محمد الكفراوي
“اللحم إذا نتّن فلأهله”، بهذه الجملة المعبرة عن العودة الاضطرارية للوطن أنهى الكاتب الروائي الكبير أحمد صبري أبو الفتوح الفصل الأول من روايته الأحدث “مراد العارف”، ليعلن بذلك أن مراد بعد سنوات الغربة الطويلة ليس له إلا العودة للوطن، حتى لو كان وحيدا وبلا أهل.
تبدأ الرواية من منطقة آمنة تماما بالنسبة لأبطالها الثلاثة، مراد العارف وليلى الباشا وهبة الله الدمشاوي، فمنذ تعرّف مراد العارف الصحفي وكاتب السير الذاتية والروائي بلا رواية، على ليلى الباشا ملكة التاتو كما تحب أن يطلقوا عليها، وهما عائدان من المملكة التي يعملان بها في الخليج، تبدو عليهما علامات الراحة والاسترخاء، ليكتشف القارئ بعد ذلك أنهما عائدان من رحلة لهاث طويل خلف لقمة العيش، وقدرتهما على الخروج الآمن من رحم المعاناة.
الشخصية الثالثة في العمل هبة الله الدمشاوي تتعرف على مراد عبر الإنترنت، وتحكي له مأساتها أو حياتها التي ارتضتها بعد الزواج من الناقد الكبير الدكتور إسماعيل هدهد، الذي تكتشف مع الوقت ما يقوم به بعيدا عن الهالة الأسطورية التي تحيطه، وكيف يتكسب أموالا طائلة من إنجاز الرسائل العلمية للطبة من أبناء الأثرياء وذوي النفوذ.
كل حياة من الحيوات الثالثة ترتكن إلى قصة مأساوية غالبا، خصوصا في حالة ليلى الباشا التي تزوجت ثريا خليجيا يكبرها بأكثر من خمسين عاما لمساعدة أسرتها التي تتداعى، ثم تعرضها للاستغلال من شخص آخر فتح أمامها أبواب الثراء وأدخلها بيوتات الأثرياء لتعمل في التزيين ورسم التاتو والعناية الشخصية، لتجد نفسها أسيرة لهذا الرجل الذي اضطرته للزواج منه بحكم المصلحة وحتى تتمكن من العمل في المملكة ذات الشروط والطبيعة الخاصة.
الأمر نفسه تقريبا تفجرت منه مأساة هبة الله ، فعوز الأسرة دفعها للتضحية والزواج من أستاذها في الجامعة الرجل السبعيني الذي يحتاج إلى ونس، أو على الأقل لديه هاجس وخوف مقيم من أن يموت وحيدا.
أما البطل الحقيقي الذي تحمل الرواية اسمه “مراد العارف” فيكاد يكون بلا مأساة حقيقية وغنما تكمن مأساته في حلمه الذي تبخر او يكاد وهو يلهث وراء الثروة، ونسي مشروعه الروائي والقصص والحكايات التي أراد أن يكتبها بعد 3 أو 4 سنوات في الغربة، كما اعتقد في البداية، ليجد نفسه عائدا إلى بلده بعد 30 سنة من الغربة، ومازال شبح الرواية الأولى يطارده، ولا يعرف كيف يبدأها، ولكنه مازال لديه أمل أن يكتبها وأن تحظى بتقدير وتحوز جوائز كبرى في الأوساط الأدبية.
تتسرب الحيوات الثلاثة إلى ذهن القارئ بتراتبية محسوبة، فالبداية لقاء مراد وليلى وبعد ذلك تبدأ قصة هبة الله الدمشاوي والدكتور إسماعيل هدهد، ثم عودة إلى ليلى ثم العودة إلى مراد وهكذا دواليك في تداخل يجعل القارئ أمام 3 حيوات يمكنها ان تشكل 3 روايات وليس رواية واحدة.
يتسم العمل بسهولة السرد وتفرد الأسلوب الذي امتاز به أحمد صبري أبو الفتوح وظهر في أعماله السابقة خصوصا “تاريخ آخر للحزن” و”صاحب العالم” ، فضلا عن ملحمته الشهيرة “ملحمة السراسوة” بأجزائها الخمسة، ليقدم خلال العمل الأحدث ما يمكن اعتباره وصفات للكتابة، وطرائق للسرد، ومفاتيح لتنشيط الخيال وسبر أغواره المخفية، هكذا يتحدث في اكثر من موضع عن “مخزن الشخصيات” أو “الجرن” لمن يعرفون الأرياف، فهذا الجرن تتمرس فيه غرفة عمليات المزارعين ومخزنهم الأساسي من الحبوب والمحاصيل.
في النهاية ينجح مراد في كتابة الرواية ولكن ليس المشاريع والخطط التي حملها معه قبل سنوات إلى بلاد الغربة، وإنما يبدو أنه قرر أن يبدأها من زاوية جديدة، في لحظة ما اختار جد ليلى الباشا ليكون هو البطل، لكن من جهة أخرى، يمكن القول ان ما بين أيدينا “مراد العارف” هي الرواية الحقيقية التي أراد ان يكتيها بل وكتبها مراد العارف.
المدهش في هذا العمل هو التفاصيل البسيطة التي يطعم بها الكاتب عمله بشكل مباغت وغير متوقع تماما، بداية من وصف ملابس هبة الله الكالحة التي استقبلها بها الدكتور إسماعيل هدهد وحرصت على الاحتفاظ بها رغم انها أصبحت ثرية وليست في حاجة لها، مرورا بتفاصيل استلاب الطفل من أمه ليلى الباشا حيث أخذه أخوته من أبيه الشيخ الخليجي، مقابل ترضية مناسبة حصلت عليها الأم وكانت ترضيتها الكبرى ضمان مستقبل أفضل لابنها مع اخوته وهو يستمتع بثروة أبيه الشيخ الراحل، ومن المشاهد المؤلمة التي ترد في الرواية حين جاء هذا الشيخ وتعرّف على ليلى ووالدتها واشترى هدية من الذهب لليلى وخاتما لوالدتها وطمأنهم أنهما هدية خارج الاتفاق، وكانت والدة ليلى تقول لبناتها “إذا مت أعطوا هذا الخاتم لليلى فهو جزء من ثمنها حين بعناها لكي تعيشوا”.
الرواية مشحونة بتلك المشاهد المأساوية التي تنسال بين حكاية وأخرى وموقف وآخر، ليقدم أحمد صبرى أبو الفتوح من خلالها عملا جديدا استثنائيا يعبر عن حس روائي مغاير للمألوف، ومهموم بتقنيات السرد وأبعاده وأسراره شديدة الحساسية.