منذر العيني
توطئة:
ما الّذي نبدأ به حين نباشر وقوفا ذاتيّا وقوفا يتغاير باستمرار، لا يدغم قافيته بالمعنى المتعارف للسّجعيّة المتداولة عند كتّاب النّثريّة الشّعريّة أو الشّعريّة النّثريّة؟ كيف نفقه قوله؟ نتلاسن معه أو نقترب منه، مِنّا؟ من حكاية مشتركة في العمق، ليس في الأفق، حيث تُجاورنا اللّغة دون مبرّرات اِستعاريّة ملتوية، هكذا: طول، أو معايير مسبقة عن الحدود والمقتضيات، لكن تبقى الدّربة قائمةً في إعادة النّظر في شؤون الغموض المنتشرة في كلّ تلك الفواصل والممرّات رغم جواره الخدّاع. ما الّذي يجعلنا حذرين في التّعاطي مع الدّاخل والخارج، في تماسٍ دائم للذّات المنشئة مع روافدها، مع نفسيّتها القلقة، مع تاريخها الشّخصي، أو مساراتها في جغرافيتها العينيّة البسيطة مع الأمكنة أو مع الأزمنة، في تماس دائم مع طريقتها في النّسج والمحو في آن، أو في لعبتها على البياض مع الكلمات وريشة الوصف والتّصوير؟ تكون حينئذ الولادة من جديد، دلالات ومنعطفات، تجود بها القراءة لتنتج مرّة أخرى هويّته هوّيتنا: هذا الشّاعر وهو يخفض من صوته ويفرج عن ضوئه شيئا من إدمانه، من روتينه أمام المرآة، لعلّه الإرسال يفصح أكثر عن المباشرة في حالتنا هذه مع الطّايل حتّى لا يحفظ نفسه أمام مَدّه هذا، في نصوص ترتجل الحركة لتقيم في الوصف. عبور يليه عبور، بينما النّثر أكثر صلابة لا يعوره شيء، ناتئٌ لكنّه خصب. نثر بسبقٍ منتهكٍ، غرور وجامح ينبت في المقدّس واللامعقول، متجاسر وهازئٌ، نكاد لا نرى منه غير الذّات الشّاعرة لا تأمل شيئا غير الحريّة.
تقديم :
كان لابدّ من توطئة كهذه لا تتّقي شرور كتاباتها السّابقة حتّى تدعّم مكانتها عند عبد الحفيظ طايل وهو لا يفتأ يعزّز طابعه في هذا المؤلّف الجديد من مدوّنة كتابيّة شعرية عَرّفت به شاعرا مصريّا مغايرا له نهجه وله طريقته في الكتابة والتّفكير بكلّ مقوّماته المخصوصة في كتبه، وُسمت بالشّعريّة النّثريّة منذ تلك المدارت الجريئة: منها : “فقه الإنتهاك: رواية”، “حكايات الشّرفة”، ” يحمل جثّتي ويغنّي” ثمّ “عائلةٌ يموتُ أفرادها فجأة” ويليها هذا المؤلّف : “مدمن الغناء”
مجاميع في فترات زمنيّة متعاقبة بلورت رؤيته للعالم والأشياء، طريقته في التّعاطي الفلسفي داخل بنية جماليّة مخصوصة ألا وهي الشّعر، الشّعر ككينونة حياة مفكّرة لا تنجذب للخارج الإيقاعي قدر فعلها في المجابهة حيث ينعقد النثر متحررّا من خجله وهو يَشعُر بلسان عبد الحفيظ وبجرأته على الإتيان.
