً الجالس على بعد أمتار قليلة عن باب المقهى. منذ عشر سنوات على الأقل لم آت إلى هنا إلا ورأيته. اعتاد الجلوس على مقعد خشبي صغير بلا مسند يتكئ عليه بظهره. لاحظت أنه يبقى عليه وحيداً بالساعات لا يقطع جلوسه إلا بالوقوف أحياناً ليحمل مقعده عدة أمتار تارةً إلى الأمام وتارةً إلى الخلف في المسافة الواقعة بين مقهانا وباب المسجد. سألت صديقي “عبد الرحيم تلبانة” يوماً عنه فقال إنه لا يعرفه لكنه أوضح أنه يلفت انتباهه تماماً كما يلفت انتباهي.
لاحظت أن الرجل كان يراقب الناس مثلي. لكنه لم يكن يراقبهم عن فضول كما أفعل. فأنا أعرف الفضول ولا تغيب عني علاماته متى ظهرت على وجوه الناس. لم يكن يراقب الناس وهو مندهش أو قلق مثلي، وإنما كان يراقبهم بثقة وثبات وابتسامة أشبه بضحكة منتصر عرف كيف يحقق ما يريد. لم يكن الرجل في ظل متابعتي له واحداً من أصحاب المتاجر ولا واحداً من الباعة الجائلين.
عشر سنوات كما هو لم يتغير. يجلس وحيداً. يبدل موقعه في مسار لا يتغير في نفس المسافة بين المقهى والمسجد. كما كان على عكس كل من حوله، وأنا من بينهم. فكلنا على المقاهي وفي الطرقات لا نتوقف عن الكلام. أما هو فلم يكن يتوقف عن السكوت. كانت الحوانيت حول مقهانا كثيرة ومتلاصقة. وكان صبيان وشبان وقليل من البنات يدفعون عربات حديدية تحمل كل ألوان البضائع، يجرون بها بسرعة إطاعة لأوامر أصحاب المتاجر الذين ينشغلون في عمليات واسعة للبيع والشراء. الكل هنا يبحث عن رزقه وتحقيق أحلامه إن استطاع بعقد صفقة أو بجمع ما تيسر من إكراميات. الكل ينشغل بحديث المال فيما مآذن المساجد وأصوات المرتلين تجاهد لتذكّر أهل المكان بروحانيته محاولةً أن تصحح ما سقط فيه المكان من إيغال في المادية والشهوات.
كنت أتكلم ذات مرة مع صاحب المقهى عن الناس، فقال “متأخذنيش يا سي إبراهيم… الناس زي الفرش اللي شايفه قدامك..كل فرشة بقيمتها. فيه فرشة بمية وفيه فرشة بألف. اللي معاه قرش يسوي قرش. واللي معاه ألف يسوي ألف”. سألته عن ذلك الرجل الربع المبتسم. قال: اسمه “عبد اللطيف المنباوي… ياااااه…دا راجل غريب.” ثم تركني وانصرف. وبالفعل يبدو غريباً. من أين له بتلك السعادة وهذا الاكتفاء بالذات؟ ماذا يعمل إن كان لا يلهو أو يتاجر مثل كل من حوله؟ كيف يكسب رزقه وهو يجلس كل ليلة على نفس المقعد بلا هم إلا متابعة الناس؟ ثم إنه لا يتابعهم كما أتابعهم. أنا أتابعهم وأنا محتار وهو يتابعهم وهو مطمئن. لماذا لا يحمل أوراق بردي يبيعها للسائحين؟ أو يعمل في واحدة من ورش المنتجات النحاسية الشهيرة في المنطقة؟ من هو؟ ما قصته؟
استهواني أمره وأردت أن أعرف عنه أكثر. فهو ليس من الشحاذين الذين يمدون أيديهم للمارة. كما أن مظهره وملبسه محيران لا يدلان على أنه من الفقراء المعدمين ولا من متوسطي الحال أمثالي. فمن يكون؟
سألت “عطوة” صبي القهوة الذي لم يكن يؤخر لي طلب وأنا أجزل له العطاء. قلت له: “تعرف إيه عن عبد اللطيف المنباوي الجدع اللي قاعد هناك دا؟” ضحك “عطوة” وقال “المنباوي دا غلبني قوي مع إنه مش غلباوي.” وأفادني بأنه يسكن بالقرب من الحسين في حي الجمالية وأنه يأتي كل يوم إلى هنا حاملاً معه مقعده الخشبي البسيط ليجلس عليه كل ليلة من بعد صلاة المغرب إلى أن يحمله راجعاً إلى الجمالية بعد الحادية عشرة. رجل وحيد. فقد عائلته في حادث مؤلم قبل أكثر من عشر سنوات، ويعمل في محلات “الهدى” للعطارة بمنتصف شارع الأزهر التي يملكها الحاج “عبد الجليل زهران”.
