صدرت مؤخراً، عن منشورات المتوسط – إيطاليا، رواية “مدينة” للكاتب الإيطالي الشهير ألِسَّاندرو باريكُّو وبترجمة أستاذ الأدب العربي في جامعة بولونيا الإيطالية ” گاصد محمد“.
عُرف باريكُّو عربياً من روايته من روايته “حرير” والتي صدرت وتُرجمت أكثر من مرة في العالم العربي، ولعل أشهر ترجمتين لها هما ترجمة فواز طرابلسي، وترجمة إسكندر حبش. لكن شهرة باريكُّو الكبيرة أتت عالمياً من كتابته لمونولوج مسرحي بعنوان (1900) والذي حوله المخرج الإيطالي الأشهر “جوزيبِّه تورناتورِّه” إلى فيلم من روائع السينما العالمية. ترجمت المتوسط هذا المونولوج إلى العربية وصدر سابقاً بترجمة المترجم معاوية عبد المجيد تحت عنوان (1900 – مونولوج عازف البيانو في المحيط). قبلها كانت دار ميريت المصرية قد أصدرته بترجمة الدكتورة في الأدب الإيطالي أماني فوزي حبشي.
أما رواية “مدينة” فهي أهم وأشهر ما كتب ألِسَّاندرو باريكُّو في الرواية، بل هي واحدة من أهم ما كُتب في الرواية الإيطالية المعاصرة، حتى أن الناقد الشهير “ألفريد هيكلينغ” يذهب في حديثه عن حيوية أسلوب الرواية وتجديدها، لمقارنتها “بأسلوب جوليان بارنس، أو دوغلاس آدمز، أو حتى أومبرتو أيكو”، وبالفعل كما قال: إن قراءة رواية “مدينة” في إيطاليا أصبحت “أشبه بطقس مقدس“.
و”مدينة” هي رواية بثلاث حكايات، تتداخل فيما بينها، بدون حواجز أو فواصل، وتنساب كثلاثة أنهر متوازية، وتتشعب منها حكايات أخرى وشخصيات عديدة. الحكاية الرئيسة الأولى هي حكاية غولد ومدبرة منزله شيتزي شيل. غولد طفل عبقري هجره والداه، يعيش برفقة شيتزي شيل وصديقين من صنع خياله، أحدهما عملاق لا تسعه سيارة والآخر أبكم «يتحدث». تنساب من خيال غولد حكاية الملاكم ليري غورمان ومدربه مونديني، حكاية تولد وتتطور أحداثها فقط حينما يكون غولد جالساً في المرحاض. أما من خيال شيتزي شيل فتنساب حكاية الويسترن في الغرب الأمريكي، وتحكي قصة مدينة مزقت الريحُ فيها الزمن، وضاعت أقدار الناس ومصائرهم في غبارها.
بينما القارئ يطالع “مدينة” ويتنقل فيها من حكاية إلى أخرى، يشعر وكأنه سائح في أرجاء مدينة ما، ينتقل من حي إلى آخر، ومن شارع إلى آخر، حيث الأحياء قصص والشوارع شخوصها.
وإذا كانت (1900) أشهر أعمال باريكُّو، و(مدينة) أشهر رواياته، فإن رواية “البحر المحيط” هي روايته الأغرب والأكثر خروجا عن المألوف، ولا نبالغ إذا قلنا إنها من أغرب ما كتب في الرواية على مستوى العالم. فهي رواية تنتمي للفلسفة (الذي درسها وتخرج منها باريكُّو) وللشعر في آن واحد، انتماء عميق بحيث يختلط أحدهما على الآخر. وهذا ما يوكده الناقد وِندي أورِنت حين يصف الرواية: “البحرُ المحيطُ ضربٌ من كتابٍ، يُجرجرُ معه الصِّفات التَّالية مثلما تُجرجرُ معها مجسَّاتها قناديلُ البحر: مستحوِذٌ، باطنيٌّ، غنائيٌّ، ساحرٌ، منوِّمٌ، كئيبٌ، تراجيديٌّ […]. موشوريَّةً ومتعدِّدةَ الأوجه مثل قصيدة، تعيد هذه الرِّواية إلى الأذهان مقولةَ أرشبيلد ماكليش، “ليس على القصيدة أن تعني، بل أن تكون”. ولكنَّ هذه ليست قصيدةً، إنَّها رواية، وهنا تكمن المشكلة.”
أما الناقد الإيطالي جوﭬـانِّي جوديتْشي فيقول عنها: “يذكِّرنا باريكُّو، من وقتٍ لآخر، بكافكا مثلما بسيلين، ببيريك مثلما ببالاتْسِسْكي، وربَّما حتّى بكالفينو، ولكنْ؛ في النِّهاية، وبما لا يترك مجالاً للشَّكِّ، يُذكِّرنا بنفسِه، كواحدٍ من أساطين السُّجوفِ المزركشة والسِّمفونيَّات.”
ويذهب ستِفانو جوﭬـاناردي أبعد من ذلك في مقاله في (La Repubblica) (أشهر الصحف الإيطالية): “تنفحُ هنا أجواءٌ شبيهةٌ بأجواء ستيفنسون، وميلفيل، وكونراد، تلك الأجواء التي تشكِّل إلهاماً صلباً لهذه الحكاية التي تتغذَّى، مع ذلك، من التَّوتُّرات الميتافيزيقيَّة المبهَمة المنبعثة من أسطورة البحر.”