“مدمن الغناء” عن دار ميريت للنشر، مجموعة شعريّة فاقت السّبعين صفحة تتالت فيها العتبات لتؤطّر لنا سيرة الكتابة وتفتح لنا شرفتها للتّأويل منتخبات لفكّ شفرات ومعانقة هذا العالم بين المجاورة والإبعاد وبين زوابعه وتوابعها في رسائل شخصيّة عامّة، عامّة شخصيّة، بدون مسوّغات عاديّة تختزل التجربة وتحاولها بالإيضاح منتمية للرّكح والحركة ومعتنية بالسّرد في حكاياته التّصويريّة بين الموجز والإستعاري وبين الأنا الحكّاءة والأنا المتلقيّة مفردةً وجمعا:” سيّد أسرار العالم – عن حبيبتي أتحدّث- أفتح صفحة بيضاء – أداعب الهواء بمنقار- أحتاج لقليل من اللاعقل- مدمن الغناء ذو السّاق الواحدة والجناحين- هنا- هذه المدينة- إلى صن تزو – أمشي بآتّجاه البئر- لعلّها ترضى”
عبد الحفيظ طايل في سياقات أخرى عانق النّضاليّة الحقوقيّة فأجبرته على التقدّم علّه معولٌ آخر أو إزميل آخر للحفر في مجريات الأحداث العامّة ممّا سنحاول فحصه حتّى نلائم بعدين في هذه المجموعة، الأوّل تقنيات الإعلاء في أسلوبه الإنشائيّ والثّاني مجريات العبور إلى ضفّة المقاومة إلى هويّته الأخرى وفيها سنسرّح النّظر في الظّروف والرّوافد التّي حفّزت صاحبنا على كسر العادة ورقصه المستهزئِ دون ألم يُذكر، حيثُ نلمس شغبَ الشّاعر، شغبَهُ بالغناء إصحاحا آخر أو قداسة أخرى في عراء الأشياء.
لم تغنه جوائزُه على المداومة والإستمرار عملا لافتا مرضيّا عنه بعض الأحيان ومغضوبا عليه أحيانا أخرى. سَعْيُنا في التقفّي لإبراز ناره الباردة في السّرد، وبرودة دمه عند العمليّة والجراحة منتهكا حدودا وخدودا ملغومةً ليس آبها بأخلاق العبيد.
الإعلاءُ نحو هويّة أخرى للعبور
“مدمن الغناء”: مكوّن إضافيّ أسّس لوقوف مساير للتّجربة والمعيش محايث لحركة فنيّة بالصّوت والكلمات، مرافقته جوقة من صمت ومن آهات، هل يستوي هذا التّأويل في خضمّ ما ينشده الباعث من حالة ضبابيّة واثقة محورها التّناقض البنّاء في آستعاريّة مرسلة تتراوح في معادلة بين المجاور والبعيد ” هذه المرّة يجب أن نفعلها كاملة بكلّ تفاصيلها من النّظرة إلى اللّحظة الحاسمة”، ليس فقط في معطيات مقابلة بل في ما يلمسه من فلسفاته التّنظيريّة الآخذة في الغيّ ” وقوف الجاهليين الأوائل، المتصوّفة عند عقابهم بالذّبح، نيتشه وهو يُجنّ، الشحّاذون للضّوء في الحكايا والأغنيات، رسوم دالي تهزأ بالهندسة..”
أحدّق في الهواء
فأرى ملامح
أنا الّذي بلا ملامح
يقول أيضا
عن حبيبتي أتحدّث
أنا الأبكم
فصلٌ آخرٌ
أُريدُ أن أحكي التّفاصيلَ كلّها
لكنّني لستُ حكّاءًا
كما أنّني مصابٌ بالخجل
يلعبُ البيانُ لعبَه الانفعالي من خلال الإخبار إذ يتلوّى على الإنشاء يسعفه بالأنا “تريد” فعلا يروم التحقّق فتغدو الحركة مؤجلّة تشركُ معها المتلقّي تجلبه إلى الحلقة بكلّ توتّرات النّفي والاستدراك “لكنّني أو لستُ” مكوّنين أساسيَين لعقد وعود تقطع مع الوثوقيّة وتجبر على الحكي أو على التّعويض على سرير الاعتراف.
