حينما عرض عليها ارتداء أحد قمصانه بدلا من بلوزتها المقطوعة من الظهر، وافقت على الفور عكس ما كان يتوقع ، فكر في سؤالها عما ستقوله عند عودتها إلى البيت، لكنه ابتعد عن الأسئلة التي تستحضر رقابة أسرتها، واقترح عليها إدخال طرف القميص في البنطلون. لم تهتم وظلت تنظر في أنحاء الغرفة. كلامها قليل منذ أن فاجأته بقدومها.
ـ معلش الأوضة مش متوضبه.
حينما أراد أن يعطيها البلوزة بعد وضعها في كيس، أجابته :
ـ بعدين
ـ ليه؟
خرجت منه الكلمة تلقائيا. شعر بأن وقعها سيكون سيئا على رنا، وقد تفهم أنه يريد تنظيف المكان من كل آثار لقائهما. لم تجب على سؤاله وانشغلت بارتداء القميص.
أسئلة كثيرة قرر تأجيلها، خاصة أنها المرة الأولى التي لا تتحمل سوى سرعة التواطؤ وعدم التوقف عند المقدمات. كتب رقم تليفونها وسألها عن أنسب أوقات الاتصال بها
ـ أي وقت
وأعطته تليفون صديقتها ناهد للطوارئ وإذا لم يجدها في البيت. أحس بإنها تريد إبلاغه برقم آخر لكنها لوّحت له بيدها وخرجت من غرفته. أومأت برأسها لأمه حينما وجدتها في الصالة وفتحت باب الشقة وأغلقته وراءها. سألته أمه
ـ مين اللي خرج
ـ رنا
ـ خرجت بسرعة أوي
سأل أمه بعد ذلك هل رأتها فعلا، سرحت قليلا وأكدت أنها لم تنتبه إلا مع فتح الباب وإغلاقه.
وهي تخرج من غرفته توقع تعثرها في السجادة أو اصطدامها بالكرسي المجاور للباب أو احتباس صوتها وهي تودع أمه، لكنها عبرت الصالة وخرجت بهدوء ساكني البيت ومعرفتهم بكل شيء فيه. قرر في زيارة رنا التالية أن يفرض إيقاعه أكثر، ولا يؤجل أي سؤال يخطر في باله: لماذا اختارته، كيف عرفت أنه في البيت كما قالت، ماذا قالت لأمها عندما عادت بقميصه، كيف لم تقلق من وجود أمه وتعاملت معه على أنه أمر طبيعي. وسيظل السؤال الذي قد يقوله وهو يضحك ليخفف من حدته: لماذا لا تخاف ولا تقلق من أي شيء؟ وقد لا يحتاج إلى سؤالها، وستشرح له كل شيء بعد أن يمتد بينهما الكلام. وماذا سيفعل لو راحت تخلع ملابسها بسرعة كما فعلت في المرة الأولى، هل سيمنعها ويطلب منها الانتظار، طلب مثل هذا سيفقده زمام المبادرة ويظهره بأنه يحاول اللحاق بها. الحل الأفضل أن يكون لقاؤهما القادم في شقة صديقه أحمد، إيقاع رنا السريع يحتاج إلى مكان آمن لا يقلقهما فيه أي شخص، ويتيح لهما أن يقضيا معا وقتا أطول وليس نصف ساعة فقط. انتظر المرة القادمة ليصلح أخطاءه في الزيارة الأولى. لا يتذكر أنه أخطأ كل هذه الأخطاء من قبل، دائما كان الطرف الثاني يشاركه الحذر، أما معها فكان هو بمفرده من يحذر ويتمهل ويقلق. طمأنه أحمد وأكد له أن شقته
” تحت أمره ” فهو لم يطلبها منه منذ زمن، لكنه نبهه لاحتمال أن تزوره مرة ثانية بدون موعد وعليه أن يحذرها ألف مرة
– صح
قالها استجابة لاقتراح أحمد ولخوفه المفاجئ من أن يكون رقم التليفون خطأ. أفهمته رنا إمكانية الاتصال بها في أي وقت والسؤال عنها ” ما فيش مشاكل ” هم بتكرار الجملة لكنها كانت فتحت باب غرفته وخرجت.
