د. يسري عبد الله
ثماني عشرة قصة قصيرة تشكّل المتن السردي للمجموعة القصصية “العجوز بائع المسافات” للقاص المصري محمد ممدوح، والصادرة في القاهرة حديثاً من “دار ميتا بوك”.
تتماس نصوص القصص مع ماهية النوع الأدبي (القصة القصيرة)، وتنطلق من خصائصه الجمالية المستقرّة، حيث انّ الإيجاز والتكثيف حاضران بامتياز داخلها، فلا استطرادات مجانية، ولا زوائد لفظية هنا، ولا ترهلات في البناء القصصي. وتبدو أكثرها طولاً (9 صفحات) قصة “حنين الأيام البعيدة”، والتي يصدرها الكاتب بمجتزأ للروائي الكبير إبراهيم عبدالمجيد “المكان العجوز مثل البحر يطارد صاحبه”.
ويحمل المجتزأ وشائج مع النص والمجموعة معاً، وتُبنى هذه القصة على ما يُعرف بتكنيك الشخصية الغائبة المحرّكة للسرد، فمع اختفاء الصديق الذي غيّبه السجن، تتحرّك شجون الصديقين الآخرين (السارد الرئيسي وحسن)، وفي دائرة من التيه والارتباك والفقدان العابر للذاكرة احياناً يوجد الأب، أما الشمس والنهر فيشكّلان خلفية المشهد القصصي، وهما مفردتان متواترتان في المجموعة ومن الدوال المركزية داخلها. وهناك أيضاً مساحات رحبة من اللعب بالضمائر في الانتقالات السردية داخل القصة.
وفي القصة المركزية “العجوز بائع المسافات”، والتي تحمل المجموعة اسمها، ثمة عجوز لا يكتفي بقطع المسافات ولكن يطاردها وتطارده الأماكن، ثلاث مدن بثلاثة عوالم، تتواتر داخل القصة “رائحة بحر مخضّبة بشمس غاربة، ومدينة تنبعث منها الموسيقى وحدها، وثالثة تعوي فيها الريح”، وتتكرّر الوحدات الثلاث داخل القصة بصيغ متعدّدة في الصفحات من (41 إلى 44).
تتسع مساحات التخييل القصصي أكثر حين تقرّر المشاعر الذاتية للعجوز الهرب، في مفارقة خيالية، ومن ثم لم يستطع الرجل استحضارها في أي من المشاهد الثلاثة، وتتسرّب الأزمة إلى المجموع، وتتصاعد الدراما التخييلية، ومعها يأتي اقتراح العجوز في نهاية القصة إيذاناً بالمختتم السردي الذي لم يأتِ من خارج الحكاية فبدا ذكياً ولامعاً: “اقترح العجوز استبدال بعض قطع الأرض بأخرى في مدن بعيدة، استعان بمن يساعده في تدوين مساحة كل قطعة، وتحديد موضعها من الشارع، نبتت لبعضها زوائد ذكريات فشلوا في التخلّص منها، فوصلوها بأخرى تحمل ذكريات ومشاعر متشابهة، نقلت القطع بكثافة عربات نقل ضخمة. في اليوم التالي وردت ثلاث قطع إلى المدينة؛ برائحة بحر مخضبة بشمس غاربة، تنبعث منها موسيقى، وترمح فيها ريح أسفل سماء غائمة. بكى العجوز، وثبتها في مدخل بيته” (ص 44).
التخييل الموضوعي
تنهض المجموعة على آلية التخييل الموضوعي، في جانب منها، من قبيل القصة الأولى (كيس شفاف) التي تتسع فيها مساحات الخيال بدءاً من الفكرة الأساسية، والاستهلال القصصي الذي تنطلق منه، حيث يهرب كيس بلاستيكي شفّاف من نافذة مفتوحة على العالم، فلا يستقرّ به المقام في سلّة قمامة، ولا ينزوي في ركن مظلم، وإنما يمارس هوايته في الطيران، ومع حركة الكيس الطائرة ثمة حركة موازية من السارد الرئيسي في التحليق، تظلّ محدّدات العالم هنا رومانتيكية مثالية؛ فالكيس الطائر يمنح السعادة للأطفال والعابرين، حاملاً أمانيهم البعيدة. وهي رؤية مثالية حالمة للعالم.
قد ينطلق القاص من أساسات واقعية، يستهل بها نصوصه، ثم سرعان ما يغادرها إلى عوالم تخييلية من قبيل قصصه “سيارة كفافيس”، “برائحة الماء والشمس”، “أحزان منتصف الليل”؛ وعلى اختلاف في ما بينها.