“أريدُ- أنا” ثنائيّة من الواجهة النّضاليّة الماغوطيّة عبر أدخنته وطقوسه أو هكذا يمكن رؤية عبد الحفيظ من مرصديّة تلاصّه أو تناصّه أو إنصاته اللاّمرئيّ لمنجز جماعة شعر الشّاميّة، يمكث هنا توتّر نثريّ فاضح، هل هو ما يُسمّونه الإيقاع الدّاخليّ، أي نعم نستفيق على غلظته ثقله الغاضب عبر منحنيات الجلسة تؤول إلى الانتفاض، الشّيء المرادف للانفعال لذلك التّواصل المخصوص بين ” الكَفرهْ” يجابهون ضحكا بضحكٍ ويذهبون إلى حلقات العزاء، لا يغرنّكم هذا التّداول الإنشائي هو من يرينا تفاصيل غائمةً
السّيجارةُ التّي أدخّنها
بلا طعمٍ
والبّيرةُ كذلكَ
وحدهُ
ذلكَ الطّعمُ الجارفُ للخسارةِ
يملأُ الحلق
هذه ال “وحدهُ” الّتي تختزل شدّةَ التحوّل هي الّتي تدفعهُ للذّائقة الجمعيّة بين الحيوات في حياةٍ واحدةٍ، تلك البوهيميّة الخلاّقة إن شئنا البودْليريّة نسبةً إلى بودلير في شرّ أزهارهِ ، هي من تأخذ بيده في نجاح انتخاباته أمامَ الملإ، خسارات الكائن المفكّر، شقاوةَ المتنبّي إن جاز التّعبير ومتردِّمُ عنترةَ ، نفهمُ ذلكَ من سرديّةٍ سريعة التكوين انطباعيّة منرفزة غير أنّ بيان الإخبار هو من يفنّدُ ذلك بتؤدتهِ وتحديقه المكثّف وتعطيله لتيّارات السّجع أو البديع عموما، فلا يهمّه من شيء غير إبلاغ الفكرة في شكله التّناقضي مرّةً لعلّه التكتيكُ السرّي لقصدية الإنشاء كأن يخبرنا
حكايا أخرى تركت أثارها على جلدي
ثمّةَ مجانين شوارع
أنا انتمي إليهم
مجانين الشّوارع، أعيادهم المشي
إن كانت هذه الأخبار لها صلة بالواقع بالحياة وبالوجود، نستشف وجودا آخر يساند يحرّر ألعاب النّار الإنفعاليّة في الدّاخل يرغبُّ الإنصات ويحفّز المخيلّة، سحريّة واقعيّة شعريّة تتناهى إلى ومضات سريالية أو فوق واقعيّة تنمّ عن حيثيّات قرائيّة من عزلة ماركيز وقبلها من البحث عن زمنيّات كافكاويّة قد يكون ذلك من ممهدّات هذا النّشاط التّعبيري الآتي وكالعادة إعدادُه مائدة خبريّة لفقير مسافر ممعن في الخواء
بيتي ثلاّجةٌ
تواجهني طبعا المشكلات
كضرورة الخروج من الثلاّجة
لإشعال سيجارة
كتابةٌ ليست رسميّة، لعوبةٌ عاهرة” كتابةُ سبٍّ من نوع آخر، تبعثُ العالمُ فتنبعث منها روائح فكريّةٌ ساخرة ومتينة في تعريفات شتّى للحياة.
الحياة
هذه الكلمة يا أخي تصلحُ
أن تكون كلمة قليلة الحياء
أو للعقل
هل تعرّفتَ الآن على مدلّل العقل
العقل آفـــــــــــــةٌ
بكلّ هذه العيّنات من الزّفرات المقتضبة يكمن إرسال الغناء، إدمانُ صاحبه على الحياة، حياةً مخصوصة حتّى يعلن نظريّته إلى الفعل الشّعري كفعل تحرّري ومعيشٍ مخصوصٌ كلّما وسّع من رؤيته ستضيق عبارته أو سيتكلّم إيماء من بيت عزلته، قدر مشتركٌ، لكنّه عازم عبد الحفيظ على أداء الفرعوني في محاولته الخلود عبر الفنّ في ظلّ موجات التكلّس الدّيني الأيديولوجي قد يذهب بهذه الشّعريّة إلى حالةٍ من الالتزام أيضا وفاءً ل” عبد الودود” الرابض على الحدود، ولكنه بصفة الكافر والمغاير، بهويّة ” طه: مستقبل الثقافة” وببصيرته، نفاذا عاجلا بلا مسوّغات ماكياجات بيانيّة بائتة.
خاتمة
عبد الحفيظ طايل في هذا المؤلّف واصل سيرته للتّعريف بشخصيّةٍ تتمدّدُ في التقدّم، لا تنساق وراء الكورس و لا تتبنّى الوثوقيّات الموسومة رغم روائحه المختلطة من السّيرة القرائيّة، ولكنّه وشم أسلوبه النّثري بخصوصيّة نكاد نفرزها بكلّ هذه اللاّمبالاة وهذا التّجاسر في وحدة المعنى عند مفترقات جمله الإخباريّة الإنشائيّة في آن، ممّا جوّز هويّةً أعْلت من طاقة التقبّل وأحالته إلى الشّعر.