بمرور الوقت تولّد لديّ الشغف انتظارًا لتلك اللحظة التي سيضعني فيها رشيد أمامه ويشرع في الكتابة، بالأحرى في استكمالي. ترقبٌ وفضول لمعرفة ما سوف أتطور إليه حتى أصل إلى اللحظة التي أدرك فيها جوهر فكرتي، حتى لو سبق ذلك اكتمالي. فضول التطلع للمستقبل، الذي يشبه الرغبة البشرية الحارقة في التنبؤ به عبر قراءة الحظ أو تنبؤات العرافين.
لكني أدركت مع الوقت أن المرحلة المهمة في تطوري تبدأ مع ادراكي للفكرة التي يريد رشيد أن يؤسسني بمقتضاها. ففي هذه اللحظة تتولد لديّ قدرة جديدة تتمثل في دخولي طرفاً في لعبة تطوري. أعتقد أن بلوغ الرواية مرحلة سطوع فكرتها، حتى لو كانت مُضمرة هي لحظة نضجها.
نعم حينما توصلت للمعنى الذي أمتلكه كفكرة، أحسست أنني تجاوزت مرحلة الطفولة والمراهقة إلى النضج، وهنا اكتشفت قدرتي على الإسهام في مسار تطوري، والإيحاء لخلاقي بأفكار قد تختلف عمّا يكون قد خطط له. وعندما فطنت إلى ذلك شعرت بنشوة مضاعفة. فقد بات لي دورٌ في تطوري واكتمالي. أحسست بأن لي إرادة، وأنني لست مجرد مخلوقًا لا يملك من أمره خيارًا.
رشيد انتبه لذلك بدهشة. وحالما تبيّن هذه العلاقة الغريبة نشأت لديّ عاطفة مختلفة تجاهه. أظنّها رد فعل للمشاعر الجديدة التي تولدت لديه ناحيتي. كان في البداية يتعامل معي كطفلٍ وليد، يكنّ لي محبّة، لكنه لا يوليني الاهتمام الذي قد يوليه لأحد أنداده، لكن منذ مررت بمرحلة النضج، التي أدرك معها قدرتي على تغيير خططه والمسارات التي كان قد خطّطها لي سلفًا أحسست أن حبّه لي كنص، تعدى مرحلة الإعجاب بكائن تابع لهواه الشخصي ولأفكاره إلى غرام بكائن له خصوصية تنبع من ذاته.
أصبحتُ صوتًا يستطيع أن يوّلد أفكارًا لم تكن واردة على ذهنه. تولّدت بيننا علاقة جديدة. لعلها محبة عميقة كتلك التي تنشأ بين مختلقي الأفكار، لا مصالح ضيّقة تحدد علاقاتهم ببعضهم البعض، لا فذلكة أو ادعاء، لا غيرة أو أنانية، لا غرور أو حقد. بل تبادل حقيقي لمشاعر الإلهام والامتنان.
هكذا فكرت كيف تكون العلاقة الحقيقية بين خالق ومختلق. وكيف أن فكرة التقديس من اتجاه واحد هي فكرة ديكتاتورية، لا تتضمن الحوار والفكر المتبادل في حالتي مع رشيد الجوهري. بالتأكيد هناك اختلاف ما في النهاية بين تخلقي كفكرة وبين تخلق كائن ما.
على أي حال؛ فما عرفته عن سيرة رشيد جاء في فترة مرّ خلالها بعلاقة عاطفية مع سلمى، وهي امرأة دخلت حياته بالصدفة وجعلته يقع في غرامها، ومما كان يحكيه لها استطعت أن أكوّن فكرة مفصلّة عن حياته. حسنا، يجب علي أن أتوخى الدقة وأقول لكم أن رشيد تحدث لنفسه كما أوضحت سابقا، مسجلا بصوته ما بدا كأنها رسائل مطولة إلى سلمى. رسائل لم تصل. لكنها كانت بوحه إليها، واستعادته لها، ومحاولاته المستمرة للبحث عن أو فهم ذاته.
كان يتعامل مع تلك المرأة بنوع من النديّة، لأنها أوضحت له من البداية أنها ليست غيورة. لا تتعامل مع الحياة كامرأة- قالت- بل كإنسان، وحرصت أن تقول له بنبرة صوتها الهادئة أنها لا تمتلك أفكاراً ضحلة عن الحب.
