حاورته: نشرة معرض الكتاب
ما الذي يعنيه لك صدور ديوانك الجديد “الأيام حين تعبر خائفة” عن دار نشر حكومية “الهيئة المصرية العامة للكتاب”، بعد مرور تسعة أعوام على ديوانك الأخير “كل ما صنع الحداد” 2010 الصادر عن “صفصافة للنشر”؟
ـ صدور ديوان “الأيام حين تعبر خائفة” هو في الحقيقة أمر يعني الكثير بالنسبة لي، فقد كتبت “كل ما صنع الحداد” قبل عشرة أعوام تحت وطأة إحساس عميق بالهم الاجتماعي، هذا الإحساس الذي كان صادقاً على ما يبدو، لدرجة أنه تجلى صراحةً في الشوارع والميادين العامة، خلال ثورة “25 يناير 2011″، بعد كل هذه السنوات الطوال التي مرت، أردتُ أن أكتب قصيدةً غير متوقعة، في ديواني الجديد، فأنا لا أحب الشعر المتوقع، وبالتالي خرج الديوان الجديد تحت وطأة هذا الإحساس العميق بالرغبة في الحديث عن الذات، ستجد مراوحةً جديدة بين العام والذاتي في نصوص هذا الديوان، وهي المراوحة التي قامت عليها كثير من قصائدي. والحق أن “الأيام حين تعبر خائفة” قد انتشلني من فخ السرد، فقد كنت بدأت قبل عامين كتابة فصول من سيرتي الذاتية، وبدأت نشرها في صحف مصرية وعربية، كما عملت على كتاب جديد بعنوان “التاريخ إذا روته قنينة خمر”، وهو كتاب بين السرد والبحث، إلا أن هذا الديوان الذي بدأت كتابته منذ أعوام، شاء أن يكتمل ليصدر في هذا التوقيت، ويعيدني إلى الشعر من جديد.
ثانياً: لأن ديوان “كل ما صنع الحداد”، من بين الدواوين الأربعة السابقة لي الذي حظي باهتمام أسعدني، فقد تُرجم إلى الفرنسية، إبان مشاركته في مهرجان “سيت” لشعراء البحر المتوسط، “أصوات حية”، في فرنسا عام 2015، وترجمت جريدة “الأهرام إبدو” أغلبه إلى الفرنسية أيضًا ونشرتها على صفحة كاملة، عام 2010.
ثالثاً: لأنني أحببت أن يصدر ديواني الجديد عن دار نشر حكومية، وسعيد لأنه صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، لأنني أصدرت كتاباً شعرياً واحداً من قبل عن وزارة الثقافة هو “فانتازيا الرجولة” عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1998، فرأيت أن عشرين عاماً مع النشر الخاص قد تكون مهلة كافية لأعود إلى دور النشر التابعة لوزارة الثقافة.
لكن عفواً وبمناسبة السيرة الذاتية..ما عنوانها ولماذا في هذا السن المبكر؟
ـ حين تكون في أواخر الأربعينيات من عمرك، لا تشعر أن الوقت مبكر على السيرة الذاتية، غير أنها حلم قديم سعدت جداً بما تحقق منه، وقد كتبتُ منها ثلاثة فصول نشرت اثنين في صحف عربيَّة ومصريَّة، وأشعر بنشوة مبهرة وأنا أكتب روايتي، تماماً مثلما أشعر أن الأمر ينطوي على فخٍ كبير، لكنني أعشق في حقيقة الأمر هذه الفخاخ. عنوان السيرة الأوَّلي “قطار بطيء إلى القاهرة”، ولو صدقت توقعاتي، قد أنتهي منها خلال 2020، وساعتها سأكون على مشارف الخمسين.
