ما يميز هذا النهج هو أن الاحتمال الذي يتم اختياره للاستمرار في تشييد البنية لا يستبعد الاحتمالات الأخرى التي لم تُستخدم، بل يبقيها داخل الفراغ الصامت للحكاية. يصبح القرار المتخذ أثرًا مخاتلًا لما هو غير مرئي من القرارت المرجأة. هكذا يقدم هذا النهج ما هو أكبر من الحكاية، إنه يقدم أيضًا صورة للكيفية التي يفكر بها “طارق إمام” في تشكيل حكايته.
(في اليوم التالي استيقظت كل امرأة وضعت الكحل في عينيها بعين واحدة بيضاء في منتصف وجهها، بلا حدقات، تسيل منها دموع حارقة على الدوام، بينما تحوّل موضع جبل الكحل إلى عين واسعة، تسبح فيها ثلاث سمكات كبيرة).
يقدم “طارق إمام” أيضًا من خلال هذه المجموعة اقتراحًا جماليًا لإعادة قراءة هذا الماضي الذي تنتمي إليه قصصها، ولكن إعادة القراءة هنا لا تعني مجرد إغراء نوستالجي لاسترجاع الحكايات القديمة بل إعادة الانشغال بها، أي وضعها دائمًا داخل إطار استفهامي، لا يتوقف عن إنتاج افتراضات متبدلة للمعرفة التي ارتبطت بها.
(أحيانًا كنا نشعر أن الصوت قادم من ناحية المقابر العمومية، وأحيانًا نكون على وشك التأكد من أن مصدره شارع البحر المزدحم على الدوام بالقباطنة والبحارة والأغراب والمسوخ. وفي فترات كثيرة كنا نحس أنه آت من مكان مرتفع قريب من السماء).
علينا أيضًا مراقبة كيف يمتد “طارق إمام” بالإحكام الضروري لعناصر القصة إلى السياق الحكائي الذي يتضمن القصص كافة، دون أن تخسر كل قصة خصوصيتها، ودون أن تتنافر مع المعمار “المديني” الأشبه بالموطن التصارعي للغرباء، والذي يوزّع ألاعيبه على نحو بالغ الرسوخ عبر الوحدات السردية للمجموعة.
(تفتح عينيها على السماء، يسقط فيهما المطر كأنهما بئران غائرتان لا ترتويان، كانت هذه طريقتها لكي تستطيع الرؤية بشكل أفضل. كانت في رحلتها الغريبة تلك، تلم كل الذكريات التي استقبلها تراب الشارع في عام مضى لتضعها في جوالها الضخم).
تبدو “مدينة الحوائط اللانهائية” كأنها ممر لتناثر الزمن؛ حيث يتوقف خلالها الوقت عن أن يكون تتابعيًا رغم ما يبدو أنه تعاقب بديهي. هذا التناثر مأخوذ لحالات متابينة، تُفرز أحلامها وكائناتها، وتتخطى كل ما يمكن اعتباره حدودًا لها. هنا يصير الزمن كأنه وقت شخصي، يمكن إدراكه، ولكنه متسمًا بنوع من البدائية السحرية التي تكمن داخل الكينونة لا خارجها.
(حين قرر أن يعود إلى السماء، على مرأى من العيون المهزومة المتطلعة من شرفات البيوت، لم يرفرف مثلما جاء، لكن هبطت طائرة ضخمة، صعد سلالمها بثقة، رأت فيها العيون التي تحجرت فيها الدموع علامة مرعبة لعدو، ليدركن في هذه اللحظة فقط، أن الحرب قد انتهت).
بشكل كبير لا توجد “الأسطورة” بالنسبة لي في المدينة ذاتها: السكان، التاريخ، المتاهة، القتل، الأشباح، سواء كبُعد خيالي أو “تأليفي”، أو كعالم يتم توظيفه لصالح واقع ما. توجد الأسطورة في الاستراتيجية أو في الأداء التوليدي للحكي الذي اتبعه “طارق إمام” ذلك لأنه ببساطة جعل في الإمكان القيام بهذا التبادل اللازم بين الشخصيات وحكاياتها؛ فالمرأة ذات العين الواحدة تستطيع أن تحضر في حكاية القرصانة، أو طباخة السم مثلا، كما أن بحر الدموع يمكنه أن يكون فضاءًا مرنًا أو أفقًا مهيمنًا خارج تخومه المتوقعة. ثمة سهولة متاحة لوضع معنى، للتفسير أو لرصد التشابهات الدالة بين قصص المجموعة وعلامات في الماضي أو داخل مجريات الراهن، ولكن ما يجعل هذه المعاني أو التفسيرات متجاوزة للتأويلات التاريخية المعتادة التي طالما التصقت بهذا الرصيد الغرائبي هو التكنيك الذي ربما يعوّض ما فقدته الأسطورة بتعريفها التقليدي، أو تحديدًا ما فقدته مقارباتها الشائعة بقلق شبقي، استفهامي، مجادل، لا يخاطب القيم النمطية أي مناقض للحكمة، قد تكون الأسطورة بالفعل في أمسّ الحاجة إليه.