مساءات الجامعة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مصطفى النفيسي

1ـ المساءات المغتمة.

المساءات الممطرة تلك. أكاد أقول المساءات المملة والمغتمة وليقع مايقع.

المساءات الممطرة تلك حيث التقينا في تلك الزاوية المضيئة إلى حد أن أي من اللصوص المتذاكين لن يقترب منها، بل لن يفكر في الاقتراب حتى.

لم تنظر إليها طويلا ،ولم تنظر إليك طويلا.

أتراجع الآن وأقول أنها مساءات ربما لم تكن مغتمة أبدا، أو على الأقل ليست إلى الحد الذي يجعلنا نقول عنها بأنها مملة.المساءات نفسها حيث تكررت لقاءاتنا .

هي كانت تحمل دوما محفظة سوداء، وأنت أيضا تحمل محفظة سوداء.

أنت كنت تذهب إلى مقهى “لاجافانيز” وهي تذهب إلى المجهول.

أنت كنت تحرص على أن يحضر لك النادل قهوة متخمة بالحليب وهي تبدو أنها لا تحتمل المقاهي لأن شكلها كان يتخيل لك أنه صارم أكثر مما يجب.

المساءات المملة تلك حيث سيارات الأجرة تصبح كعملات بيزنطية منقرضة، فتضطر للانحشار وسط جيوش من الناس بمناكب عريضة لا قبل لك بمجاراتها، حتى أنهم يبدون وكأنهم كانوا يرتادون أندية بناء الأجسام للاستعداد لمواقف كهذه: الصعود إلى الأتوبيسات ،تأدية فواتير الماء والكهرباء، الظفر بتأشيرة الدخول إلى بلد أوروبي. كنت تصل إلى تلك الزاوية منهكا، زائغ النظرات، خائر الساقين، حذاؤك تعرض للرفس أكثر من مرة .وفجأة تطل عليك تحمل محفظتها السوداء.

قلت لها بعد مساءات مغتمة كثيرة: لم أرك من قبل. قالت لك هي الأخرى: لم أرك من قبل.

دار بينكما حديث طويل فهمت منه أنها تذهب إلى الجامعة ،وأن ملامحها الصارمة هي مجرد خدعة كي تكن حداثية، أو قل هي مجرد قناع ترتديه حينما تخرج من المنزل ذاهبة لتلحق بمحاضرة جامعية.

تذكرت أنك أيام الجامعة كنت تدخل إلى المدرج ،وتظل تطرق أزقة كثيرة وشوارع خالية، وأنت جامد في مكانك تتحسس جيوبك أكثر من مرة لأن المحاضرة كانت مملة دائما .

 

2ـ أنت تغير مقهىla javanaise”  بمقصف الجامعة.

لم نعد نلتقي في تلك الزاوية.أصبحنا نلتق في مقصف الجامعة.

لم تعد الجامعة كما اعتدت عليها .اختفى”با الجيلالي” و طعم الشاي الأخضر بالنعناع افتقد تلك النكهة المحببة للطلبة المتعبين ،بل الجائعين الذين يستعينون بسكرياته لقهر الجوع.اختفت الكراسي القديمة وتخلى المكان عن هدوئه.أصبح رنين الهواتف النقالة لا يتوقف،والطلبة أصبحوا بائسين(هل يصح أن أضيف نقطة للباء ليصبحوا يائسين؟)،وجوههم كالحة كجدران منازل قروية في الجنوب.

قلت:انه اليأس .الضيف الطارئ قبل أن يهل منتصف العمر.خارطة جديدة لسيكولوجيا مأزومة،معول لهدم قصور الطفولة،اليأس الأشبه بطرق مدهونة بالصابون تدفع بالمنزلقين إلى قاع الهاوية،اليأس الأقرب إلى تماسيح سادية تلتهم اللحوم الغضة لأجساد أبلتها شموس الانتظار والترقب،اليأس كعفريت ينبعث من انحناءة شارع يغلب عليه الكسل والخمول.

قالت لك:ألم يجدر بك أن تنتظر؟

قالت لك أيضا:الانتظار أفيد..

قالت فيما بعد:بالنسبة لي أفضل الانتظار.