هناك اتهامات يوجهها بعض النقاد لشعراء جيل التسعينيات بوصفهم دخلوا بالقصيدة إلى نفق مُظلم (التفاصيل اليومية والرصد التقريري الذي يفتقد إلى التخييل ودهشة الشعر) .. ما رأيك؟
ـ يا صديقي لا تقول لي كلمة “نقاد” لأنها كلمة مطاطة وقد لا تعني في حقيقة الأمر أحداً بعينه، مَن هؤلاء النقاد الذين يلومون قصيدة النثر، وهم لم ينتجوا خلال ثلاثة عقود من مناقشات نقدية جادة سوى كتب قليلة ـ لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ولم يكتب أغلبها نقاد ـ عن قصيدة النثر، تلك التي غيَّرت شكل الشعر العربي، وحولته إلى قصيدة شعر نابضة بالحياة وقادرة على إثارة الدهشة ومساءلة الواقع لا من أجل تغييره بالضرورة بل من أجل تحميله قيمة جمالية مُضافة، على الأقل، يا رجل وهل هم النقاد الذين شرَّعوا استبعاد قصيدة النثر من جوائز الدولة أم هم النقاد الذي قنَّنوا استبعاد “قصيدة النثر”، من مناهج التربية والتعليم في المدارس. طبعاً كلامي هذا لا يعني أنني راض عن كل ما يكتب من شعر جديد، لكنني فقط أتحفظ على اتهام الشعر بأنه دخل في نفق مظلم، والذين يوجهون هذا الاتهام هم أبناء طبيعيون لعدة أنفاق اجتماعية وسياسية مظلمة.
لكن كثيراً من شعراء جيلك يتم تجاهلهم نقدياً؟
ـ لا.. أنا من المحظوظين نقدياً ولدي قائمة مطولة لمن كتبوا عن أعمالي، بأقلام أعلام النقد والإبداع في الوطن العربي، مثل الدكتور شاكر عبدالحميد والكاتبة عبلة الرويني، والشاعر الراحل حلمي سالم والشاعر محمود قرني والروائي طارق إمام والشاعر إيهاب خليفة وغيرهم، لكن ما أقصده هو أن النقد الجاد في مصر قليل جداً، في الوقت الذي تزداد المساخر التي نراها مثلاً في بعض الجوائز الأدبية التي يحكمها النقاد أيضاً، وإذا كنت تسأل عن النقاد فنحن لا نمل التذكير بأن قصيدة النثر المصرية التي تملأ الساحات وتنشد على منابر الشعر في العالم الحر، محرومة من التنفس الطبيعي لها، مثلما هي محرومة من الترشح لجائزة الدولة التشجيعية، وكأن قصيدة النثر أقل شعرية من الأغاني أو شعر العامية، الذي نقدره ونتمنى له أكثر من جائزة، وبالتالي قبل أن تلومنا على ما كتبنا وجِّه اللوم إلى الذين يفسدون الشعر والنقد والذائقة المصرية ويمنحون الجوائز لكل عابر أو “عابرة” سبيل، حيث لا تسمع بعد ذلك عن هؤلاء الشعراء الذين يفوزون بجوائز الدولة التشجيعية أبداً، كأنهم يختفون فوراً وفي لمح البصر، وفي ندوات معرض القاهرة الدولي للكتاب، لا تتم دعوتهم أبداً، في حين أن شعراء قصيدة النثر صاروا مدعووين بشكل أساسي في ندوات معرض الكتاب، حيث نجح شعراء هذه القصيدة ـ رغم كل هذه العراقيل ـ في لفت أنظار الجمهور الذي يحب الشعر، بينما الحاصلون على جوائز الدولة في الشعر “بخ” فص ملح وفاز.