في “سيارة كفافيس”، ثمة رجل ببالطو أصفر يقف في الخلاء ومعه كتاب يطيل النظر فيه، وسيارة مارقة أمامه، وصفقة غرائبية في النهاية بينه وبين سائقها.
وفي قصة “برائحة الماء والشمس”، وباء الجر هنا تحمل معنى متصلاً باستحضار هاتين المفردتين المركزيتين في القصص (الماء والشمس)؛ وفي القصة ثمة تغريب للمألوف، حيث يستقر “كيلوت” ذو شكل عجيب، في فاترينة، فهو مصبوغ بتصاوير غريبة: كوخ خشبي لعجوز يطل على نهر، وشمس في الزاوية، وهي توصيفات جميعها رومانتيكية، لكنّ قفزة الخيال هي ما منحت النص جدارته هنا، حيث سيلان النهر، ودفء الشمس، وخروج العجوز من الكوخ في تكوينات جمالية تشبه اللوحة القصصية.
وفي “أحزان منتصف الليل”، ثمة بداية واقعية صرف، لا تتخطّى المفتتح كالعادة، حيث هناك شخص يبحث عن شبكة Wi- Fi فينزل إلى الشارع علّه يلتقط شبكة أحدهم. ثم تتوالى الأحداث التي تغادر منطقة الواقع وإن احتفظت بظلال لها من قبيل الجدة والأم. ويبدو الخوف عنصراً رئيساً هنا، واللعب على المساحات النفسية للشخصية المركزية جوهراً في البناء.
في “سلم يتطلع إلى السماء”، نرى سردية الأشياء وأنسنتها وصبغها بطابع تخييلي، فضلاً عن التناص القرآني الوارد في عنوان القصة مع الآية الكريمة أو “سلما في السماء”.
في “شوارع ممتلئة بالموسيقى والموت”، يستهل الكاتب قصته بمدخل دالّ: “أحبت البنت اللعب في الشوارع الطويلة. تشعر فيها بالحرّية مستمتعة بالنظر لشرفات، ونوافذ مفتوحة، ترى فيها ولداً يستعد لإطلاق طائرة ورقية للسماء ، أو بنتاً تنفخ في فلوت فضي يدهش السائرين. أحياناً تقابل حكايات أطول في تفاصيلها من بعض الشوارع. وتلعب دور أم وفتاة عندما لا تجد أحداً من أقرانها، وقد تُداعب عصفورها الذي يقف على نافذتها كل صباح، وقُتل ببندقية صياد، لتدفنه بجوار شجرة في مدخل البيت”. (ص 35).
تلوح في هذا المفتتح القصصي خمس وحدات سردية مركزها البنت التي تجابه قسوة العالم، وفضاؤها النافذة، وعيناها تتعلقان بطائرة الولد الورقية، ورفيقها عصفور قتله الصياد.
هنا تصبح البنت وجه الحياة وضوءها، حين تغالب الموت، والعتمة.
في قصة “البارمان”، هناك ثلاث ممثلات، وشاشة عرض، ونزعة إيروتيكية موظفة بشكل جيد؛ لكن النص يخضع للمخيلة العامة العامة، دون أن يسائلها أو يضيف إليها، فالكتابة مراجعة عميقة، على الكاتب أن يؤسس من خلالها وعياً جديداً.
فكرة الكتابة
في “أجمل كتاب في العالم”، ثمة قصة تعاين فكرة الكتابة والكتاب من منظورات إنسانية خالصة، يصبح فيها أجمل كتاب في العالم هو ذلك القادر على امتلاك آلية العبور والمجاوزة والتخطّي، ويبدو الكاتب مشغولاً بمعاينة فكرة الكتابة من الداخل في النصوص الثلاثة “أجمل كتاب في العالم /سطر يكتب حكاية/ مشهد اخير لقارئ الروايات”.
يختتم الكاتب مجموعته بقصة “أبواب الفتاة الألمانية”، المتكئة على تكنيك الجملة المدهشة في الختام، والمفارقات الدرامية بظهور المرأة التي تحول بين الشاب وفتاته، وعندما تلوح السيدة من جديد وهما يتبادلان الغرام، يكون الردّ الفوري من الفتاة بأنّها تعلّمه الألمانية. هنا لا إغراق في التحليق، ونفاذ ساخر إلى المعنى.
وبعد… هذا كاتب موهوب، وهذه مجموعته القصصية الثالثة بعد “سراب أزرق، وكاميرا تصطاد بحراً”، وقد صار أكثر نضجاً و تماهياً مع نصه، وإن كان بحاجة إلى معاينة عوالم أخرى، تضيف إلى مشروعه السردي الذي يمكن لنا الرهان بقوة على جدّيته، واختلافه.
…………………………..
*نقلاً عن “النهار” اللبنانية