كررت مرة أخرى:الانتظار هو كل ما لدي.

فأجبتها:كنت دوما أنتظر .أفنيت عمري في الانتظار،ولم يعد بوسعي الانتظار أكثر.

كان أريج عطرها يطغى على أحاديثكما.كنت تبدو كشخص شارد في غابة كبيرة،أو كطفل مشدوه أفلت عصفورا من يده.

كانت المساءات هي الأنسب بالنسبة إليك.كنت تستلذ بالظلام وهو يقترب من الشجيرات التي تظلل بعض جنبات المقصف.كلما زحف الظلام أكثر كانت جداول الكلام تسيل أكثر وأنت تغوص في لجة البوح،تجدف بأياديك وأنت تشرح أكثر من موقف،وهي تكتفي بإيماءات رأسها،وفي أحايين أخرى كانت تشرد هي الأخرى.

الرياح تهب سلسة وأنت تتكلم.

الرياح تهب بقوة وهي تتكلم.

تتوقف الرياح وأنتما لازلتما تتكلمان.

يأتي طلبة ويذهب آخرون وأنتم تتكلمان.

يذهب هؤلاء ويأتي آخرون وأنتما تتكلمان.

يأتي آخرون ولا يذهب آخرون وأنتما تتكلمان.

أيتها الذات المشتتة كغيوم صغيرة في سماء مايو الأرعن تتفرج على الطرقات المتخمة بالزفت والتشققات.يا ذاتي المقرفصة في أسفل سلالم منازل مقفرة.متى تأتي الحمائم لينقذك هديلها من غرقك وسط بحور هائجة مليئة بذوات أشخاص آخرين مثلي؟

تحدق في الضيعات البعيدة المحاطة بأشجار العرعار والصفصاف،تتجول داخلها فرسان غير مروضة،وفراشات بألوان مختلفة،وأناس يعزفون على آلات موسيقية قديمة،ألحانا شبيهة بتأوهات المحمومين.هناك في الأفق البعيد أرى أبي وقد تجرد من عباءته و انخرط في الجهر بأحلامه القديمة أو استعراضه لقصائد المعري،وأمي تصلي من أجلي،وأطفال يتعلمون تهجئة أسماء الأشجار والورود،كلهم أراهم .يا ذاتي المتلفة كنباتات مجتثة من بساتين مسيجة ومتروكة تحت شمس مايو السادي.متى ستنفتح الأخاديد في جدار الصمت الذي يفصلني عن حياتي؟

قالت لي:هل أنت هكذا دوما؟

كانت التماسيح تنهش ملامح وجهي ،تماسيح تعوزها الدموع والقسوة اللازمة لالتهام كامل وحقيقي،لذلك تحولني إلى قطع كبيرة سيئة التقطيع ،وتنتقل إلى نهش ملامح أشخاص آخرين يشبهونني.هي مجرد تماسيح غبية،بدون شأن،وبدون تاريخ بطولي.

قلت لها :كنت هكذا دوما،ولا أزال

وفاجأتها حينما قلت لها أيضا:أنا لن أتغير أبدا .لن أكون على المقاس أبدا.أنا مجرد ورقة خريف تحاملت عليها الرياح .ورقة توت ربما وربما لا.أنظر إلى الهوة العميقة في الأسفل حيث البيادق والقطط الأليفة فلا تواتيني شهوة السقوط.لا تواتيني هاته الشهوة أبدا.سأظل أحلق كورقة شجرة توت أتعبها حر الصيف وتحاملت عليها رياح الخريف.

أصبح وجهها ككرة ممزقة تخلى عنها أطفال نزقون،وأطلقت كركرة مزيفة تشبه كأكأة دجاحة أغاضها ديك عنيد،ثم انتهى كل شيء.كان كل الطلبة قد تفرقوا الآن.

انتهت لقاءات المساءات المغتمة وجلسات المقصف الجامعي.

افترقتما لأن أيام الجامعة انتهت بسرعة.

افترقتما دون أن تتبادلا أية كلمات وداع حقيقية.

انتهت مني وانتهيت منها.

ــــــــــــــــــــــــ

*قاص من المغرب

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال