محمود قرني.. كبرياء الشاعر، هيبة الشعر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سعد القرش

أتاحت لي بضع مصادفات حضور ملتقيات شعرية وثقافية عربية، من الخليج وشط العرب إلى المحيط الأطلسي. استمعت إلى الكثيرين، من المنصات العمومية وفي جلسات خاصة، وقرأت ما لا أحصي من قصائد ودواوين، ولم أجد من «الشعر» إلا رصيدا متواضعا. تتشابه عليّ الأعمال. تفتقد لطشة الفن، تنقصها الخصوصية. يستطيع الناقد، لو أراد، أن يرد هذا الحصاد الوافر إلى مصدره أو مصادره. تتناسل القصائد في غياب مفرزة نقدية تنتزع اللؤلؤ المخفي تحت ركام الزّبَد. غزارة تنطلق من اجتراء واستسهال، وتقليد للآخرين، واستنساخ «الشاعر» أحيانا لتجربته، استئناسا أو كسلا.
الشعر في أزمة. الأزمة سببها كثرة المعروض من قصائد يندر فيها «الشعر». التكرار أحد وجوه الأزمة. تكرار لا نجاة منه إلا بالتثقيف الذاتي مدى الشعر، مدى الحياة. ما يمنح الإبداع أصالته، وتجدده، هو الثراء النوعي لمبدعه. لا تكفي الروائيَّ قراءةُ الروايات، ولا الشاعر الإحاطة بتراثه الشعري. يمكن الحكم على «مبدع» بالإنصات إلى نصوصه من خارج حدود التخصص. وفي العالم العربي تستطيع الإشارة إلى بضعة شعراء يتجاوز وعيُهم دائرةَ الشعر، إلى الانخراط في عصرهم وفي الثقافة بمعناها الأشمل والأعمق. محمود قرني أحد القلائل الذين يعيدون إلى الشعر كبرياءه.
لا يرضى محمود قرني من الشعر بأقل من «الشعر». فائض الموهبة والنبل عاصم من شِرار، وشُرور، المجايلة. لعله أكثر أبناء جيله حفاوة بالجيل التالي من الشعراء. عرّاب محبٌّ، يتمتع بحنان الشاعر، يمدّ ظله إلى الموهوبين، الظل والدعم لا الوصاية. يمارس القسوة على نفسه. القصائد ليست كلاما مجانيا. الطبقات المعرفية، فلسفية وتاريخية وأسطورية، تخضع لحساسية الشعر. آلة طاحنة تذيب ذهنيات «الثقافة» في نسغ يشبه همس الناي، أو صوت أم كلثوم في «شمس الأصيل». في كتابه «بين فرائض الشعر ونوافل السياسة» أسى شفيف على مصير الشعر، وتقديم البعض من شعراء قصيدة النثر «تنازلات» بالعودة إلى الوزن؛ إنقاذا للشعر المحكوم بعبادة القديم.
لم يجد محمود قرني حاجة إلى تقديم تعريف للشعر. لم يذكر أن الشعر أسبق وأكبر وأجلّ من اكتشاف أوزانه، ووضع القواعد لبحوره، ومن محاولات التمرد على هذه القواعد. الشعر هو ما هو، أيا كانت وظيفته الجمالية أو المعرفية، ولا تقاس شعرية القصيدة بمعيار من خارجها. ولهذا يحتفي بمنجز محمد عفيفي مطر ومحمود درويش ومحمد سليمان، وغيرهم من شعراء قصيدة التفعيلة، بقدر حفاوته بشعراء شبان يكتبون قصيدة النثر. يغار على «الشعر»، حتى إنه يبدأ ديوانه «مسامرات في الحياة الثانية» (دار الأدهم، القاهرة 2022) بهجائية هامسة عنوانها «تعريفُ قصيدةِ النثر». هذا شاعر ذو إرادة صلبة، يقول في قصيدة «تفاؤل»:
أصدقائي يمرّون كسنبلاتٍ في أحلامي
فأهديهم تفاحة
وخارطة لأمنية بعيدة
لكنهم يأكلون التفاحة
ويتركون الأمنيات على قارعة الطريق.
في الديوان نفسه يقول في قصيدة «أمجد ناصر.. عشرة أبواب للسعادة»:
أعرفُ..
كم هو جائر يا رفيقي
أن تتساقط أسنانك
على عتبة المشفى
فتقذفها بيديك
في وجه غيوم لندن
لا بأس..
فلم يعد لديك أعداء تحتاج إلى قضمهم.
لا يريد محمود قرني ارتياد طريق سلكه غيره، أو قطع هو فيه شوطا. جديده دائما موعدٌ مع الشعر، الفن المصفّى من شوائب اللغة، المتجاوز للبلاغة العتيقة. يذهب الشاعر إلى الشعر وحيدا، يتيما تؤنسه صورٌ ودراما شفيفة مرسومة بالألوان المائية.
قلت إنه لا يرضى من الشعر بأقل من «الشعر». وفي مهرجان المربد الشعري الثالث عشر (البصرة 2017)، فاجأه مدّ قضايا كبرى. في بيت بدر شاكر السياب حضر أنصار عبادة الشكل، وتدافع أنصار عبادة «المحتوى». بتقادم القضايا ينتفي «الغرض» من الشعر ويُنسى، ويطوى طيّ السجل. بعض القضايا مزمن، لا يتقادم، تسري ذبذباته في أعصاب طائفية عارية. هناك أذكياء، صيادون للعواطف التاريخية، يستدعون مشاعر كربلائية؛ فيحظون بالتصفيق. قصائد لا تصمد للقراءة، لا تلائم موسيقى الغرفة، تلزمها ميكروفونات تلهب حماسة الجماهير، تدعو إلى نفير عمره ألف وأربعمئة سنة.