بطريقة أخرى: هل حققت قصيدة النثر شروط وجودها واستطاعت أن تخلق جمهورها أم أنها لاتزال نخبوية بعيدة عن اهتمام البسطاء رغم أنها تكتب عنهم؟
ـ الحقيقة أن قصيدة النثر حققت شروط وجودها بنسبة كبيرة من حيث انتشار كتابتها بصورة مذهلة في مصر والوطن العربي خلال العقود الثلاث الماضية، وبالتالي هي لم تخلق جمهوراً بقدر ما أنجبت شعراء مهووسين بها، والسؤال (لماذا لم تخلق جمهوراً) يمكن التماس الإجابة عنه لدى لجنة الشعر وبيت الشعر الشهير باسم “بيت الست وسيلة”، الذي لم أدخله مرة واحدة في حياتي والحمد لله، وذلك بفضل دعوات أمي الطيبة، التي أوصلتني دعواتها وأمنياتها لي بالتوفيق إلى القاء قصائدي بالقرب من قبر الشاعر الفرنسي الكبير بول فاليري، عام 2015 في مدينة “سيت”، حيث ألقيت قصائدي أمام معالم مدينته الفرنسية الجميلة والمطلة على البحر المتوسط، وساعتها اكتشفت أن الوصول لقبر الشاعر الفرنسي أسهل من الوصول لـ “بيت الست وسيلة”، فلم توجه لي دعوة واحدة من البيت أو من من المجلس الأعلى للثقافة، ولعلمك كان الجمهور الفرنسي يستمع إلى قصائدنا مترجمة بسعادة بالغة ويقاطع المترجم بالتصفيق عدة مرات، رغم أنه كان يدفع 15 يورو ليحضر ندوة شعرية، وهكذا يكون الأمر لتصنع للقصيدة الجديدة جمهوراً، لكن القائمين على الشعر في مصر للأسف يكرهون الشعر.
لماذا قدمت مختارات للشاعر الفلسطيني طه محمد علي بعنوان “صبي الفراشات الملونة”، 2018، قبل ديوانك بعام، على الرغم من أنه لم يكن شاعراً معروفاً في مصر قبل هذه المختارات؟
ـ بالضبط، لأنه لم يكن معروفاً في مصر رغم أنه وضع على قائمة أهم مائة شاعر في العالم خلال القرن العشرين وانتقلت قصائده خلال عشرات اللغات الأوربية، وتعرفه مناهج البحث النقدي في جامعات “تل أبيب”، لكنه ظل مستبعداً لأنه لا يصح من وجهة نظر “النقاد” الأشاوس، أن يكتب قصيدة نثر جادة، شاعر فلسطيني لم يغادر “الناصرة” قبل أن يموت عام 2011 عن ثمانين عاماً، وقد قدمته أيضاً خدمةً لطلبة كلية الألسن “قسم عبري”، الذين كانوا يدرسون قصائده بالعبرية، بسبب تأثر شعراء إسرائيل الكبار بشعره، وهؤلاء الطلبة المصريين لم يقرأوا قصائد طه بالعربية، إلا بعد صدور هذه الطبعة لأول مرة، والتي نفدت خلال أسابيع من منافذ الهيئة ومخازنها، وأطالب الدكتور هيثم الحاج علي، رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، بإصدار “طبعة ثانية” من كتاب “صبي الفراشات الملونة” الصادر عن سلسلة “الإبداع العربي”، (العدد 24)، خدمة للقراء المصريين المعنيين بقصيدة النثر العربية، وهؤلاء لا حصر لهم في حقيقة الأمر، سواء كانوا طلبة أو مجرد قراء عاديين، وقد رأيت كيف اهتمت الصحف المصرية بالشاعر الفلسطيني الكبير الراحل، وكيف خصَّصت له صحيفة “أخبار الأدب” ملفاً من أربعة صفحات، كتبته الزميلة العزيزة إسراء النمر، معبرة عن إعجابها الشديد بالشعر والشاعر.
ألم تحلم يوماً بالحصول على جائزة في مصر؟
ـ من يكتب قصيدة النثر في مصر لا يستطيع أن يحلم بالجوائز، إلا من الخارج، وهو أمر شبه مستحيل، لكن التعاطف مع القصائد من القراء هو أفضل الحيل التعويضية التي يفضلها الشعراء، ثم أين هي الجائزة التي تمنح للشعر؟ باستثناء جائزة معرض الكتاب والتشجيعية لا توجد جوائز للشعر في مصر. وتلك كارثة كبرى يمكن أن نسأل عنها مثقفاً ووزيراً سابقاً روج لشائعة “نحن في زمن الرواية” ثم صدقها.
