محمود : كشرفة سقطت بكل زهورها

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شعر .. مريد البرغوثي

في هالةٍ تحمي حياءً كامنا،ً

وبكبرياءِ خُطاهُ في المنفى وأرضِ عذابِهِ،

تسري مَوَدَّةُ قَلبِهِ قمَراً يضيء، بغير إلحاحٍ،

على أحبابِهِ.

وبه اندهاشٌ

يوقظ المألوفَ من إغمائه وكأنّه

يُخفي طفولتَهُ وراء شَبابِهِ.

العقل فيه مغامرٌ،

والقلب هيّاب يفرّ من التمادي في الهوى،

وصفاءُ عينيه الصباحيُّ احتفالٌ بالقصائدِ،

والقصائدُ لا تُرَدُّ ببابِهِ،

خذنا إلى الكُحليِّ يا بحرَ البلادِ

وطُفْ بنا في العالم المفتوحِ

أَسْمِعْهُ ارتعاشَتَنا

وقِصَّتَنا المقيمةَ في دفاتر شاعرٍ

مذ غَيَّبَتْهُ الارضُ سلّمت العيونُ بما رأَتْ

وقلوبُنا لم تعترِفْ بغيابِهِ.

 

وكأنه إذ ماتَ أخلفَ ما وَعَدْ.

وكأننا لُمْناهُ بعضَ الشيء يومَ رحيلهِ.

وكأننا كنّا اتّفقْنا أن يعيشَ إلى الأبدْ!

 

‘محمود إبنُ الكُلِّ’ قالت أمُّهُ،

وتراجعتْ عن عُشبهِ، خَفَراً، لتندفعَ البَلَدْ.

يا ويحها حوريةٌ،

هل أدركَتْ أنّ البلادَ لتوّها

قد ودَّعَتْ من كل عائلة وَلَدْ؟

محمودُ نامَ هنا ومَرَّتْ حَفنةٌ عبر الحواجز

من تراب البَروَة الممنوعِِ

لانتْ تحت دهشته ونامَ،

وفوق تلٍّ لا يُطِلُّ على الجَليلِ

رأيتُ غيْماتٍ قِصارَ العُمرِ

تبدو ثم تضمِرُها السماءُ، كأن أبيضَها

يصاحبه إلى عنوان غرفتهِ الأخيرةِ

كي يؤثثها، فيرضى عن أناقةِ ما يَرى.

كلُّ الطقوس تعطَّلَتْ فيها

فلا قَلَمٌ يضيف إلى الفراشَةِ ما سيُدهِشُها من الأوصافِ،

لا القرآنُ فوق الحامل الأرابيسك قُرْبَ البابِ

لا سيجارةٌ في الدُّرْجِ يخفيها حياءً من صديقٍ

لا مُسَوَّدَةٌ يمزِّقُها بلا أسفٍ

ولا كتبٌ منسقةُ الرفوفِ وراء مقعده الأليفِ

ولا صباحَ هنا ليكتبَ

لا مساءَ ليقرأ الإغريقَ ثانيةً ويحسِدَهُمْ

لأنَّ هناك في الأوليمب آلهةً

تعيد توازنَ الدنيا إذا مالتْ على أبطالِها.

متران أو أدنى قليلاً

فوق تَلِّ لا يُطِلُّ على الجليلِ

وغرفةٌ،

هذي الأكاليلُ المقامَةُ فوقَها

وركاكةُ الخُطَباء مِن أقفالِها.

 

ماذا سيأخذُ منك قبرُكَ في بلادٍ كنت أطلقتَ

الخيال كهدهدٍ يطوي الجهاتِ

لكي يحيطََ بحالِها.

 

لاحقتَ سارقها- عدوَّكَ،

لُمْتَ حاكمَها – صديقََكََ،

عاتَبَتْكَ للحظةٍ أو لحظتينِ، لغلطةٍ أو غلطتينِ

وسامَحَتْكَ مَدى الزّمانْ.

 

‘هو واضح حيناً، وحيناً غامض’

قالتْ،

ولكن راقَها سِحْرُ البيانْ.

 

وهوى الفِراقُ

كشرفة سَقَطَتْ بكلِّ زُهورِها

فَتَجَرَّحَتْ بالعِطرِ أرجاءُ المكانْ

لا بُدَّ مِن يومٍ كهذا

كي نرى في كل فلسفة غياب كَمالِها،

وهنا يزوغ يقينُنا والشكُّ أو يتثبّتانْ.

 

وهنا تَساوى العابدونَ بكل ما عَبَدوا

أمام فِرار لُغزِِ الكوْنِ مِن لمسِ البَنانْ.

 

شَرْقُ الزَّمانِ وغَرْبُهُ في دَمْعَةٍ يتَشابَهانْ.

 

نُصِبَ الكمينُ لنا كأبهى ما يكونُ

ونحن نركضُ نحوه كي نتقيه سُدىً

ونركضُ،

كل إفلات إلى حينٍ. وهذا اليومُ حانْ.

