مدينة الحوائط اللانهائية.. عندما تصبح الخرافة واقعًا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فرح أَبيّ

منذ ملايين السنين، أثناء تشكيل هذا الكون، خُلِقَت بوابات خفية لعوالم موازية لعالمنا، تضم من الغرائب والمُدهِشات ما لم نخابره قط، وزُرِعَت هذه البوابات في عدة مقتنيات مختلفة الأشكال والأحجام.. ربما في علبة موسيقى لامعة ببيت صيفي في أستراليا، أو في عمود خشبي عطب كان ينتمي قديما لمقصلة في ميدان عام بباريس، أو ربما في كتاب قصصي بمصر! هذا الكتاب "مدينة الحوائط اللانهائية" الصادر في مطلع هذا العام عن الدار المصرية البنانية، هو بوابة لعالم موازٍ أغرب كثيرًا من أن يشبهنا، ولكنه، وبشكل ما، ليس أكثر من انعكاس لعالمنا على صفحة الواقع.

سيهديك مكتشف هذا العالم، القاص والروائي المصري طارق إمام الحاصل على جائزة متحف الكلمة الإسبانية العالمية لأفضل قصة قصيرة لعام 2013، عباءة إخفاء تتجول بها في شوارع المدينة لتعرف عنها من التفاصيل والأسرار ما لم يتح لأي أحد قبلك أن يعرفه.. هي مدينة أراد أهلها أن يكونوا أخوة رغم خصام الدم، فهدموا كل حوائط بيوتهم، وصنعوا أربعة حوائط هائلة، لتصير مدينتهم بيتًا كبيرًا، ولكن لم يلبث أن قُتِلَ فيه كل سكانه، عدا رجل وامرأة أعادا إعمار مدينتهما، ولكن هذه المرة بكثير وكثير من الحوائط التي لا أبواب بها.. هذه الحكاية الرئيسية ينبثق منها 36 قصة قصيرة تحكي عن سكان هذه المدينة في ثلاثة فصول: نساء المدينة، ثم رجالها، وأخيرا غربائها، ورغم استقلال كل قصة عن سابقتها، فإن لكل القصص جذرًا أساسيًا لا تنفصل عنه، وفي أغلب القصص يتم استدعاء بعض الأحداث والشخصيات من القصص الماضية، لضمان نسج خيط يربطنا بإطار القصة الأساسية، وهو ما جعل من هذا الكتاب مجموعة قصصية فريدة ذات وشاح روائي أنيق.

يحتل الحكي عن كل شخصية من السكان مساحة لا تتعدى عادة الثلاث صفحات، وهو ما يعد من أبرز ما امتاز به هذا الكتاب، فأنت ستقرأ حكاية شخص لم تسمع به في حياتك، يعيش في مدينة ذات قوانين خرافية، يحدث فيها كل ماهو غير اعتيادي، وعلى الرغم من كل ما يصاحب ذلك من خصوصية في التفاصيل (مثل حكاية الشبح الذي يبحث عن جسد حبيبته، وحكاية العجوز الذي أغضب الموت، وحكاية السقاء والقربة المليئة بالدموع، وغيرهم) في هذه المساحة الصغيرة، فإنك تجده قد وفَّى الحكاية حقها تمامًا، دون أن تشعر لوهلة أن بهذه القصص ما ينقصها، وهو ما يحتاج لبراعة نحات يعلم أن لكل موضع في العمل الفني حساسيته، وقد بلغت ذروة هذه المهارة بالذات في القصة قبل الأخيرة “حكاية قراصنة نهاية العالم” التي لم تزد عن سطر ونصف فقط، ولكنها حملت بداخلها ما قد يأخذ عدة صفحات لتقديمه بنفس تلك القوة والحرفية.. إلا أنه لابد من الإشارة إلى أن كثرة عدد القصص ال36، ورغم قصرها الملحوظ، فإنها قد جعلت من الصعب على القارئ أن يتذكر شخصياتها بسهولة بعدما ينهي الكتاب، وإن كان للأمر أسبابه، وهو أن الكاتب يؤسس لعالم كامل يريد أن يعرض فيه لأكبر قدر ممكن من جوانبه.

