المدينة فى الرواية واقعية ومسحورة، قريبة وبعيدة بل تعيش فى شوارعها، وفى مكاتب العمل وأحيائها وتمارس الحب فى غرفها: تفعل كل هذا وأنت بين المصدق والمكذب، بين القلق والمستمتع ، فى حالة بين الحلم والحقيقة.
هل يرجع هذا إلى عيب غامض فى الوجود أو إلى “فرق التوقيت” أو لأنك لم تكن موجودا فى الوقت المناسب؟ أم لأن الحاجز بين الحياة والموت قد حدث فيه خلل أو طرأ عليه تغير؟.
مسألة وقت” الرواية الثالثة للأديب منتصر القفاش: تصريح بالغياب (1996)، “أن ترى الآن” (2002) بعد ثلاث مجموعات قصصية (نسيج الأسماء 1989) السرائر(1993) شخص غير مقصود (1999).
نحن أمام كاتب راسخ له شخصية، وأسلوب خاص فى الكتابة وموقف يتضح فى روايته الأخيرة بين السرد والتجريب، وبين الحداثة فى التقاط الصورة والاقتصاد والحدة فى إصابة التعبير والوصول إلى التأثير فى ذاكرة القارئ ومشاعره. كاتب أعتقد أنه يشكل ظاهرة وحده وله فى الأدب طريق خاص.
يحيى شاب عازب يعيش مع والدته فى شقة قديمة بعد أن مات والده وترك أشياء صغيرة فى صندوق (عدسة، جراب نظارة، سبحة) وترك أثرا باقيا فى صلاة الأم، وفى حياة يحيى.. فى حاضره وفى ذاكرته.
الرواية لها قلب مسحور هو: أن “رنا” الفتاة الشابة التى كان يحيى يعطيها درسا فى الرياضيات زارته فى غرفته فى بيته القديم، ومارست معه الحب، وتركت له بلوزتها التى تمزقت وأخذت بدلاً منها قميصه.
ليس هذا هو المهم، المهم أنها زارته بعد أن كانت قد ماتت، غرقت فى حادث غرق معدية بين الحوامدية وكرنيش حلوان.
نعم زارته بعد أن ماتت، وليس الأمر خطأ فى التوقيت أو مسألة عدم دقة فى تحديد الزمن ولكنها مسألة ترجع إلى ذلك الارتباك فى الوقت والساعات المفكوكة وزيارة الموتى فى الأحلام وإلى تلك الكتب التى تقدم النصائح: ” كيف تعيش لحظات الحب “، “دع القلق وابدأ الحياة”، ” ألف طريقة لتحسين الأداء “.
حول هذه الزيارة التى أربكت حياة يحيى ينسج “منتصر القفاش” رواية شديدة الواقعية، حيث يعمل فى مكتب من مكاتب توزيع السلع على المنازل، البضائع التى تشترى من الصين والتى يعمل فى توزيعها جيوش من العاطلين البنات والشباب الذى أنهى دراسته الجامعية ولم يجد غير هذه الوظيفة حيث يحمل حقائبة ويدور على الشقق بعد أن يوقع على إيصال أمانة على بياض ليضمن صاحب البضاعة حقه.
صاحب المحل ضابط جيش أحيل إلى التقاعد، ويتصرف مع العاملين معه بمنطق العسكرى، يطلق عليهم ” المشاة ” وعلى البضاعة ” الذخيرة ” وعلى مكان العمل “المحطة“.
يحيى المحاسب: يتمتع بذاكرة حديدية وبقدرة على الحساب وحفظ الأرقام، حتى بعد حادث زيارة “رنا” الذى أربك حياته الداخلية، ودارت أحداث الرواية بين مستوى منطقى منتظم، وأخرى سحرى مجنون. وقاد الروائى هذا التناقض بفنية وقدرة على كشف عالم من المتناقضات ” تمنى لو سأل والدها فى العزاء عما كانت ترتديه حينما عثروا عليها.اكتفى بإعادة سؤال عن الوقت الذى غرقت فيه المعدية. الساعة عشرة تقريبا. نظر يحيى فى ساعته ليمنع نفسه من تكرار السؤال، يرغب فى أن يكرره مرات ومرات، طالما يوقن أنها كانت معه الساعة الواحدة وغادرت بيته بعد نصف ساعة تقريبًا تاركه له بلوزتها البيضاء. “
استطاع الروائى رغم اعتماده على الفصول القصيرة، أو “الصور” أن يبقى حبل التوتر مشدودًا وأن ينتقل فى حرية محسوبة بعناية بين أنحاء شتى فى حياة يحيى العملية وذاكرته وبين صديقة “رنا” وأمها وأبيها فى واقعية تزيد الحدث المحورى غرابة وإثارة وتطلق من داخله مشاعر ومعانى: ” شعر وهو ينظر “لرنا” بأن صمته غريب، فأمام صور من رحلوا عن الدنيا يكون طبيعيًا أن يصمت من يشاهدونها حزنًا أو استغراقا فى ذكريات وقد تسقط دموعهم رغما عنهم، أما هو فصمته أشبه بمن يتوقف فجأة عن المشى ناسيًا إلى أين كان يذهب، وغير قادر على سؤال المارة عن وجهته، ويظل يدقق النظر فى كل شئ حوله لعله يتذكر ويستعيد طريقه مرة أخرى. “
” لقد دخل الحكاية بعد ما انتهى فاصل البكاء، ومسحت الوجوه دموعها وبدأت تحدق فيه. “
” المسحور يظن دائما أن الآخرين هم من سحروا خاصة لو ظلت حياته تمضى على منوالها.”
مسألة وقت رواية مهمة ومثيرة، تخفى وراءها كاتبا مشحونا بالبصر الجديد، يكتب بجدية وفن خاص فى شكله ومضمونه.