***
لم يتأكد من وقت موتها إلا بعدما ذهب للعزاء. عرف أنها غرقت حوالي الساعة العاشرة صباحا قبل المجيء إليه، عثروا على جثتها عند قاع النيل بعد خمس ساعات من غرق المعدية، ولا يعرف حتى الآن سبب تأخرهم في العثور عليها، هل لكثرة من تم انتشالهم من الأحياء والجثث أم لتأخر الغواصين في الوصول إلى موقع الحادث أم لأنها لم تعد إلى مكانها عند القاع إلا بعد مرور هذا الوقت؟
تمنى لو سأل والدها في العزاء عما كانت ترتديه حينما عثروا عليها، اكتفى بإعادة سؤاله عن الوقت الذي غرقت فيه المعدية
– الساعة عشرة تقريبا
نظر يحيى في ساعته ليمنع نفسه من تكرار السؤال. يرغب في أن يكرره مراتٍ ومراتٍ طالما يوقن أنها كانت معه الساعة الواحدة وغادرت بيته بعد ساعة تقريبا تاركة له بلوزتها البيضاء. لاحظ أبوها أنه يعاود النظر في ساعته كثيرا، همس له بأنه يمكنه الانصراف، ويكفي مسارعته بالمجيء فور علمه بالخبر. أصر على البقاء حتى ينفض العزاء، وبرر له النظر في الساعة بأنها تم إصلاحها اليوم ويريد الاطمئنان على أنها تعمل. هز الرجل رأسه وهو ينظر إلى الأرض. غطى يحيى الساعة بكفه وفكر في وضعها داخل جيبه.
ذهب إلى بيتها أربع مرات ليدرّس لها الرياضيات ثم اعتذر عن الاستمرار لالتحاقه بعمل جديد. رشحه لأسرتها أحد الجيران الذي علم أن يحيى ” خالي شغل ” بعد تسريحه من مصنع البلاستيك الذي كان يعمل محاسبا فيه، نصحه الجار بالاستفادة من مهارته في الرياضيات، وافقه يحيى لينهي الحوار معه، لكنه فوجئ به وقد اتفق مع أسرة رنا ، وصارحه بأن ابنته ستحضر الدرس ” وحادفع بس تكرمنا بقى ” وقبل أن يبدأ أول درس صارحه والد رنا
– أيضا- بعدم قدرته على دفع الكثير، ويثق في أن يحيى ليس كبقية المدرسين، والطالبتان ستكونان ” فاتحة خير إن شاء الله “. كرر هذه الجملة في المرة الثانية فظن يحيى أنه سيخبره بانضمام طالبة جديدة للدرس لكنه قالها تشجيعا له. عرف من رنا عدم احتياجها لمدرس خاص، والدها يريد الاطمئنان عليها، وفهم أن البنت الأخرى عبء ولا أمل في فهمها الشرح من أول مرة، وعندما تدخلت رنا لتفهمها إحدى التدريبات بطريقة أسهل من التي شرحها، وثق من أنها ستدرّس لهما هما الاثنان لو لم ينتبه ، وضايقه أكثر نبرة صوتها الموحية بأنهما ندان يساهمان معا في الوصول بالدرس إلى بر الأمان. تذكر هذا عندما زارته ووجدها تحثه على مسايرة إيقاعها وهو يحسب ألف حساب لما سيحدث لو طاوعها، شدته إليها بقوة، استجاب للحظات لكن عقله في الوقت المناسب انتشله منها، وضربت بيديها السرير كأنها تريد صفعه.
” ياه ” أطلقتها رنا ما إن انتهى الدرس، وفهم يحيى مباشرة أنها صيحة الارتياح من حمل ثقيل. نظر لها
– أصل التمرين الأخير كان صعب أوي
لم يستغرق منها سوى دقائق، وظلت تتململ في مكانها أثناء تعثر زميلتها في الإجابة عليه. كانت هذه المرة الأولى وفكر في أن تكون الأخيرة. أقنع نفسه بقدرته على أن يحيل تلك الـ ” ياه ” إلى صيحة إعجاب المرة التالية، وسيعد لها تدريبات تعجزها وترغمها على أن تسأله المساعدة، ولا يحسب حسابا للطالبة الثانية التي استعار منها كتاب الرياضيات بعد أن نزلا
– لكن أنا عايزة الكتاب عشان أعمل واجب المدرسة منه
– حارجعه بكرة
ونزع الكتاب من بين يديها وسلم عليها ومضى. فكر في إعادته إليها بعد أن استصغر هذا الصراع بينه وبين رنا، فبقدر ما سيثبت إليها أنه مدرس بجد وليس خالي شغل فإنه في نفس الوقت سيشعر كم أن معاركه صغيرة وما يحققه فيها من انتصارات ليست سوى الحد الأدنى المفروض تحقيقه، أكمل سيره والتفت ناحية الطالبة فوجدها عائدة إلى بيت رنا، تأكد من أنها ستستعير الكتاب منها بعد أن تشرح لها السبب. لم يلحق بها بعد ما لمح رنا تطل عليهما من البلكونه.