وزادني “عطوة” من العلم أكثر فقال إنه سأل الحاج “عبد الجليل” في مرة عنه عندما كان يبتاع من عطارته بعض لوازم المقهى. فما كان منه إلا أن امتدحه وأشاد بأمانته. وأضاف “عطوة” أنه رأى بنفسه كيف يعمل “المنباوي” في صمت في محل العطارة وكيف يثق الحاج “عبد الجليل” به، والذي لم يأتمنه فقط بالجلوس على “الكيس” لتحصيل ثمن المبيعات من الزبائن، بل أعطاه نسخة كاملة من مفاتيح المحل. وبينما كانت دكاكين العطارة في المنطقة لا تفتح أبوابها قبل الحادية عشرة ظهراً، كان متجر الهدى يفتح من الثامنة صباحاً بفضل “المنباوي”. وكان يدر للحاج “عبد الجليل” دخلاً معتبراً خلال الساعات الثلاث الأولى من اليوم عندما يقصده المشترون المتعجلون لبدء يومهم ولا يجدون متجراً مشرعةً أبوابه غير متجره.
أبلغني “عطوة” مساء ذلك اليوم بما دار بينه وبين “عبد اللطيف المنباوي” من حديث عرف من خلاله أن الرضا اتخذ من قلب ذاك الرجل سكناً وعنواناً. فقد كان عطوة يشكو له بؤس حاله وأنه يفكر في طلب زيادة من المعلم صاحب المقهى. فلم يرد عليه “عبد اللطيف” إلا بإبداء قناعته ورضاه بالراتب الذي يتقاضاه من الحاج “عبد الجليل” وأنه لم يطلب في حياته زيادةً قط، وقال أنه لا يعرف إن كان الحاج “عبد الجليل” منحه الشهر الماضي مكافأة العيد أم لا لأنه اعتاد أن يوجه الشكر للحاج دون أن يعد أوراق النقد التي يعطيها له.
كان “المنباوي” بجانب عمله على خزينة محل العطارة يساعد العاملين بالمتجر وقت الازدحام، وفور أن يعطيه أحد الزبائن بقشيشاً كان يضعه في صندوق كان هو المبادر بفكرته تاركاً توزيع ما يجمع فيه بين العاملين إلى الحاج “عبد الجليل”. وعرفت من “عطوة” أن “المنباوي” اعتاد على أن يغادر محل العطارة بعد صلاة العصر ليستريح قليلاً قبل أن يظهر في مكانه المفضل بجانب مسجد سيدنا الحسين قبل صلاة المغرب. كان يترك المحل للحاج “عبد الجليل” وأحد مساعديه ليغلقاه ليلاً ليعود هو ليفتحه صباحاً. كان راضياً بقليله مكتفياً بذاته مقلاً في علاقاته بالناس.
من طول ملاحظتي له أدركت أنه يعرف الجميع ويعرفه الجميع لكنه لم يكن يتحدث مع أحد إلا قليلاً. نبهني “عطوة” من كثرة سؤالي له عن “المنباوي” أنه لم يتكلم معه خلال عشر سنوات إلا ثلاث مرات فقط قال له خلالها القليل. ففكرت أن أطلب من “عطوة” أن يجعلها في تلك الليلة المرة الرابعة.
كانت أذناي لا تكف عن استراق السمع لما يدور أحياناً بين “المنباوي” وبعض الباعة الجائلين أو المارة في الحي. ولم تكن أذناي لتخطئ الفارق بينه وبينهم. فمعظم ما يدور بين الناس على المقهى وفي الشارع يكشف عن حاجة الناس للناس واستغلال الناس للناس وتجارة الناس بالناس. فهذا مدين يريد من دائنه فترة سماح يرد من بعدها القرض الذي أخذه فلا يسمح له الدائن بذلك إلا إذا قبل بسداد فائدة إضافية. وذاك يسأل عن واسطة تسهل له نقل عداد الكهرباء بإسمه دون أن يدفع إتاوة لموظفي مصلحة الكهرباء فيقول له أحد المتطوعين سأيسر لك الأمر لكن لا تنسى الحلاوة فهي أقل من الإتاوة. ورجل يفاوض مدرس لغة فرنسية على درس خاص لنجله فيساومه على الثمن برغم تواضع حالة الأب المسكين. ورجل يطلب من أخر أن يدله على محلات تقدم تنزيلات على أسعار ملابس المدارس للأطفال لأن المدارس كسرت ظهره فيشبعه كذباً حتى يأخذه إلى محل يملكه قريب له تخصص في النصب على الزبائن. ولم تكن في حاجة الناس للناس غرابة وإنما الغرابة في استغلالهم لتلك الحاجات. وهو ما بدا أن “المنباوي” يرفضه. فقد لاحظت مراراً بعض أصحاب المحلات وهم يطلبون منه أن يبيع لحسابهم بعض الهدايا التذكارية لزوار المنطقة من الأجانب وكان يرفض. كما عرفت من “عطوة” أن واحداً من تجار الكيف حاول أن يغريه مرات ومرات ليوزع له الحشيش من مكانه في المنطقة.