أنت واحد من أهم شعراء جيل التسعينيات في قصيدة النثر .. حدِّثنا عن مفهومك للجيل الشعري، هل مازال مصطلح “جيل” صالحاً للتعبير عن تجارب شعرية لها سمات جمالية معينة؟.. أم يقف عند دلالته الزمنية فقط؟
ـ جيل السبعينيات الشعري هو النموذج الأمثل لفكرة الجيل، من وجهة نظري، فقد كتبوا لوناً واحداً وأصدروا مجلات له وكتباً نقدية لمتابعة هذا النتاج، وحين كتبت قصيدة النثر تحولوا إليها جميعاً في أزمنة متقاربة، معتبرين أنفسهم يعبرون من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، حيث كانت نكسة واحدة أنجبتهم هي نكسة 1967 وحرب واحدة جمعتهم هي حرب أكتوبر 1973، وكان الانحياز إلى الجمالي هدفاً واحداً يضمهم مع اختلاف الطرق، الأمر الذي لم يتكرر بعد ذلك لا في جيل الثمانينيات، ولا في جيل التسعينيات، الذي كان يتكون جمالياً وذهنياً وعاطفياً في أماكن متباعدة، من قرى ومحافظات مصر، حيث كان الكل يحفر بمفرده، لكن فكرة قصيدة النثر المتخلصة من كل أسباب الماضي وأساليبه وطقوسه الجمالية، كانت تسيطر على الجميع، بلا نكسة وبلا حرب، ليس أكثر من إحساس عميق بتفتت الكيانات الكبرى في العالم، لذلك كل واحد من شعراء جيل التسعينيات كتب عالمه الخاص، على طريقته الخاصة، وبعد مدة طويلة تم الكشف عن جيل متقارب الملامح ظهر في الأسواق، “رغم الفروق العمرية بين محمد صالح مثلاً وعماد فؤاد”، وتلك هي فكرة الجيل التي أعتقد في فعاليتها، أي الجيل الذي يلتقي حول معنى أعمق من التراتب الزمني، ولذلك أعتقد أن انطولوجيا “ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ” لعماد فؤاد، أكثر إصدار أضاف إلى معنى الجيل الشعري وساهم في بلورته.
ما رأيك في جيل “ما بعد التسعينيات”، إن جاز التعبير.. هل تتابع هؤلاء الشعراء.. هل تراهم يستطيعون أن يشكلوا ملامح جيل جديد؟ .. أم أنهم لا يزالون يدورون في فلك جيل التسعينيات؟
ـ طبعاً أتابعهم وأنت ومحمد القليني من أبرز أبناء هذا الجيل، وأعتز بصداقة عدد كبير منهم، لكنني لا أعتقد أنهم يشكلون ملامح “جيل فني واحد”، لأن هناك تبايناً واسعاً في الاتجاهات والأساليب والرؤى، فهناك من لايزال يعتمد على رطانة القصيدة البلاغية القديمة رغم كتابته قصيدة النثر وهذا أمر مُريب، ومنهم من وجد صوته الشعري ويبقى أن يطوره ويضيف إليه، ومنهم من لم يجد نفسه بعد في الشعر لكنه متأثر بالجيل السابق، وربما يتجه ـ لاحقاً ـ إلى كتابة فن آخر كالرواية مثلاً.
هل استطاع العالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي خلق فضاء جديد داخل القصيدة؟ هل نستطيع أن ندعي أن القصيدة التي تكتب الآن هي قصيدة محملة بوعي جديد فرضته الشبكة العنكبوتية؟
ـ لا الشبكة العنكبوتية فرضت وعياً جديداً ولا يحزنون، كل ما هنالك أن البعض يقضي وقتاً أطول على صفحات الفيسبوك، ويظن أنه امتلك العالم بزيادة عدد “اللايك” على ما كتبه، كما أن بعض النصوص الشعرية أخذت طريقها للانتشار بدءاً من الفيسبوك وغيره من طرق التواصل الاجتماعي، لكن ذلك كله لا يعني في واقع الحال أي شيء، الشعر يبقى شعراً ويظل قادراً على أن يكون شعراً في أي فضاء، وإذا كان الفضاء الأزرق يصنع بريقاً اليوم مرهوناً بذائقة حفنة من الأصدقاء المرتبطين أسلوبياً ببعضهم، إلا أنه لا يكفي لكي يصنع شاعراً. وإلا كان هشام الجخ ـ بهذا المعنى المجاني للشهرة ـ أكثر شاعرية من أدونيس.