حينما قالت له ” بعدين ” ولم تأخذ معها البلوزة التي ظل يحملها في الكيس حتى خرجت، وجد أنها كلمة تفتح باب مواعيد قادمة، وتشجعه على الاتصال بها ليطلب مباشرة لقاءها دون إهدار الوقت في مقدمات طويلة، الآن يجدها كلمة تشبه ما كان يقوله أبوه حينما يتشبث وهو صغير بشراء شيء فيعده بشرائه ” بعدين. مش دلوقتي. بكرة. ” فيتشبث أكثر لثقته أن الكلمة تعني أشياء كثيرة: تأجيل الشراء أو عدم الشراء أو حسب الظروف، مما يعني في النهاية الأفضل أن تنسى وتحاول طلب شيء آخر.
***
كان يوم زيارتها أول إجازة يحصل عليها يحيى من عمله الجديد. بعد شهور أثبت فيها لعبد المجيد صاحب المكتب قدرته على تحمل أعباء العمل. كل ما أراده في هذا اليوم أن ينام براحته، ولا يتصل به عبد المجيد ليسأله عن المتبقي من بضاعة ما في المخزن. استيقظ الساعة العاشرة تقريبا وظل يتقلب في سريره محاولا العودة للنوم، وسعيدا بأن غدا الجمعة مما يعني يومين بدون عمل، بدون إجهاد نفسه في تذكر أرقام وحسابات وتواريخ وأسماء مندوبي المبيعات. منذ التحاقه بهذا العمل وذاكرته تفاجئه بقدرتها على حفظ كل ما يخص المندوبين: المنطقة التي يوزع فيها كل مندوب والبضائع التي معه، وقيمة ما وزعه هذا الشهر والشهر الماضي على الأقل، ومدى نجاح كل منهم في توقعاته عن رواج صنف معين. في البداية ظن ذاكرته ستكون نقطة ضعفه، وسرعان ما وجدها تمده بما يريده في أي وقت، وتفسح مكانا لأسماء المندوبين الثلاثية وتجعله ينطق بها بسرعة من يريد تحطيم أرقام قياسية.
أشياء موجودة ومعروفة لكنه الأسرع في تذكرها.هذه الصفة يبني عليها يحيى وجوده في هذا المكتب. إجاباته على أسئلة عبد المجيد بأقصى سرعة ودون الحاجة للعودة إلى الأوراق كانت أهم مؤهلاته في الحفاظ على عمله، ويقيس نجاحه في أن تكون المسافة بين الإجابة والسؤال لا تذكر، ما إن يسأله عبد المجيد وهو يتكلم في التليفون مع أحد العملاء عن المتبقي من بضاعة أو موعد وصول كمية ما حتى يسارع يحيى بالإجابة، وكلما كانت أسرع ابتعد مسافة أكبر عن كل الموجودين في المكتب. في بداية عمله عندما كان ينبه المندوبين أحيانا لانخفاض معدل التوزيع، كانوا يحرصون على تذكيره بالكم الذي وزعوه وقيمته كما اعتادوا مع المحاسب الذي سبقه، وفي كل مرة كان يقاطعهم و يفاجئهم بمعرفته الأرقام بالضبط، وتدريجيا تخلوا عن تذكيره بأي شيء واكتفوا بـ ” زي ما انت عارف “.
” الأستاذ زي ما انت عارف راح، الأستاذ زي ما انت عارف جه ” لم يطلق أحد عليه هذا اللقب، لكنه من كثرة ما سمع هذه الجملة منهم شعر كأنها اسمه الجديد. في مرة خطه على ورقة بأكملها وهو سرحان، وظل يضغط بالقلم على الكلمات المكتوبة حتى انفصلت حروف عن الورقة كأنها قصت بمهارة، سعد بالحروف التي خرجت مكتملة ، وكره – أيضا – مطاردة الجملة له حتى في سرحانه.
يمتلك المكتب عربتين نص نقل بسائقين ومندوبين، أما بقية المندوبين فهم مشاة كما يصفهم عبد المجيد، ورغم كثرة عددهم إلا أنه يترك الباب مفتوحا لانضمام المزيد إليهم خاصة لو كانوا من طرف أي مندوب يعمل معه، وكل منهم وقع على وصل أمانة غير محدد القيمة ولا التاريخ تحسبا من أي غدر محتمل.
– إيه أخبار المشاة؟
فيعطيه يحيى تقريرا سريعا بحركة التوزيع، ويعرفه بأصناف البضائع الرائجة هذه الأيام، وفي أثناء ذلك يظل عبد المجيد محدقا في خريطة القاهرة الكبرى المعلقة على الحائط خلفه، ويحرك عليها المؤشر الذي يخرجه من طرف قلم
– لازم نزود المندوبين هنا … وهنا… وسط البلد ” وهو يدق عليها بالمؤشر ” مش جايب همه الأيام دي، نسحب كام مندوب ونوديهم شبرا الخيمة ” ويدق عليها بقوة ”
لم يكن يحيى يعرف عن تاريخه العسكري سوى أنه كان متطوعا في الجيش وخرج إلى المعاش برتبة عقيد، واستثمر مكافأة نهاية الخدمة في إنشاء هذا المكتب. ومع استمرار دقاته على الخريطة يسمع يحيى جلبة معدات عسكرية تتزايد في الخارج في انتظار صدور قرارات القائد. أول مرة رأى فيها عبد المجيد أحس بأنه يشبه شخصا ما عرفه من قبل. لم يتذكر هذا الشخص وإن ظل اسمه على طرف لسانه يكاد أن ينطق به. وكانت الرغبة في التذكر تزيد كلما دق عبد المجيد على الخريطة. ما العلاقة بين الأمرين؟ لا يعرف. حاول تذكر مدرسيه في المدارس التي التحق بها. لا أحد منهم يشبهه، تذكر مدرس الجغرافيا في المدرسة الإعدادية، كان يرسم الخرائط بالطباشير على السبورة. خطوط متداخلة لا تبين عن شيء محدد، ويظل يشير إليها ” هنا. وجنب دي. جنوب ده على طول ” ويصل بين منطقتين بخطوط جديدة حتى تبدو الخريطة كتلة بيضاء يسرح فيها الطلاب بينما المدرس مندفع في الشرح، ويصمت وهلة يبلع ريقه أو يتنفس نفسا عميقا ثم يندفع مرة أخرى، فهو من المدرسين المؤمنين بأن من يريد الفهم سيفهم مهما كانت سرعة كلامه أو تداخل خطوطه. ويكتم الطلاب الضحك وهو يردد ” واضح. بالظبط زي مانتو شايفين ” وفي مرة انفلت ضحكهم عندما التفت المدرس إلى كتلته البيضاء وهو مستمر في الشرح وفجأة سأل ” هيه فين؟ ” لم يكن السؤال إلا لنفسه، وأشار إلى الجنوب، وتنقل فيه بأصابعه المبيضة من الطباشير، كأن المنطقة التي تاهت منه قررت التنقل مع أصابعه في كل مكان تذهب إليه.
وهو في المكتب يتخيل أحيانا ذاكرته مصنعا يعمل فيه آلاف العمال، ولا يكفون عن الجري والوثب والرجوع للخلف والتقدم للأمام والصراخ والضحك، وعند شعوره بالصداع يغمض عينيه ثواني آمرا عمال ذاكرته بالكف عن الحركة، و يصرفهم بغضب في نهاية اليوم وقد يركلهم ويقذف ببعضهم من نافذة الميكروباص، ومن يتبقى منهم يتظاهر بأنه لا يسمعهم، ويركز في أي شيء يراه أثناء عودته إلى البيت ليبتعد قليلا عن ذاكرته.
ظل يتقلب في السرير محاولا النوم مرة أخرى فليس هذا ما تخيله، على الأقل توقع أن يظل نائما حتى العصر والأفضل حتى المغرب، وينتقم من كل الأيام التي انتزعته من سريره الساعة السادسة صباحا، وتمادى في تخيل أمه وأصدقائه وأقاربه يحكون عن نومه أكثر من تمنتاشر ساعة متواصلة رغم رنين التليفون وجرس الباب و… و….. ويحكون له بعد استيقاظه كيف حدثت أشياء مهمة وهو نائم ويظل يردد ” مش معقول ” مبديا انزعاجه وفي نفس الوقت سعيدا بمواصلته النوم رغم كل شيء.