ويجعلها لورِنْتزو موندو، في (La Stampa) حاضنة للأرث الأدبي لكتاب البحر حين يقول: “هذا الكتاب الذي يقطرُ تعباً وانكساراً، الذي يحتضن من حيث المبدأ الإرث الأدبيَّ لكتَّاب البحر من نبويِّين وملعونين، يُفلِح في الحفاظ على خيطه الخاصِّ من الغبطة، من موسيقى موتزارتيَّة جذلى ومستخِفَّة.”
وترى الفرنسية (Le Figaro) في الرواية: “إنَّه انتصار الأسطورة. البحرُ نفسُه ليس إلَّا سراباً. وألسَّاندرو باريكُّو ليس إلَّا شاعراً.”
أما صحيفة الـ «ليبراسيون» والتي تسمي ألسَّاندرو باريكُّو بالساحر فتقول: “مرَّةً أخرى، مع روايته البحر المحيط، يُنجز السَّاحر عملَه ببراعةٍ: يخلق العالمَ، عالماً بحريَّاً… حسِّيَّاً، مُذهلاً، ومؤلماً، كما لو كان عالماً حقيقيَّاً.”
كما نالت رواية البحر المحيط حظوتها في الصحافة الأمريكية فيكتب عنها ريتشارد بيرنستاين في (ذي نييورك تايم) ويقول: “البحرُ المحيطُ روايةٌ تتشعَّب وتتكشَّف على طريقتها من الإضمارِ الشِّعريِّ. السَّيِّد باريكُّو روائيٌّ تكعيبيٌّ، ذو أسلوبٍ ينظرُ في وقتٍ واحدٍ إلى الجوانب المتعدِّدة للأشياء. إنَّه ينتقل بنا من أسلوبٍ بلاغيٍّ إلى آخر، مِن شكلٍ من أشكال الشِّعر الرَّمزيِّ إلى مغامرةٍ سرديَّةٍ مهيبة إلى ملهاةٍ تشرُّديَّة.”
ثم وأيضا في (ذي نييورك تايم) ولكن بقلم جيني ماكفي هذه المرة التي تقول: “غرائبيَّة… إيروسيَّة… رواية البحر المحيط رومانسيَّةٌ للغاية وغنائيَّةٌ بشكلٍ مُذهِل.”
أما في الصحافة الإنكليزية فيكتب توم بونشا- توماتزوفسكي في (ذي إندبندنت): “روايةٌ خارجةٌ عن المألوف… كتابٌ حول الكينونة والوجود، ميتافيزيقا ملعوبةٌ بدهاءِ مهرِّجٍ عجوزٍ حكيم، إنَّها روايةٌ أقلُّ ما تفعله أنَّها توحي بأنَّ ثمّة في الحياة أموراً أكثر ممَّا قد يخبركَ به أيٌّ من العقلانيِّين.”
تروي «البحرُ المحيطُ» حكاية غرق فرقاطة تابعة للبحريَّة الفرنسيَّة، منذ زمن بعيد، في أحد المحيطات. يحاولُ الرِّجالُ الذين كانوا على متنها النَّجاة على طَوْف صنعوهُ لذلك الغرض. البحرُ هو المكان التي تجتمعُ فيها مصائر شخصيَّات غرائبيَّة؛ مثل بارتلبوم الذي يحاولُ تحديدَ أين ينتهي البحر، أو الرَّسَّام بلاسُّون الذي يرسمُ بمياه البحر، وغيرهما من الشَّخصيَّات التي يبحث كلٌّ منها عن ذاتِه، شخصيَّات حيواتُها معلَّقة على حافَّة المحيط، وأقدارُها مدموغةٌ بأحوالِ البحرِ. وعلى البحرِ كذلك يُطلُّ «نُزلُ آلماير» حيث تلتقي العديدُ من القصص وتنصهرُ في بعضِها. هكذا، من خلال البحر، بما هوَ استعارة وجوديَّة ورمز وجوديٌّ، يروي لنا البارع باريكُّو عن شخصيَّاته السُّرياليَّة، متنقِّلاً بين عدَّة أشكال أسلوبيَّة، سرديَّة وشِعْريَّة.
أما أمارجي، مترجم رواية “البحر المحيط” فهو شاعر صدرت له العديد من المجموعات الشعرية ونال أكثر من جائزة في الشعر وتحديداً من إيطاليا. درس أمارجي اللغة الإيطالية في جامعة بيرودجا.
أمارجي هو من أبرز المترجمين عن اللغة الإيطالية، حيث عرف عنه تصديه للأعمال الصعبة والثقيلة في الأدب والفكر الإيطالي وتقديمها للعربية بمكانتها البينة. فمن جاكومو ليوباردي إلى غابرييل دانُّونتسو، وليوناردو دافنشي، دينو كامبانيا، ميكِلِ كاكَّامو، أنطونيو غرامشي، بيير باولو بازوليني، وليس انتهاء بـ لويجي بيراندِللو (الذي ترجم له روايته الأخيرة واحدٌ ولا أحد ومِائة ألف، الصادرة عن منشورات المتوسط 2018)
مترجم رواية “مدينة” إلى الإيطالية، هو گاصد محمد، والذي يترجم من اللغتين العربية والإيطالية وإليهما، كما أنه يكتب الشعر والقصة القصيرة باللغة الإيطالية وهو من أبرز الأسماء الإبداعية ضمن موجة الأدباء المهاجرين في إيطاليا. كما أنه ترجم سابقاً رائعة أميليو سالغاري، ورواية لـ تشيزَره باڨيزه، صدرتا عن المتوسط، وترجم أيضا رواية شيخوخة للإيطالي الكبير إيتالو زفيفو. گاصد محمد يعمل الآن كأستاذ للأدب العربي في جامعة بولونيا العريقة.