د. نعيمة عبد الجواد
طرح “مارك مانسون” Mark Manson عام 2016 كتاب تطوير الذَّات “The Subtle Art of Not Giving a F*ck: A Communicative Approach to Living a Good Life” والذي تم طرحه بترجمة إلى العربية تحت عنوان “فن اللامبالاة”، بدلًا عنوانه الأصلي: “حرفية فن اللامبالاة: منهاج للتواصل من أجل حياة رغدة”. ومنذ أن طُرِح وحتى الآن، صار بمثابة نبراسًا عالميًا لكيفية التعامل مع المواقف والبشر، بعد ترجمته لعدَّة لغات، ولا يزال يحقق الكتاب أعلى نسبة مبيعات، بالرغم من مرور نحو ثمان سنوات على طرحه. ولربما يعزى السبب، أن الحياة أصبحت تموج بالمصاعب، والتعامل مع البشر أصبح شديد التعقيد، ولذلك أصبح البشر في حاجة لمن يرشدهم. وكان أكبر عامل جذب في الكتاب عنوانه الصادم المكتوب بلغة دارجة لإيضاح أنه عصارة تجارب أفراد من عامة البشر، ولذلك تجربتهم لن تختلف كثيرًا عن الآخرين.
والمدهش في ذاك الأمر أن فكرة ذاك الكتاب عينه تم طرحها في أربعينات القرن الماضي على هيئة الصيغة المتداولة والجاذبة آنذاك، وهي الرِّواية. فلقد طرح الكاتب اليوناني “نيكوس كازانتزاكيس” Nicos Kazantzakis روايته الشهيرة والخالدة “حياة وعصر أليكسيس زورباس” (1946) التي تمت ترجمتها بلغات عدَّة تحت عنوان “زوربا اليوناني”، والتي حقَّقت، ولا تزال تحقق، نجاحًا عظيمًا بين جمهور القرَّاء والنقَّاد من جميع الأجيال. وجديرًا بالذكر أنه عندما تم تحويلها إلى فيلم عام 1964 حققت أيضًا نجاحًا منقطع النظر، بل وأصبحت موسيقى ورقصة ال”سيراتاكي” اليونانية التي ظهرت في الفيلم، تقليدًا وطنيًا مستحدث، وأحد المعالم البارزة المميزة للحضارة اليونانية، مما يعني أن “نيكوس كازانتزاكيس” قد صاغ معْلَمًا حضاريًا في شكل رواية لتعليم فن التعامل مع الحياة.
ويكفي القول أن “نيكوس كازانتزاكيس” نفسه يمكن تصنيفه على أنه فيلسوفًا شعبيًا، فأعماله الأدبية التي كتبها في نهاية حياته على مدار عشرة أعوام، كانت عصارة تجارب شخص يجوب دول العالم المختلفة ويقيم فيها لسنوات ويختلط بشعوبها، والأهم من ذلك أنه عشق الفلسفة التي كانت موضوع رسالة الماجستير وكذلك الدكتوراة التي حصل عليها من جامعة السوربون الفرنسية. بل وأنه قام بترجمة العديد من الأعمال الفلسفية والأدبية التي لها زخم عالمي مثل: “هكذا تحدَّث زارادشت” و”الكوميديا الإلهية” و”الإلياذة” و”الأوديسا” و”أصل الأنواع”، وغيرها من الكتب التي لها ثقل تاريخي وأدبي، والتي أيضًا ساهمت في بلورة رؤيته الفلسفية العميقة إزاء الحياة. ومن الطريف أن “كازانتزاكيس” قد تم ترشيحه لجائزة نوبل تسع مرَّات، وفي المرَّة التي تم ترشيحه فيها أمام الكاتب العبثي “ألبير كامو” Albert Camus الذي فاز بالجائزة بفارق صوت واحد فقط، صرَّح أن “كازانتزاكيس” هو من يستحق الجائزة “مائة مرَّة” أكثر منه.
وتدور أحداث رواية “زوربا اليوناني” في الفترة التالية للحرب العالمية الأولى في جزيرة “كريت” التي كانت حينئذٍ خاضعة لهيمنة الدولة العثمانية، لكن كان يقطنها اليونانيون. وتتميز اليونان وشعبها بأنهم حالة فريدة؛ فدولة اليونان بأفكارها ومعتقداتها لا يمكن احتسابها دولة غربية، لكنها أيضًا ليست بالشرقية؛ فهي وشعبها ذوي طابع خاص، وكأنهم يملكون زمام عالم فريد. وتماشيًا مع ذلك، عمد “كازانتزاكيس تحويل روايته إلى مخطوطة تاريخية لغوية يُسجِّل فيها مصطلحات وأسلوب العوام من الفلَّاحين وسكَّان القرى عند الحديث باللغة الدَّارجة المنطوقة باللغة اليونانية “الديموطيقية”، مما عرَّضه لنقد لاذع من قبل النقَّاد؛ لكون الأدباء بصيغون أعمالهم باللغة اليونانية النقيَّة والتي تسمى “كثاريفوزا”. وكذلك، انتقدوه لأنه الرواية تزخر بالزخرف والصور، لكن دافع عنه الباحثون بتوكيد أنه لم يعمد ذلك؛ لأنه كان يسجِّل لغة العوام، وذاك أسلوبهم الدَّارج.
