مقاطع من “خوف الكـائنـات”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 ياسر الزيّات

أردت أن أجعل من كهفٍ شجرة، فأغمضت عينيّ، وبكيت. تحولت الدموع إلى نهر، وضفادع تتقافز في النهر. وفي العماء، كانت الشمس تصرخ وحيدة وعاجزة. فكرت لو أنني منحتها كرسيا متحركا، ولكنها ستحرقه كالأطفال. على الطريق البعيد، هناك، وقفت التماسيح حائرة ، وضاعت بين الاتجاهات. لم تكن هناك جثث تكفي، فماتت الرائحة، ولم تكن هناك أصوات. والآن، تكبر الشجرة بسلام، وتمنح نفسها للزمن، ليصنع منها كفنين أو ثلاثة أكفان.

***

وضعت خيطا على الطاولة، وسميته “النهر”، وكسرت كأسا، وسميتها الطريق. بيديّ هاتين، وضعت المقعد فوق المقعد فوق المقعد، ليرى النملُ جبلا. نفخت في التراب فكان صباحٌ، وكانت حيواناتٌ ترعى في السهل بين الجبل وظله. العالم كبير كما تراه الكائنات، كبير وقاسٍ، مر ومزدحم بالأمل والنفايات. وهناك أشياء منسية في الخليقة، منسية وزائدة، محجوبة في الثقوب كأنها صخور مفتتة. فكرت في أن أضع صرصارا، ليعطي الطاولة طبيعة الدراما، أو كلبا ليمنح النهر شكلا تراجيديا غائما. قلت لنفسي إن هذا الجنون لا يجب أن ينتهي، فلا جدوى من تركيب عالم بلا جنون. وعلقت الخيط في رقبتي، بكل طيوره المشنوقة، وبكل مائه الذي لا يفكر في النجاة. لا أحد سيطرق الباب، لأنني لم أصنع صوتا، ولا أحد سيشعر بالحريق، لأنني ارتديت النار وحدي، وحدي ارتديت النار لأكون علامة منسية على الطريق.

***

..ورأى البستانيُّ العالم ضيقا، فبكى. ورأي النجّار يديه شجرتين أو كفنين، فحاول أن يصرخ. في كل وجود تضيع القافلة، لأن العشب ينمو بحسن نية، ولأن الريح تفكر دائما في النسيان. خوف الكائنات علامة، ولكن الخوف ابن العماء، ودليله، وهو رايته التي تمشي مع الريح، وترقص، فلا تدركها الأبصار. توقفْ هنا، لأن الزمن يلهث، توقفْ لكي لا تموت الطاولة فجأة كالقط الذي نسيتَه على النافذة.

هل فكرتَ في الحب كوجبة فاسدة؟

***

يا أبي، يا أبي، كنتَ تظنني قمرا، وكنت أضحك، وأطير في السماء كما يليق بقمر صغير. انطفأتُ الليلة، فبكتِ الذئاب في الحقل، وتألمت الوديان من شخير الجبل. أنا جبلك يا أبي، جبلك لا قمرك، ولم أتحرك منذ أن تركتَني على الطاولة وحيدا، وذبتَ.  

***
ركب الشعر قطارًا، وسافر بلا وجهة. تحدث إليه الغرباء: المرائين منهم، والسفلة، وعشاق المغامرات. وعندما نظر من النافذة، رأى الخيال يجري ويختفي، كأنه أشباح تطارد أجسامها. وألهمه التكرار أن يفكر في نفسه كمسافر أبدي، لكن الآخرين كانوا يحرضونه على الكلام. لو قفز من الباب سيتفتت، ويلتحم بإخوته الأشباح. يقول لنفسه: “ربما كانت قصائد هاربة من الغرباء”. لسنوات، كان يلهو بالموت كطفل، وبالحب كمراهق، وبالحرية كعجوز ضل طريقه إلى الحياة. نام كالشحاذين في الشوارع، وبكى كالتائهين في آخر الليل، وعاشر النمل والصراصير والأبواب، على أمل النجاة. يتذكر عندما كان يصارع حمارا وحشيا في قصائد “الهذليين”، ويبكي إذ يتذكر قتلاه. ينام فيوقظه الراكب الغريب، لأن ضوءا قاتلا يخرج من أحلامه. لا نهاية للطريق. وتلك الرؤوس لن تصل أبدا، الرؤوس المحشوة بالأمل والنفايات، الرؤوس المقطوعة، تلك الرؤوس.

***

لن ينجو أحد من غضبة الأشجار، والغابة نفسها عاجزة عن إيقاف الزمن. بلا صوت، بلا حركة، يمضي كل شيء إلى مصيره. الذئاب تفكر في الشعر بوصفه الراعي، والشعر يقفز من قطار إلى قطار، وينزف من رأس إلى رأس. لو أنه بدأ من الموت لأدرك أن الطريق جثة غير قابلة للفناء. ولو بدأ من الحب سينهار كبرج في حكاية قديمة. من حق الشعر أن يخاف من البداية، من حقه أن يختبئ ويراوغ، من حقه أن يموت لينجو. ولكن احذر، احذر أيها الشعر، احذر العاطفة.

***

ستمطر بعد قليل، فلتختبئ الكلمات والمجازات والاستعارات. لا أحد يريد أن يبلل اللغة، ولكن لا أحد يفكر كم هي عطشى، وكم تحن إلى رقصة جديدة تحت غيمة. ليس مهما، ليس مهما أبدا أن تسعد اللغة، فالمهم ألا تفسد، ألا تنمو عليها الطحالب، ألا تأكلها الطيور الجارحة. وعندما ترونها تتحول إلى جدار أو شجرة أو جثة أو حب قديم، فاعلموا أن اللغة خائفة، أنها خائفة وحزينة، وأن هذا ما يجعل الكلمات يتيمة وضائعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر مصري 

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

Project