حسن سلامة
من الممكن اعتبار فيلم الاختيار ليوسف شاهين هو أنضج أعمال المخرج الراحل، ولا يقتصر وصف الفيلم بالناضج لأنه متقن الصنع من ناحية كل من التصوير والكتابة والتمثيل وخلافه، فمسيرة شاهين مليئة بالتجارب متقنة الصنع والحرفية في كل جوانبها، والإبداع لا يقتصر على جودة كل من عناصر الفيلم فقط. إن الميزة الأكبر التي يتحلى بها فيلم بقيمة الاختيار هو تعدد طبقاته؛ فهو يعطي فضاء كبيرا يسمح لأكبر كم ممكن من التأويلات بجانب أبعاد نفسية متعددة لشخصياته والنزعة الوجودية التي تغلب على طبيعته..
ربما أول ما يستحق الإشادة بفيلم الاختيار هو معضلته، فالقضية ليست مجرد قضية قتل عادية كغيرها يقتل فيها الفقير الغني، بل يجعل كل من نجيب محفوظ ويوسف شاهين من القتل غرضا جوهريا أكبر من مجرد سعي للحصول على المال أو السلطة، فالمعضلة هنا هي معضلة حرية؛ افتقاد لها، وكأنها تفاحة آدم التي يتجلى فيها الهلاك..
بالطبع لا يمكن فصل الخلفية السياسية للفيلم عن موضوعه، فالفيلم يتعمق بداخل نفسية الكاتب المثقف والسياسي الكبير وهي بالطبع لا تختلف أبدًا عن السلطة الأبوية الرافضه بدورها لكل أشكال الحرية، فإذا كانت الحرية تتجسد بكرة حمراء يتمتع “سيد” البحار والفنان باللعب بها فمحمود الكاتب والسياسي بأحد أحلامه يحوز عليها ويضعها بداخل خزانة وكأنها كنز لابد أن يخفيه عن الأنظار..
هنا تضح مفارقة ذكرها عالم النفس والإجتماع إيريك فروم في كتابه “الإنسان بين الجوهر والمظهر” عن الفارق بين حب الكينونة وحب التملك.فيعرض بيتيّن من الشعر أحدهما لشاعر إنجليزي والآخر لشاعر ياباني ورد فعل كل منهما عند رؤية وردة جميلة، الشاعر الإنجليزي من فرط إعجابه وحبه للوردة يقطفها نظرًا لرغبته في الاحتفاظ بها أما الشاعر الياباني فيرى الوردة جميلة كما هي في مكانها وعزلتها وهي متوجه وسط غيرها من الورود، فيكمن في ذلك سر جمالها ولحفظ ذلك الجمال فهو يرى أن يحافظ عليها كما هي بدون محاولة حيازتها ويرى فروم أن في ذلك يكمن الحب في أسمى معانيه.. ولا يختلف فعل حيازة الكرة من قبل السياسي عن فعل الشاعر الإنجليزي فحب الحرية عنده ينطوي على حب امتلاك، حب أناني وسلطوي يجهل تمامًا كل معاني الحب فهو يرى أن حيازته للحرية أي عيشه لحياة أخيه ربما تمنحه الهدوء والحرية التي تمناها ولكن ينتهي به الحال بعيدًا كل البعد عن جوهر الحرية..
من الإحالات العبقرية في الفيلم، محاكاة شخصية مدام هورتنس في رواية “زوربا اليوناني” للكاتب نيكوس كازانتيزاكس متجسدة في صفية التي تتغني بالماضي وبالشباب الضائع، إن صفية بدورها مُغيبة عن حاضرها وفي حالة إنكار مستمر له ونتيجة لهذا الإنكار فهي تقع في هَوة نتيجة ذلك الصراع وتنفصل بدورها عن العالم الخارجي فهي ترفض تقبل ذلك الواقع الأليم وبذلك فلا تستطيع مواجهته ولا مفر منه غير الهرب…
وبالرجوع إلى رواية كازانتيزاكس فالرواية تدور حول كل من الكاتب وزوربا، الكاتب الذي يقبع خلف كتبه وكأنها بمثابة السجن له وزوربا الحر المتحرر من كل القيم والقيود وبالطبع فملامح كل من الكاتب وزوربا تتجسد في كل من محمود وسيد ولكن مع معالجة عبقرية للشخصيات فلا يقتصر الأمر على مجرد إعجاب سيد بأخيه محمود..