وبينما كان العالم الغربي غارقًا عقلانيته التي أودت به إلى غياهب التخبُّط بين العبثية والوجودية لتفسير المحن التي أنتجت الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي نجم عنها تشويه الحالة النفسية للأجيال التي شهدت الحروب، أو التالية لها، خرج “كازانتزاكيس” إلى العالم بانتاج أدبي فلسفي النزعة يقدِّم خلطة سحرية لفن التعامل مع الحياة. وتعد رواية “كازانتزاكيس” بمثابة تجلِّي فلسفي نفسي في أنقى صوره، وبالمفهوم الحديث، كتاب راقي لتطوير الذَّات ركائزه فن التعامل مع الواقع. ومن خلال شخصية “زوربا”، استطاع “كازانتزاكيس” أن يجعله بوقًا تعليميًا ومثال حي “لفن اللامبالاة”. ومن أقوال زوربا الحكيمة لتعليم فن المبالاة؛ بغرض بلوغ السعادة:
“السعادة الحقيقية: ألا يكون لديك طموح، وأن تعمل كالحصان كما لو كان لديك كل الطموح. أن تعيش بعيدًا عن البشر، ولا تحتاج إليهم ومع ذلك تحبهم. أن تعلوك النجوم، وتحدك الأرض عن اليسار، ويتواجد البحر يمينك، وأن تدرك فجأة أن الحياة في فؤادك قد أنجزت معجزتها الأخيرة: أنها قد تحوَّلت إلى قصة خيالية.”
أي أنه يجب أن يعيش الإنسان اللحظة، ويبذل كامل جهده؛ بالرغم من علمه أن الحياة زائلة ،ولن يبقى منها إلَّا ذكرى اللحظة التي يحياها.
وأحداث الرواية هي لقاء “زوربا” العاطفي الفوضوي بذاك الرجل الإنجليزي الغربي العقلاني الذي لم يمنحه “كازانتزاكيس” اسمًا بالرغم من أنه يقاسم “زوربا” البطولة، لكنه اكتفى بمنحه لقب “القارئ”، وكان “زوربا” يناديه ب”رب العمل”. ويمكن تفسير هذا اللقاء على المستوى الرمزي بأنه حوار داخل العقل البشري يمثل صراع العقل مع العاطفة، وأيهما لسوف تكون له الغلبة؛ فإن اتبع الإنسان عاطفته لسوف يشعر بسعادة تشقيه، وكذلك في حال اتباع العقلانية لسوف يحرم نفسه من الاستمتاع بالحياة، وتصبح الكآبة مآله. لكن “زوربا” بفطرته السليمة الحصيفة نصح “رب العمل” بأن “الحرِّية” هي الطريق للسعادة، ولن يستطيع الإنسان أن يحصل على الحرِّية بالمال، ولكن بالقليل من “الجنون”، والجنون هنا يُقصد به اتباع العاطفة.
وبالرغم من أن “زوربا” كان فقيرًا، وجاوز مرحلة الشباب، حيث أنه كان في الخامسة والستين من عمره، لكنه كان يجعل من كل لحظة يعيشها مغامرة فريدة، ويحيا كمثال يطمح له الآخرين، وكأنه أحد آلهة الإغريق. وعندما كان يعجز لسانه عن الحديث أو وصف ما يدور في خلده، كان يجنح لرقص “السيرتاكي” ممنيًا نفسه بأن تُصرِّح عاطفته وحركاته الرَّاقصة بما عجز لسانه نطقه؛ فلقد أحب بالفعل “رب العمل” واعتبره صديقًا مقرَّبًا له، وجعل نفس ذاك الشعور بالصداقة يتغلغل إلى قلب صديقه العقلاني عن طريق الرقص، واتباع العاطفة؛ فقليل من الحماقة يفيد، أو كما قال زوربا”: “لكل إنسان حماقاته ، لكن، في رأيي، الحماقة الكبرى هي ألا يكون للإنسان حماقات”.
لقد كانت حياة “زوربا” إلى حد بعيد أشبه بحياة “نيكوس كازانتزاكيس” نفسه الذي رفض أن يقيِّد أحدهم روحه أو آرائه التي كانت مثيرة للجدل، ولم يحبطه أبدًا عدم حصوله على جائزة نوبل بالرغم من ترشُّحه لها لتسع مرَّات أو آراء النقَّاد اللاذعة أو آراء الحاقدين، لكنه اكتفى بأن يعمل بإخلاص ليشعر بالسعادة الدَّاخلية، وهذا ما حفر اسمه في الأدب اليوناني كأعظم كاتب، وكذلك جعل دول كثيرة تشهد بعظمته، وخلود فلسفته البسيطة العميقة. فلقد اتَّبع عاطفته بعقلانية متَّزنة واستطاع أن يبلغ الحرِّية المنشودة. وعندما توفَّى في مدينة “هيراكليون” بجزيرة كريت، كُتِب على قبره، بناء على توصية منه: “لا أتمنى شئ، ولا أهاب شئ، أنا حُرّ”.