سيكتب محمود قرني قصيدة «وجوه البصرة»، في ديوانه «ترنيمة إلى أسماء بنت عيسى الدمشقي» (صدر عام 2019، وأهداه إلى روح كل من أمجد ناصر وخيري منصور). من وجوه البصرة: الفرزدق والخليل بن أحمد والحسن البصري وابن سلام. البصرة التي رآها في سنة 2017 غادرت نخلتها فناء البيت:
هنا فقط بيتٌ من الطين
تشتجر على سطحه كلاب أصفهان
«الملالي» يرفعون الأذان
والشعراء يفسرون أحلام الطالبيين
ويعيدون تدوين مقاتِلِهم.
القصيدة تعارض ما جاء في كتابيْ «العمدة.. في محاسن الشعر وآدابه ونقده» لابن رشيق القيرواني، و«كتاب الفصوص.. في المُـلح والنوادر والعلوم والآداب» لأبي العلاء الربعي البغدادي أن رجلا لقي آخر فقال له: «إن الشعراء ثلاثة: شاعر وشويعر وماصّ بظر أمه، فأيهم أنت؟ قال: أما أنا فشويعر، واختصم أنت وامرؤ القيس في الباقي». فيقول محمود قرني في ختام القصيدة:
أما إذا قال لك الأخفشُ
إن الشعراء ثلاثة:
«شاعر وشويعر ولاعق بظر أمه.. فأيهم أنت؟»
فقل له أنا الشاعرُ
ودعْه يختصم مع بغلة امرئ القيس
فيما تبقى.
من الإنصاف الاعتراف بأن بيننا شاعرا كبيرا. هذا حقه، وواجب علينا. لا أحب أن ألحق بالمبدعين المجيدين صفات «الكبير، المرموق، البارز». يكفي أنه «الشاعر». ما حيلتي ومحمود قرني كبير حقا؟ شاعرا وقارئا للشعر، وناقدا ثقافيا رائيا، ومخلصا يبشر ويرعى من يراه جديرا باستحقاق الانتساب إلى هذا الفن العصيّ.
أعود دائما إلى قصائد أحبها: «الله لا يسكن في بولاق»، «أنا: محمد السيد سلامة»، «قرطاسان من الزُبْد والعسل»، «عن زرافة جميلة يمكنك أن تطلبها للزواج!»، «زَغْرودَة مِنْ أجْل الحِكِمْدَار»، قصيدة/ديوان «لعنات مشرقية». وإلى كتبه: «خطاب النخبة وأوهام الدولة الأخلاقية»، و«وجوه في أزمنة الخوف».
حظي الشاعر الكبير بتقدير يليق بإنجازه. يخدش هذه الحفاوة موقفان. كنت شاهدا على أحدهما، وشريكا في الثاني. في صعود ثورة 25 يناير كتب محمود قرني مقالا منتظما في الأهرام. لا أميل إلى أفضل التفضيل، لكني أقرّ بأن مقاله الأكثر عمقا وجمالا وسط نحو مئة مقال تنشرها الأهرام في الأسبوع. كتب مقاله؛ فتبين للقارئ الخيط الأبيض في «الكتابة» من هراء عواجيز ينتمون إلى نظام مبارك، وصغار يمثلون الآن آخر قطفة من الكتبة. لم تحتمل الأهرام مقالات محمود قرني. وظل الهراء طافيا في صفحات الرأي ذات الطابع التايواني. لم يكتب يحيى حقي في الأهرام، ولا تزال مقالاته في «التعاون» ملهمة. هذا الصائغ الماهر للؤلؤ الكتابة ورثه آخرون، منهم بهاء طاهر الذي قال له رئيس تحرير الأهرام عام 2012: «احنا الأهرام»، فانسحب بهاء، كما انسحب محمود قرني تاركا جمل الأهرام بما حمل.
في مارس 2021 أصدر محمود ثلاثة كتب: «بين فرائض الشعر ونوافل السياسة.. الشعر العربي بين ثلاثة أجيال»، «لماذا يخذل الشعر محبيه؟»، «الوثنية الجديدة وإدارة التوحش»، ومختارات شعرية عنوانها «أبطال الروايات الناقصة». كتب في صفحته الفيسبوكية أربعة سطور: «قبل أن يتساءل أحد لماذا أربعة كتب دفعة واحدة؟ أقول: لمّا رأيتُني قاب قوسين أو أدنى من الموت، بسبب ظروفي الصحية، دفعت بما يمكن طباعته وما رأيت أنه جدير بأن أقدمه للناس. صحيح أن خزانتي لم تفرغ بعد وما زال هناك ما يستحق النظر، لكن الأمر ربما يحتاج إلى جهد ووقت ليسا بمقدوري الآن، وآمل أن يمتد بي العمر حتى أتمكن من إنجاز بعض ما أتمناه». لم أقل له إنني حملت الكتب الأربعة إلى رئيس تحرير مطبوعة ثقافية، وأوضحت له أهمية الشاعر وموقعه. ولم ينشر سطرا عن تلك الأعمال، ولا عن ديوانين تاليين لمحمود قرني.
تلك واقعة لا يعرفها محمود قرني. أذكرها، وأتذكر عنوانه ديوانه «تفضّل.. هنا مبغى الشعراء».
ــــــــــــــ
(“المصري اليوم” 29 / 3 / 2023)

مقالات من نفس القسم