 

وخدَعْتَني.

لاقيتَ موتَكَ مرة ونجوتَ منهُ

لكي أصدِّقَ، بالتمنّي والسذاجةِ،

أنه خَسِرَ الرِّهانْ.

 

وعجبتُ بَعدَكَ

كيف أحيا بعضَ أحيانٍ،

وكيف أموتُ مِن آنٍ لآنْ.

 

هذا كتابُك في يدي بعد الغيابْ.

شِعرٌ تُوَقِّعُهُ بموتكَ غيرُه في حفلةِ التوقيعِ:

تقرأ خلف موسيقى من الإصغاءِِ والتصفيقِِ،

‘مبروك كتابُك’، ثم يبتسمون،

‘وقِّع لي هنا’، ‘وقِّع لأختى وابنِها أيضاً’

وأنت تُوَقِّعُ اسمَكَ خَلْفَ طاولةٍ من السَّهَرِ الأنيقِ،

وخلسةً،

يتسلل الموتُ الخفيُّ إليكَ كُرسيّاً فكُرسيّاً

وفي صمتٍ

يقودُكَ من يساركَ نحو داركَ كي

يشاركَ ما تبقّى من مسائك أو نهارِكَ

يا وحيداً باختيارِكَ واضطراركَ

فالفلسطينيُّ يختار اضطراراً كي يصدق أنه حُرٌّ

ووحدك كنت، أكثر من تَخَيُّلِنا،

كم استدرجتَ موتَك كي تُحَوِّلَهُ إلى لُغةٍ،

إلى إسمٍ فينسى فِعلَهُ يومَيْنِ أو عامَيْنِ،

كم حاورتَهُ ورَسَمْتَهُ وكتبتَهُ، فاوَضْتَهُ،

أوْقَفْتَهُ في آلة التصويرِ، قلتَ له ابتسمْ

لتكون أحلى، أنت أحلى داخل الإيقاعِ،

أحلى في سطوري من نواياكَ، ابتسِمْ

لم يبتسم

لم ينس ضيفُكَ دَورَهُ.

وألومُ نفسي

حين أبصر صوتَكَ المكتوبَ في غَبَشِ النهايةِ

فالمعاني الآن غيَّرَتِ الكتابْ!

 

هبط الغِطاءُ على البيانو

أطفأوا أنوارَ مسرحِنا وراحوا

ران صمتٌ في المدينة كلِّها

عاد الجميعُ من العزاء وأغلقوا الأيام خلف نهارهم

لم ينتصف ليلُ المدينةِ بعدُ

قلتُ أزورُه وحدي وأسهرُ قُربَهُ

‘خذني إلى محمود’ قلتُ لسائق التاكسي

فأوصلني بصمتٍ حيث تغفو فوق ربوتك الأخيرةِ

لم يقل حرفاً

توقّف في الظلام

وراح يهمس في يديه الفاتِحَة،

ومضى إلى أشغالِهِ.

 

وجلستُ وحدي

في حضوركَ مع زهوركَ،

عند آخرِ مَنْزِلٍ في الأرضِ يسْكُنُهُ الفَتى

وجلستُ وحدي:

 

تستحقُّ اللومَ فِعلاً يا صديقي

أنتَ مَن قرَّرْتَ أن تأتي إلى هذا المكان الآن

أنت من البداية كنت تنوي أن تغادر، كاملاً

وبلا سُعالٍ حين توقد سهرة الأصحاب

بالضحك الذكيِّ

وحين تُلقي الشِّعرَ في الآلاف

رمحاً أو نسيماً أو نشيداً واقفاً

لم تعترف بفضيلة العكّاز للولد

الرشيق المستقيم الظهر، عدّاءِ المسافات الطويلةِ

أنت من هرَّبْتَهُ قصداً وراء الغيمِ

تَدْفَعَ عنه كارثةَ الهَرَمْ

قلتَ اذكروني هكذا

بفتوَّة الكلمات والكتفين واليد والقَدَمْ

‘لن يشهدوا يوماً خريفي’، قُلتَها

وركضتَ مِن كَفِّ الطبيبِ إلى هنا

لتُقيمَ آخرَ أمسياتِكَ مع نجوم الليل في تَرْحالِها

 

هذي قصيدةُ شِعرِكَ اندفعتْ

لتبحثَ عنكَ فوق سهولها وجبالِها

 

كنتَ التقيتَ بها قديماً في الصِّبا

ثم انشغلتَ عن الصبا بخِصالها

 

وكما يليق بحارسٍ يَقِظِ اليدَيْنِ

تفَقدَّتْ عيناكَ حاجاتٍ لها لا تَنْقَضي

وقضيتَها سهَراً على أنوالِها

 

تشتدُّ كالرَّعْدِ المسائيِّ المباغت إذ تُريدُ

وقد ترقُّ لتصبح الوقفاتِ في موّالِها

مُتَمَلْمِلاً مما يُراد من الكتابةِ، عارفاً ماذا تريد لها،

تحصَّنك الشكوكُ الساهراتُ على سطورِكَ

أنتَ دوماً في خصام مع رِضاكَ

وفي حروبٍ مع مباهج أَمْسِكَ الشِّعْرِيِّ

فالماضى صديق الراكضين إلى الوراءِ

وقد تُخاطبُ فيك ‘محموداً’ سِواكَ تَحَبُّباً ومَلامةً

ترتابُ في أضوائه ووسامهِ

وتكاد تسخر من تفاؤله ومن آلامه

ونشيده ومقامهِ وغرامه

وكأنما في الشاعر الحقِّ التباس عابث

يحمي من الأوهام رغم جَمالِها.