يأتي التأثر بالفن التشكيلي أيضًا معبرًا عن صراع الشخصيات بداخل الفيلم أهمهم زوجة سيد التي تعاني من التهميش والتشتت دائمًا فتظهر بإحدى اللوحات وهي حزينة، عارية من الخارج كما هي خاوية من الداخل كما تظهر في معظم التكوينات البصرية وكأنها محبوسة خلف القضبان، هو سجنها الذاتي نتيجة اختيارها وأيضًا هي تشارك سيد السجن الكبير الذي يعيشه
يستقي الفيلم من المسرح أيضًا وعُرف عن شاهين تأثره بالمسرح وبهاملت ولا يخفى هنا في تجربة شاهين التأثر المباشر بلعبة هاملت على عمه بعرضه لمسرحية تحاكي حادثة قتل أبيه وعن طريق ردة فعل عمه يتبين الحقيقة، هنا يستعين شاهين بمسرحية كرسي الاعتراف وعميد المسرح العربي يوسف وهبي، وربما الاستعانة بكرسي الاعتراف وتطويعها لخدمة لعبة هاملت هي من المميزات الكبرى للفيلم، فتأتي المسرحية كحل لعقدة الفيلم، حل من خارج عالم الفيلم وليس من الشائع أن يأتي الحل من خارج عالم الفيلم ولكن شاهين هنا يقدمها بحرفية تامة وبالاستعانة بمسرحية تناقش في جوهرها فكرة الواجب الأخلاقي وتنادي بأهمية الاعتراف بالذنب، ويكون كشف اللغز على أيدي يوسف وهبي كما كشف هاملت جرم عمه عن طريق تأديته لمسرحية..
إن الصراع في الفيلم لا يقتصر على مجرد الصراع بين سيد ومحمود فهو صراع يشمل المحقق نفسه الذي يقوم بدوره محمود المليجي فهو يحاول نسيان ماضيه الذي يشعر تجاهه بالعار ويحاول التملص منه ولكن ماضيه يطارده مولدًا صراعًا أخلاقيًا بداخله، زوجة سيد والتي تقوم بدورها الجميلة سعاد حسني تعاني هي أيضًا بدورها نتيجة اختيارها البقاء مع سيد، فهي لا تحبه ولكن طبيعة الحياة وقسوتها تفرض عليها العيش في كنف سيد، حبيبة محمود هي أيضًا وإن كان حبًا غير مكتمل فهي تكن له الوفاء والصدق معجبة كغيرها بحرية محمود، ولذا فشخوص ذلك العالم جميعهم في صراع مابين الوهم والحقيقة وجميعهم في هروب دائم من الحقيقة، يتعاطون مع الوهم بكامل وجدانهم أملًا في النسيان، ربما الوحيد المترفع عن ذلك الصراع هو محمود البحار وربما نبعت حريته تلك من ارتباطه بالبحر، فالبحر بلا نهاية ومن يهواه هو كل مغامر بطبعه فقط، فيهابه كل جبان، متحفظ وعبد لشيء ما..
إن الاختيار هو حالة يعيشها كل شخوص الفيلم فهو لب السؤال الذي طرحه هاملت “أكون أو لا أكون” وهو الاختيار الوحيد الذي يمكن وصفه بأنه حقيقي، جوهري وليس مجرد اختيار مزيف، مباشر، فج وسطحي يترائى لنا في حياتنا اليومية، ولذلك فالطابع الوجودي يهيمن على الفيلم وشخوصه ويبدأ الفيلم بمحاولة الإجابة عن أسئلة تتعلق بالحياة والموت والحب والعدل…
ويكون هدف التجربة هو كشف زيف الإنسان وهشاشة قيمه..
وبالطبع فالفيلم يناقش الخطيئة الأولى في الأرض وهي قتل قابيل لأخيه هابيل بدافع الغيرة، الغيرة من أن قابيل لا يستطيع عيش حياة هابيل، ولكن حتى بعد قتل هابيل هل يجد قابيل صفو العيش؟
ربما ما يعطي الفيلم بعدًا نفسيًا أيضًا هو المرض الذي يعاني منه سيد فهو يصاب بالشيزوفرينيا من فرط إعجابه الكبير بحياة محمود وحريته فيتلطم بين الحقيقة والوهم، بين ما يعيشه وما يريد أن يعيشه وذلك يذكرنا بالتعيس قناوي بفيلم باب الحديد، فالواقع يفرض على قناوي أن يعيش ذليلًا ومشردًا لكن ما يريد قناوي أن يعيشه هو الحياة مع حورية الجنة هنومة، ونتيجة لذلك الصراع يقع قناوي ضحية للصراع بين الوهم والحقيقة لينتهي بالجنون أو بالأحرى ينتهي حاله بأن يراه العالم كمجنون وكما كانت نهاية باب الحديد تكون نهاية الاختيار أيضًا بنفس التكوين وبحوار يتطابق مع الحوار الأخير للسيطرة على عنفوان قناوي:
ـ المركب مستنياك ياحبيبي.. انت مش مصدقني؟ كلنا رايحين، كلنا هنسافر بعيد.. تعالا
=وهنسافر على ايه! على سفينة من خيال؟
-لا يامحمود على مركب بيضة بقلوع بيضة زي الحليب.
=بقلوع بيضة، كبيرة زي السحاب!
– ايوه يامحمود.. في رحلة طويلة، رحلة العمر
لينتهي الفيلم بالأمل، بالحلم، بعالم أفضل وبحياة كما يتمناها الإنسان وليست كما فرضت عليه.