بدا لي أن “المنباوي” لم يكن منشغلاً بشيء وهو موجود وسط الناس إلا بالابتعاد عن الناس. كان يعيش وسطهم لكنه لم يعش مثلهم. أحسست بأنه يعتبر الحاجة إلى الناس مثل الحاجة إلى المال تذل صاحبها. فالناس ليسوا بالوداعة التي يدعونها، ولا بالحنو الذين يتغنون به. تذكرت ما قاله لي صديقي “عبد الرحيم تلبانة” في مرة عن الناس. قال إنهم مثل الأفاعي جلودهم ناعمة لكنها ليست إلا أكياساً من السم وذكرني بما قرأناه مرة في مسرحية “بلا مخرج” لسارتر الذي اعتبر الناس جهنم الحقيقية. لا يقضون حاجة إلا ليطلبوا مقابلها حاجات، وإن لم يطلبوا شيئاً بعينه نصبوا أنفسهم سادة على من يطلبون العون.
بدا لي أن حاجة “عبد اللطيف المنباوي” إلى الناس من نوع مختلف. طلبت من “عطوة” أن يذهب إليه ليدعوه للجلوس معي. قلت له “أبلغه بأني سأطلب له كرسي معسل على حسابي وكل ما يريده من مشروبات مع عشاءً سمين. وإن سألك عن المقابل فأخبره بإني أريد فقط الكلام معه لأنه يشبه الخالق الناطق أخي الذي فقدته من بضع سنوات وأجد فيه قبساً من روحه”. رد “عطوة” قائلاً “عشمك مش في محله يا سي إبراهيم. عبد اللطيف المنباوي لا يأتي ليجلس هنا وسط كل هؤلاء الناس لأنه يحتاج إليهم وإنما لأنه لا يحتاج إليهم.” قلت له “ما معنى هذا الكلام؟”. رد بأن التجار وأصحاب المقاهي في المنطقة يحبونه لأنه لا يسألهم مساعدة أو إحسان ولا يدخل معهم في صفقة أو يقترض منهم مالاً ولا يقبل حتى بثمن كوب شاي. كانوا قد خشوا منه في البداية ظناً منهم بأنه مخبر مدسوس عليهم، لكنهم بعد أن اطمئنوا إلى جانبه تركوه لأنه بات من معالم المنطقة. وزاد “عطوة” بأن “المنباوي” ليس متسول ولا متطفل ولا حرفوش ولا درويش. “هو راجل عايز من الناس حاجة واحدة”. “إيه هي يا عطوة؟” “عايز يثبت من خلالهم إنه حر.” قلت حر؟. فرد “عطوة” “نعم حر.
قلت “لعطوة” اذهب إليه وادعوه وأخرجت من جيبي عشرة جنيهات لكي أشجعه. لم يتردد “عطوة” بعد أن رأى النقود وهو في أمس الحاجة لكل مليم. تحرك نحوه فبدأت أتابعهما. لم تمض برهة إلا ورأيت “المنباوي” يرفع يده اليمنى في وجه عطوة بإشارة تفيد الاستغناء والاكتفاء. راقبت “عطوة” فوجدته توقف بسرعة عن المحاولة. ظننت أن الجنيهات العشر لم تكفيه. عاد نحوي ليقول “أنا قلت لك مفيش فايدة مع راجل حر ولو عايز العشرة جنيه بتاعتك اتفضل أهي.” ضحكت وقلت له “خلي الفلوس معاك هو في حد بيتعلم ببلاش.”
تركت موقعي وسرت بنفسي نحو “المنباوي.” كان كل من حولي يتكلم في التجارة والاستجداء والمال إلا “المنباوي.” سألته لماذا لم تقبل دعوتي؟ رد لماذا أقبلها وقد جئتني بنفسك لتتأكد من صحة ما قاله لك “عطوة”. ثم قال “لماذا كلفت نفسك وخسرت مالك؟ كنت اسالني بنفسك وكنت سأرفض تماماً مثلما فعلت مع “عطوة.” ظل الناس حولنا يتصايحون صياح العبيد على العبيد. أما “المنباوي” فأراح نفسه مني. أخذ مقعده وابتعد عدة أمتار مواصلاً النظر إلى الناس بابتسامة تدل عن رضاه عن نفسه. ورحت بدوري أنشغل من جديد بتصرفات العبودية التي أوقع الناس أنفسهم فيها. وقبل أن أقفل عائداً إلى الحلمية مررت بالقرب من “المنباوي” فسمعته يتمتم والبشاشة تكسو وجهه “أغنى الناس أغناهم عن الناس.”