 

وبَنَيْتَ موطنَنا على جَبَلِ المَجازِ

فكان أجملَ مِن خيال العسكريِّ

وكان أعلى من لِحى الفقهاءِِ

أوضحَ من فصاحات المُفاوضِ

كان أوسعَ من ميادين القتالِ

وكان أضيقَ من تقاتُلِنا عليهِ

وكان بيتاً سيداً يغري الحدائق رغم حزن آدميِّ

والبناتُ على الطريق إليه أذكى

والشبابُ على مداخلهِ حقيقيون

والشهواتُ فيه بسيطةٌ لا يقتضى موتَ الجميع

خُروجُنا لنوالها.

 

أوكلما نبتتْ عروق الزعتر الجبليِّ

حُتِّمَ أن نرى نزف المداخل حول أحمدك الشهيدِ

وكلما حصدوا السنابل في القرى

ذهب الخيالُ إلى سنابل كفر قاسمْ؟

 

أوكلما ازدادت مقاسات القميص على المفاوِضُ

لم نجد خبزاً لأرملة المقاوِمْ؟

أوكلما استعصى على الفوسفور طفلٌ لم يمتْ مِنّا

تَوَلَّتْ قَتْلَهُ باقي العواصم؟

 

أوكلما خرج الجَليليّون بالرايات من أجلي وأجلكَ

طَوّبوا الشهداء في خوف من النسيانِ

لولا أنّ آذار اصطفاهم

في قصيدتك التى سكنوا كراماً

في ثناياها وقاموا باسمينْ؟

 

ألآن تمتلئُ القصائدُ والشِّعابُ بشوك قصتنا

فنكتبُ شوكَ قصتنا

ونسقي ما استطعنا شتلة من ياسَمين.

 

فالشعر يرسم أطلس الدنيا قلوباً لا خرائطَ

وهو عائلة الغريب إذا تناءى، عن ممالكِهِ

وجمهوريةٌ للأسئِلَةْ

والشعر يرسم قومَنا الآتين من أسطورةٍ هُدِمَتْ

إلى أسطورة تُبنى

ويلمحُ ما توارى خلْفَ لحظته ولحظتِنا

ويلمس في الهشاشة سِرَّ قوّتها وقوّتِنا

ويقرأ سُكَّرَ امرأة تعدُّ الشاي للأولادِ فوقَ

حطام منزلها وتخفي دمعة عن آلة التصوير

ثم تقول للصحفي ‘لن أرحلْ’

فيعلم أنها انتصرَتْ

وحاكِمُنا يخاف الإنتصار كأنه مرَضٌ

فكم عُمْراً سيحكم دكتاتورُ الضادِ؟

كم عُمْراً ليشتاق المغول إلى ظُهور بِغالهمْ

كي يرحلوا؟

 

كم قلتََ لي أنا لا أخاف فلا تَخَفْ،

كم قلتَ لي

والشِّعرُ جَدُّكَ وهو جَدِّي

وهو بعدك وهو بعدي

يولد الشعراء من أوصاف دنياهم

ومن جسد المكان وليس من جسد الكلامْ.

 

والموت حين يباغت الشعراء يستولي على أقلامهم

لكنه لا يأخذ الأوراق من عُظمائِهِمْ أبداً

ونحيا في ظلال سطورها وتعيش أعماراً تجدد عمرها

لم يكتمل يوماً حوارٌ بين شاعر أمةٍ وزمانِهِ،

فهما معاً في لعبة أبديَّةٍ بين الخِصامِ والانسجامْ،

من مطلَعِ الإيقاع تبدأ،

ثم تبدأ من جديد بعد قافية الختامْ.

محمودُ نامْ.

نامت ديوكَ الهال قرب صباح قهوتِهِ، فأيقِظْها

وكن أنت العلامةَ يا حمامْ.

غنّاكَ في أرض الرصاص فَغَنِّهِ بين الغَمامْ.

زَوِّدْهُ بالأخبار منذ غيابِهِ،

أخْبِرْهُ،

لا تُخْبِرْهُ شيئاً،

سوف يعرفُ كلَّ شيءٍ وَحدَهُ،

يكفيه أن تُلقي السلامْ.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

شاعر من فلسطين

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

Project