ناني بالستريني
التقديم والترجمة: جمانة حدّاد
ناني بالسترينيمعه الكلمة تصير جسدا. لونا. موسيقى. معه الكلمة تضحك. تنزف. تغضب. تقع. هو من أعمدة مجموعة 63 التي رسّخت الطليعية الجديدة في ايطاليا. بدأ نجمه يبرز في الخمسينات عندما انطلق بالاشتراك مع شعراء بارزين آخرين من امثال ألفريدو جولياني وادواردو سانغوينيتي وايليو بالياراني، في سلسلة من التجارب اللغوية والأسلوبية الثورية المتمحورة في شكل خاص حول الشعر الصوتي والمرئي، استنادا الى الابتكارات التكنولوجية التي طبعت النصف الثاني من القرن العشرين. أما عندما أصدر عام 1971 روايته الشهيرة “نريد كل شيء”، فقد أصبحت هذه مانيفست اليسار المتطرّف الايطالي. نقل الشعر الى ميادين الموسيقى والسينما والرقص والنحت، وأيضا الى الانترنت والتلفزيون. منح اللغة دورا ثوروياً وهدّاما في مواجهة الذهنية الأدبية البورجوازية، فشكّلت كتابته لحظة قطيعة عنيفة، عملية ونظرية على حد سواء، مع اساليب الكتابة التقليدية، على غرار قلبه قواعد التواصل الصرفية والنحوية شكلاً، وتمرّده على الغنائية والذاتية مضموناً.
مع ناني بالستريني الكلمة تصير جسدا. لونا. موسيقى. معه الكلمة تضحك. تنزف. تغضب. تقع. لذلك فهو بامتياز شاعر الشعر الذي يتقن إطلاق النار على نفسه.
***
جمهور الشعر يحبه هو
من ذاك الذي
يحبه جمهور الشعر؟
تظاهروا بأنكم تتساءلون حتى إذا كنتم تعرفون الجواب جيداً
تواطأوا في اللعبة لأنكم نبهاء وطيّبون
جهور الشعر لا يحبّني أنا
وهذا أمر يعرفه الجميع فهو يحبّ آخر
لست أنا سوى أحد خدمه الكثيرين
أو لنقل رسله إذا كنا نتوخى التأنق
جمهور الشعر يحبّه
هو
هو فحسب
ودائماً هو
هو الذي لا يمكن توقّعه أبداً
هو الذي لا يمكن ممارسته أبداً
هو الذي لا يقبض عليه أبدا
هو الذي لا يلين أبداً
هو الذي يتجاوز دائماً الإشارة الحمراء
هو الذي ضدّ نظام الأشياء
هو المتأخر على الدوام
هو الذي لا يأخذ شيئاً قطّ على محمل الجدّ
هو الذي يضجّ طوال الليل
هو الذي لا يحترم أي شيء على الإطلاق
هو الذي يخاصم غالباً وبطيبة خاطر
هو الذي يظلّ صفر اليدين
هو الذي يتكلّم حين يتوجب الصمت
ويصمت حين يتوجب الكلام
هو الذي يفعل كلّ ما لا يلزم فعله
ولا يفعل شيئاً مما يلزم
هو الذي لا ينفك يظنّ نفسه لذيذاً
هو الذي يحبّ الفوضى من أجل الفوضى
هو الذي يتسلّق المرايا
هو الذي يعشق الهروب الى الأمام
هو الذي يحمل اسماً مستعاراً
هو الحلو ككعكة بالسكر
والمفترِس كمتاهة
هو الذي أجمل ما يمكن أن يكون
جمهور الشعر يحبّه
من ؟
أحسنتم يحبّ الشعر
وكيف يمكن جمهور الشعر ألا يحبّه ؟
ولمَ يحبّ الشعر تتساءلون ؟
ترى لأن الشعر ربما مفيد
يغيّر العالم
يسلّي ؟
ترى لأنه يخلّص النفوس
يحسّن الأحوال
يضيء يريح
يشرّع الآفاق ؟
بل جمهور الشعر يحبّ الشعر
لأنه يريد أن يكون محبوباً يريد أن يكون محبوباً
لأنه بعمقٍ يحبّ ذاته ويريد أن يطمئن
إلى مدى عمق حبّه لذاته
وجمهور الشعر لحسن حظّه
يتوهّم فحسب أنه يصغي الى الشعر
لأنه لو كان يصغي إليه حقاً لفهم
استحالة حبّه اليائسة ولا جدواه
ولكان دأب على صفع نفسه من الصباح حتى المساء
لحرق كلّ الكتب المعروضة في الساحات
ولألقى بنفسه في الأنهر
أو لأنهى أيامه التعيسة في أحد الأديرة
لأن الشعر
موجع هو الشعر
لكن لحسن حظّنا
لا أحد يودّ أن يصدق ذلك.
***
بابل
“كل يوم الشيء نفسه”
يتكلّمون بصوت خفيض
“أي يوم هو هذا؟ا”
بالكاد يتكلّمون
“اليوم هو يوم آخر”
يتكلمون على عجل
“يوما بعد يوم”
يتكلمون بشفاه مطبقة
“لقد كان هذا يوما رائعا!”
يتكلمون ليتكلموا
“لقد جاء اليوم المنتظر”
يتكلمون من رؤوس الشفاه
“هذا لا يصلح لكل الأيام”
يتكلمون بالتلميحات
“ليست تلك قضية يومية”
يتكلمون بلا تفكير
“منذ ذلك اليوم لم يعد يراهم احد”
يتكلمون وحدهم
“في يوم أو في آخر سوف”
يتكلمون منذ أعوام سحيقة
“نعيش كل يوم بيومه”
يتكلمون لأن لديهم ألسنة
“في ايامنا هذه”
يتكلمون في سرّهم
“في يوم مثل هذا اليوم”
ليس ثمة أحد ليتكلموا معه
“سيجيء اليوم الذي”
سيتكلم كل شيء ضدّهم
“ذات يوم سيعرفون”
أن يتكلموا بالعيون
“هناك أيام”
يتكلمون فيها فاتحين قلويهم
“ليست كل الأيام متشابهة”
يتكلمون مع الجدران
“الأيام تقصر”
يتكلمون مع الريح
“لم يزل هذا اليوم في أوّله”
يتكلمون بخفّة
“مذهل كم طال اليوم”
تتكلم الوقائع عن ذاتها
“من يوم الى يوم”
يتكلمون عن اي شيء
“واضح مثل ضوء هذا اليوم أن”
الخرس يتكلمون بالاشارات
“سوف تجيء أيام”
يرحلون فيها بلا كلام
“في أحد الأيام”
سيتكلمون جميعا في الوقت نفسه.