ومن اللمسات الذكية التي أضفت توازنًا لهذا العالم، أنه تم سرده بلغة بسيطة وسهلة، لا تثمل بالتشبيهات، ولا تفسدها كثرة المصطلحات الملتوية المتفاخرة، تلك التي يلجأ إليها بعض أصحابها ليكسبوا نصوصهم رونقًا ليس فيها، فجاءت بساطة اللغة ووضوحها في هذا الكتاب بمثابة نظارة نظيفة نرى من خلالها الغرائبية كما هي، دون إضافات تفسد عبقرية النص المتجلية في ذاته، التي لا تحتاج لأي افتعال لتستحوذ على كيان السائح في هذه المدينة المدهشة.

وتأتي إحدى الألعاب التي خاضها إمام ببراعة في حكايته عن هذا العالم الموازي، أنه لم يخبرنا قط عن أي فترة زمنية تدور حكايات هذا العالم، بل إنه حتى لا يريد أن يترك لنا مجرد إشارات عليه، فنحن نجد أمامنا أن المعجزات والخرافات تتحقق كما لو كانت أمرًا اعتياديًا، تمامًا مثل أساطير الأولين، فنظن أننا في زمن غابر أسقطه التاريخ من ذاكرته، أو نظن أن الكاتب قد اتخذ مسار القصص الشعبية التي تحدث دائمًا في زمن قديم غير معلوم، ولكننا نفاجأ أثناء قراءتنا بمصطلحات من زمننا الحديث، مثل الصور الفوتوغارفية والكاميرات الشخصية (في قصة: حكاية المصور الذي عاش مستقبل جارته، وحكاية امرأة ديسمبر) وكذلك مواعيد الصلوات الخمس! وبهذا نظل في حالة مستمرة من الترقب والتساؤل عما يمكن أن نقابله أثناء تجولنا في هذا العالم؛ فمادام الزمن غير معلوم، فكل شيء قابل للحدوث والتصديق إذن! وهكذا تبقى الاحتمالات دائما قائمة بأن تكون بعض هذه الخرافات أقرب إلينا مما نظن..

وهذا ينقلنا إلى اكتشاف آخر سيدركه السائح في هذه المدينة كلما مر بأحد شوارعها، وسمع همهمات سكانها، ورأى أحلامهم، وهو أن هذه المدينة، بكل غرابتها وجنونها وشياطينها، هي عالمنا! وإمام، مكتشف هذه المدينة وصانع بوابتها، بكل خياله الجامح هذا وتطرفه في الغرابة في بعض الأحيان، لم يبتعد كثيرًا عن لعبة البشر الحقيقية، هو فقط أسدل عليها رداء فانتازيًا براقًا ليلفت أنظارنا، كي نرى أنفسنا وعالمنا الحقيقي على صفحة هذه المدينة، ربما مثل حكاية بائع الوجوه الذي بلا وجوه، ذلك الذي نكتشف في النهاية أنه فقد وجهه عندما لم يعد يراه، تمامًا كجميع ممتلكاتنا من الأشخاص والأشياء التي تذوب تدريجيا كلما فقدنا القدرة على الشعور بوجودها أمام أعيننا وقلوبنا.. والأمثلة كثيرة بعدد الست وثلاثين قصة التي تعكس على صفحتها الواقع بدقة قد لا نعهدها في بعض القصص الواقعية.

وواعيًا بكون هذا الكتاب بوابة وحيدة لإحدى العوالم الموازية النادرة في هذا الكون، لم يكتف طارق إمام بالتفنن في رسم كل حكاية من حكايات سكان هذه المدينة، محملةً بكل هذه الدهشة والمهارة في السرد فقط، بل صاحب ذلك بلوحات فريدة بيد الفنان التشكيلي السوداني المتميز صلاح المر، تلك الرسوم التي تناغمت عناصرها مع روح الكتاب، ليمتزج الفن البصري مع السردي في خياله وغرائبيته، فتشعر بعدما تفرغ من القراءة أنك أمام كتاب مقدس من الأساطير الواقعية..

ستدرك في النهاية أنك بشكل أو بآخر تمثل جزءًا من هذه المدينة، وأن هذه المدينة تمثل جزءًا من عالمك الذي تعيش، لتظل لفترة طويلة تسأل نفسك: هل ما عايشته من شخصيات وخيالات موجود حقًا؟ بنفس الشكل؟.. لا شك أنه مادام أحد استطاع أن يحكي هذه القصص بكل هذه الدقة والمهارة، فربما تكون موجودة بالفعل في مكان ما في عالمنا هذا، الذي تسود فيه –في الواقع- الكثير من الخرافة والدهشة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم