في هذه المجموعة القصصية التي يضاعف إدهاشَها كونها كتابة ابنة وعيين؛ وعي زمن كتابتها ووعي زمن تحريرها كي تصبح كتابًا منشورًا – وبينهما عشر سنوات – تنهض من العدم مدينةً متخيلة وبشر واقعيون ضمن منطق المدينة الداخلي، فلا تحتاج الدراما أكثر من هذين العنصرين ليشتعل الصراع، وتتناسل حقائق وضلالاتٍ بعدد من مروا من هناك.
ولأن الحكاية لا تنبت إلا من وراء جدار، أو وكأنه لا بد من حكاية لينقضّ الجدار، اختار الكاتب مدينةً لا نهائية الحوائط، تصلح كل زاويةٍ فيها كمضخةً للحكايات. مدينة شيدت على النوايا الطيبة إذ “قرر أهلها أن يصبحوا إخوةً رغم خصام الدم.. فحطموا حوائط بيوتهم وصنعوا أربعة حوائط هائلة تضمهم، لكن الجدران الأربعة لم تكن سوى إطارٍ للعنة!، إذ كانت المدينة تفقد واحدًا من أفرادها كل صباحٍ وكأنهم قرابين للنهارات، ولم يبق سوى رجل وامرأة، أنجبا سلالة جديدة تقدس الحوائط وتستكثر منها، حتى صارت المدينة متاهةً لسكانها فلم يعودوا يجتمعون سوى بظهور الغرباء، الذين لم يكونوا سوى أشباح ضحايا الماضي، المدفونين بدمائهم”.
هذا ما ورد في النص المؤسس لهذه المدينة أو المجموعة، وبدأه الكاتب بكلمة “بلغني”على غرار حكايات “ألف ليلة وليلة”، التي يمكن اعتبار المجموعة فصلًا جديدًا ضمنها، أو حتى فصلها الأول، بتقاطعاتها الواضحة مع قصة الخلق، وغرائبيتها الممنطَقة كمدينة يتقاسمها البشر والأشباح، وقلما تلتئم أجساد وأرواح ساكنيها.
هكذا التجأ الكاتب منذ البداية للفانتازيا كمدى أكثر إتساعًا لمراقبة الواقع، وتدوين وتأمل الأحداث بعد تجريدها من أزمنتها التي تخنق الرؤية وتعمق ضلالها، هذه الفانتازيا التي يعدها الكاتب أرشيفًا غير مرئيٍ، أو نصف الحقيقة المدفون؛ النصف الموازي للتاريخ المزيف الذي افتعله عجوز بلا ذاكرة حقيقيةٍ، ودوّنه مؤرخ شاب ليصير التاريخ الرسمي للمدينة، وتلك هي الحكاية التي يسعى الكاتب لكتابتها كما اعترف في آخر نصوص المجموعة “الحكاية التي لم أكتبها بعد”.
إننا من جديد أمام تلك العلاقة الجدلية بين الأدب والتاريخ، بما تفرزه من ثنائيات مثل: الرسمي والشعبي، الحقيقي والواقعي، المقدس والمدنس، المتاح و المُزاح وغيرها من الثنائيات، التي تؤكد في النهاية أن الإرث الشفاهي والكتابي للعالم محض أصوات متداخلة، تستمد جل أثرها من ظروف التلقي، ربما أكثر من ظروف إنتاج الحدث.
وفي هذه المجموعة التي كان من الممكن أن تستمر قصصها إلى مالانهاية، لم يكن الحدث عنصرًا مركزيًا، فكل الأحداث كانت تصلح للبناء عليها، كما تشي عناوين الحكايات كـ “المرأة ذات العين الواحدة- طباخة السم- الجارية والعصا الملعونة- زوجة الصائغ التي تكره الذهب- الرجل الذي لم يحلم أبدًا- العجوز الذي أغضب الموت- بائع الوجوه الذي بلا وجه- الشيطان وصندوق الدنيا” وغيرها من الحكايات، فحتى الغرائبية التي تسربها العناوين، تكتسب ألفتها بإحالتها إلى الاتفاق الضمني بأننا أمام قرية ملعونةٍ خرجت أشباح ضحاياها للانتقام.
البطولة الحقيقية هنا كانت للمجال الحركي للحدث، عبر الزمن والمكان، وكأننا بصدد إرسال الأساطير لمرجعياتها، لنفهم من أين بدأت الدموع، ومن أين اكتسبت ملوحتها، ومن أين جاء عشرات القراصنة ولماذا يكرهون المراكب ويهشونها عن البحر كالذباب، وكيف بدأت طباخة السم كسيندريلا عاشقة وانتهت كسفاحة محبوسة في أمثولة، ومن الذي وضع حدًا لتناسل السحرة على الأرض فانقرضوا كديناصورات حجرية، وغيرها من الأسئلة التي تتبع الطريق المعكوس للمآلات.
المجموعة في مجملها كنصٍ متعدد الفصول تبدو أشبه بقصة خلق مجتزأة، تتبع تواريخ متخيلة لأفكار مرتجلة كالموت والحياة، والصوت والذاكرة، والفرح والبكاء، والطفولة والمشيب، واليقظة والحلم، والألفة والاغتراب، والإحسان والأذى، والحضور والغياب، والنهاية والبزوغ، ربما لتقول إن العلاقة بين كل ومجمل هذه التيم ليست بهذه القطبية، أو على الأقل لم يبدأ الأمر هكذا.
في البدء كان هناك دائمًا عنصر مفقود.. غصة، ندبة، أخذت سمت عينٍ مفقوءةٍ، أو قدمين مبتورتين، أو وجه ممسوح، وذاكرة بيضاء، حلم مسروق، حبيب ضائع، صوت منزوع، أو ألوان هاربة.. حتى الموت كان هناك من يشكو تجاهله ونكرانه، وكل طرف يملك مظلوميته الخاصة، أيًا كان إثمه، ويملك أدواته للتسلل لوعيك وعواطفك. لكن الأزمة بدأت عندما تولى شخص واحد مهمة الحكي، والتدوين والتأريخ، فضبط توقيت المدينة كلها وفق رؤيته الخاصة، مدفوعًا بشهوة الأبوة لكل الحكايات، وبما أن الحقيقة الواحدة ليست “سوى كذبة جيدة الصنع” بوصف طارق إمام، ظلت إعادة كتابة التاريخ الرسمي حلم الكاتب، والحكاية لم يكتبها بعد، فالكاتب كالخالق، يحب كل مخلوقاته ويمنحها فرصًا متكافئةً للحياة لكن بزوايا اختياريةً للظهور، عكس المؤرخ المنحاز دائمًا لأبطالٍ من ورق، والذي ربما ينطبق عليه وصف الكاتب ” كاذب ككل شهود العيان”.
ولأن الكاتب ليس مؤرخًا بما تحمله الصفة الأخيرة من سوء سمعة، فإنه لا يخجل من الاتكاء على الخرافة، بوصفها حدث تعالى عليه التاريخ. لقد أعاد الكاتب في هذه المجموعة الاعتبار للحكاية الخرافية التي نُبذت كثيرًا في السنوات الماضية، بينما تجلت على الدوام في أعمال طارق إمام وإن بشكل أكثر خفوتًا؛ فبطل رواية “هدوء القتلة” كان مجذوبا يهيم في العوالم الصوفية ويبحث عن خلاصه في القتل، وبطل “ضريح أبي” كان ابنًا للخرافة ذاتها، حيث ورث سيرة وضريح ولي صالح ملفوف في أذهان العامة بالمعجزات. حتى سيرة كفافيس التي تتبعها طارق في روايته “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس” لا يمكن وسم أحداثها بالحقيقية، مرة لأنها كتبت ضمن رؤية أديب روائي، يمتلك بحسب الناقد المغربي الكبير محمد برادة “حرية أن يعيد تشكيل التاريخ بالإضافة والحذف؛ لأن مهمته هى إعادة صوغ الحياة فى تجلياتها المختلفة، لا كتابة التاريخ الموضوعي”، ومرة لأن التواريخ الأساسية في حياة كفافيس، كما أوضح الروائي في إحدى المقابلات الصحفية، لم تكن محددة بل ومتضاربة بعنف، كالسنوات التي أمضاها خارج بلاده، وتواريخ وفاة والدته وميلاده، ما منح الكاتب حرية الاختيار بينها كأنها محض وجهات نظر ” في كل لحظة من حياة كفافيس كنت أمام اقتراحات”.
هكذا يتجلى في المجموعة الأخيرة الانحياز للفانتازيا كملمحٍ فارقٍ في كتابات طارق إمام، مجاورًا للغة والأثر الشعريين، المتسربين في بناء مجمل أعماله، فضلًا عن فكرة الكتابة نفسها كمحفز وشاغل لأبطال أعماله، بدءًا من سالم الشاعر بطل “هدوء القتلة”، مرورًا بكفافيس الشاعر اليوناني المصري، ثم راوي “ضريح أبي” الموكل إليه كتابة سيرة والده، ووصولًا لرواي حكايات مدينة الحوائط، الذي يكتب ليفضح العجوز الذي دُشنت أكاذيبه كتاريخٍ رسميٍ للمدينة، بوصفه جزء من التاريخ الرسمي للعالم.
وسيجد المتتبع للمشروع الروائي للأديب الحاصل على العديد من الجوائز الأدبية العربية والعالمية، في كتابه الأخير، مناطق إدهاش كتابته، المألوفة وغير المتوقعة، وأسئلته المسربة لمابين سطور الحكايات، وسيمنحه المدى الزمني لكتابة وإعداد كتابه الأخير المتقاطع مع زمن كتابة أعماله السابقة، فرصة التساؤل المسلي عن أيهم كتب أولًا، وأيهم حمل صدى أوسع لدويّ السؤال.