عند فتحه الباب لرنا لم يفسح الطريق لتدخل .المفاجأة جعلته يظن أنها ستخبره بشيء وستمضي أو أنها أخطأت العنوان. لم تتكلم، ابتسمت وهي تنظر في عينيه. ” تفضلي ” مشيرا بيديه إلى الداخل ومتوقعا جلوسها في الصالة. دخلت غرفته مباشرة. لم يدخل وراءها، ذهب ليغسل وجهه بسرعة، وأجاب على سؤال أمه في المطبخ:
– طالبة كنت باديها درس.
– كويس
فهم كلمتها على أنها تشجيعها المعتاد ليعمل عملا إضافيا ويستطيع الادخار للزواج.
قرر الرفض لو عرضت رنا عليه أي درس خاص، فيكفيه تعب العمل في مكتب عبد المجيد. دخل عليها متسما بسمات الأستاذ الوقور رغم ارتدائه البيجاما، وخرجت ” أهلا وسهلا ” قوية كأنه يقولها في بداية درس لطلاب متحفزين ضده.
– تحبي تشربي إيه؟
اتجهت نحو الباب وأغلقته بالمفتاح
– مش وقته
بسخرية جعلت يحيى يظن أنه تكلم أكثر من اللازم.
***
بعد خروج رنا ومكالمة صديقه أحمد عاد يحيى إلى ” ألف طريقة وطريقة لتحفيز نفسك ” الكتاب الذي يرافقه منذ وقت طويل، ليس فقط بسبب أنه ألف طريقة بل لقراره تنفيذ إحدى هذه الطرق التي أكد الكاتب على أهميتها : ” لا تسرع في قراءة ما يفيدك “. لم تكن أول مرة يقرأ هذه النصيحة. كثيرة الكتب التي قرأها عن تنمية النفس أو تطويرها أو تحفيزها، لكن عندما خاطبه الكاتب لا تسرع ذكر أيضا أن هناك ناسا – ومنهم يحيى – قرأوا الكثير من الكتب حتى صاروا مثل آلة تسعد بالتهام أكبر عدد من طرق التحفيز، ويكتفون بأن يعدوا أنفسهم بتنفيذها في الوقت المناسب، ويكررون وعدهم مع كل كتاب. ونصح الكاتب كل منهم بتخيل أيام حياته وقد صارت في يد محاسب – وهذا ما أسعد يحيى – والمحاسب لن يمنحك يوما جديدا إلا بعد إنجاز شيء ” الآن ” وكلما أجلت تنفيذ هذا الشيء فإن المحاسب سيغلق بابه في وجهك، وستظل جامدا في مكانك مثل شخص لا يريد استعادة حياته التي سلبت منه.
ما إن يقول الكاتب ” أنت ” حتى يجد يحيى نفسه داخل الكتاب مؤكدا أن هذا ما يحدث له ويكاد يسمع صوت تصفيقه لبراعة الكاتب في الكشف عن مشاكله، ويزداد تصفيقه مع أمثلة الكاتب حتى لو كانت مستحيلة فبطل كل مثال هو” أنت وقد تخيلت هذا المثال من قبل، ولم تخبر به أحدا، وحرصت على إخفائه داخلك، فصرت مثل شخص لم يجد مكانا آمنا يخفي فيه مفتاحه السحري فابتلعه، ومضى عارفا أن الكنز داخله لكن يجهل الطريق إليه “
***
قبل معرفته بموتها، رأى زيارتها المفاجئة – وما ستليها من زيارات – أتت في الوقت المناسب. فمنذ انقطاع علاقته مع زميلته في العمل السابق ضرب الجفاف أيامه، ومع استغراقه في الشغل الجديد وجد نفسه مربوطا في عجلة كبيرة لا تكف عن الدوران. حاول استعادة علاقته مع زميلته لكنها كانت قد حسمت الموقف، فلم يكن يحيى قد حدد أي توقيت لخطبتها أثناء عمله بالشركة، وزواجهما صار مستحيلا بعدما تم تسريحه.
– امتى حييجي الوقت المناسب؟
وقبل أن يجيبها ، فاجأته بإجابة ظنها منبعثة من نشرة الأخبار
– فرق التوقيت بينا كبير أوي
وأنهت آخر مكالمة بينهما.
” الوقت المناسب ” تحتل الكلمتان مساحة كبيرة في حياة يحيى، وتبدوان أنهما تخصان حياة أخرى لم يبدأها بعد. كانت الكلمتان تخرجان منه بسرعة عندما يتعلق الأمر بتحديد وقت ما، خاصة لو أصر عليه الطرف الآخر في العلاقة، لكنهما كانتا إجابته أيضا عندما تلح عليه أمه أن يزور أقرباءه، لم يكن يكرههم لكنه ما إن يدخل بيت أحدهم حتى يجد نفسه يريد الخروج سريعا، يسيطر عليه خمول غريب، وغالبا ما يتثاءب ويرغب في أن يمدد جسده وينام. وهذا ما حدث بالفعل أكثر من مرة، فبعد انتهائه من السلامات والاطمئنان على صحة أمه ونصحه بالانتباه لصحتها كانت رؤوس الجميع تتوجه لمشاهدة المسلسل، فتبدأ رأس يحيى في التمايل إلى الأمام والوراء وعلى الجنب، ويأتيه أكثر من صوت ” خش نام جوه ” فيقرر الخروج.
لكن ظهور رنا في الوقت المناسب طمأنه على أنه لا يردد الكلمتين عبثا، وعليه فعل كل ما يطيل عمر هذه العلاقة التي سقطت بين يديه دون مشقة. اتصل بها في نفس اليوم ليلا ليقترح عليها مقابلته غدا الجمعة، وهيأ نفسه ليقنعها ويعثر لها على طريقة لمقابلته لو كان والدها يمنعها من الخروج. وما إن عرف بغرقها حتى صارت المكالمة:
– امتى؟
– حوالي عشرة الصبح
– امتى؟
– عشرة الصبح
– مش بعد واحدة يعني؟
– أفندم؟
– امتى بالظبط؟
– العزا بكرة بعد المغرب
انتظر ساعة. اتصل مرة أخرى. اعتذر عن اتصاله متأخرا لكنه يريد التأكد من خبر وفاة رنا
– صحيح
– الساعة اتنين ؟
– لا. عشرة تقريبا
تذكر جملة زميلته ” فرق التوقيت بينا كبير أوي ” لكنه هذه المرة لم يكن هو المسؤول عنه بل كان يحاول أن يفهمه ويعرف كيف حدث. في مرة اتصلت به زميلته من تليفون كافيتريا وسألته لماذا لم يأت. أكد لها أن الموعد غدا ” لأ النهارده. وانت اللي محدد الميعاد ” كرر تأكيده وكان صادقا هذه المرة، وراح أسبوعا كاملا يصالحها ويحاول إقناعها بصدقه وهو يؤكد لنفسه أن ما حدث يمثل الفرق بينهما: هي تريد الأشياء مبكرة جدا وهو يرى موعدها لم يأت. أما مع رنا وبينما يمنع نفسه بصعوبة من الاتصال مرة ثالثة فلم يعرف مدى فرق التوقيت بينهما.
***
لماذا زارته رنا ؟ كان السؤال سيبدو هينا لو استمر في الدرس الخاص إلى النهاية. أربع حصص وانتهى الأمر، ولم يكن لوجوده ضرورة من الأساس إلا بسبب قلق الأب على ابنته، ورغبته في عدم الشعور يوما من الأيام بعجزه عن توفير مدرس خصوصي. ولم يكن بيته قريبا لا من بيتها ولا من الجامعة ولا المعدية حتى يقتنع أن قرب المسافة شجعها على زيارته. ويصير السؤال أكثر إلحاحا لأنها زارته بعد الموت أو أثناء بحثهم عن جثتها والمفترض أنها تزور القريبين منها الذين تجمعهم بها ذكريات لا تنسى، و يمثل افتقاد وجودهم أقسى معاني الموت، ويحيى ليس منهم بأية حال من الأحوال، حتى لو فتش في كل ساعات الدروس على أمل أن يجد ما جذبها إليه فلن يعثر على شيء إلا إذا اعتبر إحساسها بأنها ند له في الدرس سببا يرجعها إليه بعد موتها. الموتى لا يفكرون بطريقته وبالتالي أسبابهم مختلفة عما يفكر فيه وقد يرون ما لا يراه، حتى لو ساير هذا الكلام فسيظل السؤال عن سبب اختياره قائما. وقد لا يجد إجابة عليه بقية عمره، ربما يخفف مرور الوقت من حدة انشغاله بالسؤال لكنه لن يقدر على محوه تماما من حياته. بالطبع كان يراهن على أن يبصر الإجابة فجأة في يوم من الأيام، ويخبط جبينه لغفلته عن الإجابة التي كانت متاحة أمامه، ويحسب كم من الوقت مر قبل أن يصل إليها: شهر. سنة. سنتين…
ظل يكور البلوزة بين كفيه، وأحيانا يفردها أمامه رافعا يديه إلى أعلى أو يرمي بها على السرير. لا يتوقع أن تكشف شيئا ولا أن تتحول إلى أي شيء. يحاول التخفيف من حيرته، وفي نفس الوقت يتابع إن كانت ستستجيب لكل ما يفعله بها كأي بلوزة أخرى أم ستبدي رد فعل غير متوقع. أمس ارتداها، وأثناء محاولته إدخال رأسه فيها وقد لفته عتمة أراد أن يظل في هذا الوضع: رأسه تجاهد في الخروج وتتحرك يمنة ويسرى وتستريح قليلا لتعاود المحاولة. هو من اقترح عليها استبدال قميصه بالبلوزة، ولا يعرف إن كانت تنوي فعل هذا أم شجعها اقتراحه، وهل كانت منتبهة للقطع بطول الظهر وتعاملت معه أنه لا يفرق كثيرا أم كان هو أول من عرفها بوجوده؟
فكر في التخلص من البلوزة، ووضع حد للأمر كله. استمرار وجودها بقدر ما يؤكد له ما حدث لا يقنع أي شخص آخر بأنها زارته بعد موتها، باستثناء أمها وأبيها اللذين سيتعرفان عليها وأنها كانت ترتديها في يوم غرقها، لكن من يقدر على الذهاب إليهما حاملا هذا الدليل ويحكي لهما، وفي النهاية أيضا لن يفهماه لماذا اختارته. كان تفكير يحيى ينطلق بنية الوصول إلى معان عميقة في زيارة رنا ورغم محاولاته الدؤوبة لا يخرج من تأملاته بما يرضيه، وتظل المسافة كبيرة جدا بينه وبين ما يجب فهمه من هذه الحكاية.
بدا العمق الذي يتوصل إليه من هذه التأملات أشبه بصدى الصوت لا يرّجع سوى ما يعرفه. سمع من قبل أشخاصا يرددون أن شيئا ما: لقاء، صدفة، كلمة عابرة، قرارا، كان نقطة تحول في حياتهم وصاروا بعدها أقدر على فهم الدنيا. وكان يحيى يرى كلامهم مبالغات يحاولون بكل الطرق إعادتها إلى أرض الواقع ليقتنع المستمعون بها، فحياة الناس من حوله لا تتيح سوى توهم نقاط تحول، وكل شخص يحاول على قدر استطاعته تصويرها لنفسه و للآخرين على أنها بالفعل أحدثت الكثير.
صارح نفسه بأن هذه الزيارة لو حدثت لهؤلاء الأشخاص لاستطاعوا التعامل معها بسهولة، خاصة لو كان يؤمنون بالمعجزات سواء أثرت في حياتهم أم لا، أما يحيى فيرحب بالمعجزات بشرط أن تتضح في حياته لا أن يضمرها ويواصل العيش كما اعتاد. وحتى لو ارتضى بإخفاء ما حدث داخله فسيظهر ضيقه مرة أخرى من أنها مجرد زيارة استغرقت أقل من ساعة، ولم تترك له تفاصيل كثيرة ليعيد ويزيد في تأملها وينشغل بها تعويضا عن عدم قدرته على أن يحكي لأحد.
زيارة مثل ظل سيلازمه قد يلمحه وينشغل به أحيانا وقد ينساه تماما في أحيان أخرى. أشبه ببطانة الجاكت الذي يرتديه، لا تلفت انتباه أحد لكنها موجودة متوارية. نبهه مندوب مرة إلى أن البطانة تهدلت وظهرت من طرف الجاكت السفلي، ونصحه بشدها من أعلى بخياطة جديدة، والأفضل فصلها تماما وقص الزيادة منها لتكون بالضبط على مقاس الجاكت. تكفلت أمه بالأمر وشدت الجزء الذي تهدل وخاطته في البطانة نفسها، ونصحته بألا يدخل ذراعه بقوة عند ارتدائه الجاكت حتى لا تتقطع الخياطة من جديد.