استفسر منها عما تعنيه فقالت أن البشر يتوارثون أوهاما عن مفهوم الحب ويأخذونها كمسلمات مثلما يرثون قناعاتهم الدينية، من دون أن يُخضعوها للاختبار، وحين يمارسون ما يظنونه حبا، يكشفون عن بعض من أكثر الصفات البشرية دناءة؛ الغيرة، الأنانية، الاستئثار، التملك، السيطرة. فهمها للمعنى العميق للحب يعود الفضل فيه الى فترة من حياتها قضتها وهي تتنقل بين مدن وغابات عدد من دول شرق آسيا، ترددت خلالها على المعابد البوذية فأدركت قيمة السلام الروحي العميق.
وليتحقق من مدى صدقها راح يحكي لها بعض شذرات من حياته، أغلبها عن علاقات نسائية، عن مرأة تعلق بها عاطفيا أكثر من غيرها، ومرة أخرى عن واحدة ممن كان يتردد عليهن فقط ليمارس الجنس، محاولاً أن يبدو محايدًا وطبيعيًا جدًا وهو يحكي لها كيف أنه مارس مع تلك المرأة الجنس بشكل لم يعرفه مع غيرها، ثم أورد تفاصيل عن بعض العشيقات مّمن عبرن في حياته. القى بالطُعم اللفظي على يقين أنها، مثل أي امرأة، سوف تخزّن هذه الحكايات في ذاكرتها، ثم تستخدمها في مواقف من علاقتهما المستقبلية على نحو أو آخر.
لكنها خيّبت ظنه. كانت امرأة حنونًا واثقة في ذاتها، وناضجة بشكل حقيقي. وسوف أحكي لكم عنها في حينه، لكن المهم الآن أن ما حكاه لها عن حياته كوَّن لي فكرة كاملة عن سيرته. مع ذلك فلست متأكدة من تفاصيل ما تسبب في اختفائه على هذا النحو، أو اختطافه كما فهمت الآن من حوارات قاسم مع القبطان.
لفترة طويلة تولّد لديّ الإحساس بأن البطل في النّص الذي اختُلقت بفضله، يعبّر عن شخصية رشيد على نحوٍ ما. لكنّي حين استعيد حكاياته تلك التي حكاها لسلمى يتبين لي أن هناك الكثير من الاختلافات بين شخصيته وشخصية بطل الرواية.
في الرواية يمر البطل، المدعو كيان، بفترة نضج اكتشف فيها أنه كان ينفذ رغبات الآخرين، وحينما اكتشف أن رغبته الحقيقية لا تنسجم مع أفكار المتكتم وجماعته، انقلب عليهم، وبحث عن تحققه في المدينة السرية. أما رشيد فمنذ صغره يعرف تمامًا ما يريد، وظلت دوائر حياته تدور تحت سماء هذه الرغبة، حتى لو كانت الظروف أحيانًا تدفعه ليخرج عن المسار بدافع الفضول أو الاكتشاف. أو على الأقل فهذا ما كنت أتصور أنني أفهمه عن شخصيته، حتى أوضحت له مسارات حياته في ألمانيا أشياء مختلفة ليس فقط عن العالم بل وأساسا عن نفسه. رغم ذلك فقد ظل يعاند ذاته، لا يريد أن يصدقها حتى أكدتها له يوديت متهمة إياه بأنه فقد البوصلة التي يتصور أنه بها يعرف ما يريد حقا.
لكن ما الذي يمكن أن يكون تورط فيه وأدّى إلى اختطافه؟
حينما أمسكت بي يد قاسم أحسستُ بالأمان، شعرت أنني سأفهم كل شيء على يد قاسم. لكن متى؟ لم أعرف ما الذي كان يشغل ذهنه في تلك اللحظة، لكنه توقف وأحسست أنه بدأ ينصت لصوتي ويقرأني:
“لا شك أنني شعرت باختلاف كبير بين مشاعري عندما اهتديت إلى المدينة السرية أول مرة مقارنة بالمرّة الأولى التي وصلتُ فيها الى مدينة الأنفاق. كان وصولي الأنفاق قد بدأ وفق خطة وضعها لي كبير النساخين بعد أن عرف أن رجال المتكتم بدأوا بحثهم عني، وخصوصا بعد تعرضي للاعتداء على أيديهم. ومن حسن حظي أن مرّ عددٌ من النسّاخين في تلك الليلة وأنقذوني من بين أيديهم، ودارت معركة بالعصي والجنازير والسكاكين والسِنَج. ولولا لطف الله لكنت..
كنت ممسكاً بنسخة من ترجمة عربية لكتاب “آيات شيطانية” لسلمان رشدي، في يدي، وحيث كلفت بنسخ الكتاب بأسرع وقت ممكن، حين قرر البعض منا ممارسة النسخ سرًا في مدينة الظلام. التقيت بوسيط الكاتب الشبح في شارع مظلم لا يرتاده المارة لوقوعه في منطقة خالية من المنتزهات أو المحلات التجارية وتسلمت منه الكتاب، وسار كل منا في طريق. لكن يبدو أن رجال المتكتم كانوا يتتبعوني؛ إذ فور أن غادرني الوسيط فوجئت بمجموعة لا تقل عن عشرة أشخاص، يمسك كل منهم بآلة حادة مما ذكرت.
قبل أن أنطق بشيء وجدت أحدهم، وكان يرتدي جلبابًا أبيض، على عادة أتباع المتكتم بعد أن شدّد قبضته على البلاد والعباد، ويتشح بوشاح أبيض، كاشفا عن وجهه الملتحي غليظ الملامح، وقد جزّ شاربه مبقيًا مساحة خضراء تعلو شفته المتشققة. اندفع نحوي ونزع الكتاب من يدي، فتركته له بدافع غريزي خوفًا من أن يتمزق في أثناء تشبثنا به. تأمل الغلاف وقرأ العنوان فانتفض وقد تقلصت ملامح وجهه فزعا كمن أمسك بحية تسعى، ثم ألقى بالكتاب بعيداً بقرف، ورفع عصاه قائلا:
“يعني كمان مش كفاية اللي عملته ورايح تقرا كتاب لملحد وكافر زي دا يا خنزير يا عدو الله؟!”. ثم هوى بالعصا فوق رأسي، لكني انتحيت جانبًا فوقعت عصاه على كتفي مسببة لي آلاما لا تطاق. انكبوا عليَّ معا. تماسكتُ لكسب أي قدر من المكاسب مهما كان ضئيلاً. صمّمت أن أحتفظ بأي انتصار بسيط. لكمة مباغتة، أو رفسة في مكان خطر من جسد هؤلاء الحيوانات. حاولت التركيز وأنا أسدد لكمة قوية لأول من اقترب مني، وكان شابًا رشيقًا خفيف الحركة عرف كيف يتفاداني، وأعقبه آخر اقترب مني بلون من الاستهزاء والاستهانة، ما أثار كبريائي وحنقي، فكوّمت كل غضبي في لكمة باغتّه بها بعد أن دفعت بنفسي باتجاهه مثل فهد، وفوجئت به يتلقاها بألم ثم يهوي ساقطًا.
كانت هذه اللكمة بداية النهاية، فقد تكالبوا عليَّ وهم يسبّونني وينعتوني بأوسخ الصفات. ولم ينجح شيئ من ذلك من تبديد شعوري بالنشوة من فرط قوة اللكمة الوحيدة التي سددتها لذلك الساقط. لكنني بسبب ما تعرضت له من ضرب فقدت الإحساس بالألم تقريبًا، وقبل أن يغشى عليَّ سمعت صوت جلبة وخطوات أقدام تركض قريبًا منا، وفجأة وجدتهم جميعا ينفضّون من حولي، ولكني سقطت على الأرض. كنت أسمع كل شيء، لكن لا أستطيع أن أنهض أو أتحرك أو أفتح عيني. كنت أشعر بآلام في أنحاء جسدي. وبدأ وعيي بما يحدث حولي يخفت فيما راودني إحساس بدوار وثقل في رأسي الذي تهاوت عليه ضربات مبرحة عديدة.
في الليلة التالية قررت الانتقال إلى المدينة السريّة، بمساعدة مجموعة من الأصدقاء، الذين أنقذوني من بين أيدي أتباع المتكتم. تنكرت مخفيا ملامح وجهي، وكذلك لآثار الضرب التي تحولت إلى هالتين زرقاوتين حول وجهي تمنحني مظهر العفاريت. كنت أريد أن التقط انفاسي وأقضي بعض الوقت قبل الذهاب الى مدينة الأنفاق لكي أتعافى قليلا من آثار الضرب المبرح، وأيضا لأحصل على هدنة حتى نتيقن من أن أحداً لن يتبعنا إلى المدينة السفلية. وهكذا انتظرت أسبوعاً تنقلتُ خلاله بين بيت طارق، أحد أصدقائي المقربين ودليلي إلى المدينة السفلية، ومنها إلى بيت سعيد خاطر، أحد أبرز المنسقين بين المتكتم والنساخين.
وحينما أعطانا مساعد كبير النساخين الإشارة اصطحبني طارق إلى أحد ممرات مترو الأنفاق. وانتظرنا حتى غفل عنا الجمهور، ثم قفزنا إلى مسار عربات المترو؛ ملاصقين لأحد الجدارين اللذين يحددان مسار العربات، وركضنا بسرعة في طريق المترو، ولحسن الحظ كان النفق مضيئًا بمصابيح شاحبة، ولم تكن تهمنا كثيراً إلا فيما أتاحته لنا من الركض بأقصى سرعة. وكان عليَّ أن أقاوم إحساسي بالألم، الذي كان يمزق عضلات جسدي بسبب الضرب الذي تلقيته في الأسبوع السابق، ولا زلت أعاني من آثاره.
وعند بقعة معينة كانت بها ما يشبه لافتة لسائقي المترو مستندة على جدار مصمت توقفنا. شرع طارق يتفقد الجدار المتاخم، ثم أوضح أن هناك مدخلاً للهوّايات التي تقوم بتهوية الأنفاق، بجوارها باب سيقودنا إلى أحد المخارج، وبالفعل بعد دقائق كنا نسير في ممر ضيّق معتم ورطب، بينما كاد ضجيج ماكينات التهوية الضخمة يصيبنا بالصمم، لكننا كلّما توغلنا قُدُما قلَّت درجة الضجيج.
فجأة وجدتُ نفقًا يتخذ شكلاً اسطوانيًا، شديد الاتساع مثل ممرات المترو تحت الأرض، لا يحوي قضبانا حديدية مثل الموجودة في أنفاق المترو. كان المكان مُظلما، وصوت الهدير بدا مكتومًا، لكنه ظلّ يلحقنا. ومن بعيد لاح لنا ضوء ضعيف في نهاية النفق، كأنه يفضي إلى لوحة معتمة بالأسود تنعكس عليها إضاءة فضية شاحبة تتوهج بدرجة من الأزرق.
عندما خرجنا من النفق أحسست أنني ولجتُ عالمًا خياليًا تمامًا، كأنني في حلم، أو رحلة خارج الزمن. وجدتُ عربتي مترو قديمتين وخاليتين متجاورتين، معتمتين وأبوابهما مغلقة.
قال لي طارق أن أمسيات الشعراء الأولى التي كان الشعراء الهاربون إلى المدينة السريّة يقيمونها اتخذت من تلك العربات مقرات لها، لكن كبير النساخين طالب أنصاره بنقل العربات إلى أماكن أكثر سرية.
سمعت صوتًا منتظمًا سرعان ما اكتشفت أنه زخّات مياه تتسرب من مكان ما، وتسقط متتابعة على الأرض المبلّطة بالإسمنت.
سرنا في النفق تحيط بنا جدرانه الرمادية المصقولة، وأشعة الضوء الفضية التي لا يعرف أحد مصدرها. واقترحت على طارق أن نكتفي بذلك، وأن نبيت في إحدى عربات المترو، فابتسم قائلا “لا تكن متعجلاً”. بعد عشرة أمتار أخرى وجدنا صخرة ضخمة تبدو نائمة على الجدار، طلب مني طارق أن أساعده في إزاحتها قليلاً. فعلت بجهد جهيد، فانفتح لنا من خلفها نفق ثالث، بدا ضيّقًا، منخفضًا ومعتمًا. أخرج طارق من جيب بنطلونه الخلفي كشّافًا ضوئيًا وطلب مني أن أتبعه.
انحنى بجسده قبل أن يحبو على ركبتيه ففعلت مثله. كان النفق أشبه بخندق بلا تهوية، شديد الرطوبة، محفورا بين كتل حجرية بحيث يشق طريقا ضيقة لا تسمح بمرور أكثر من شخص واحد منكفئًا على وجهه. أصابني ذلك بنوع من الاختناق، لكن وجود طارق معي جعلني أصمت وأصبر منتظراً نهاية النفق في تحفز”.