حسن عبدالموجود
كان «الشعب» اسماً على مسمّى لصيدلية محمد سليمان، إذ حوّلها فى السبعينيات إلى مكان يقصده الناس، وهم متيقنون أنهم لن يعودوا خائبين، حتى لو كانت جيوبهم خاوية.
وهذه حكاية دالة بطلها رجل مذعور وطفل مريض. دخل الرجل الصيدلية وهو يحمل ابنه، وقال بينما يمد يده بورقة شبه متآكلة: «أنا عايز الدوا ده أحسن يموت»، وجمع سليمان العلب المطلوبة بسرعة ووضعها أمامه، ثم فوجئ به يطلب منه حمل الطفل بدلاً منه، فتخيّل أنه يريد إخراج المال من جيبه، لكنه رآه يخلع البلوفر القديم ويضعه أمامه، ويقول له بتوسل: «أرجوك خليه عندك لغاية ما اجيبلك فلوسك»، لكن سليمان طلب منه بأبوة أن يعيد ارتداء البلوفر، فبدا التأثر الشديد على الرجل، إذ انساب خطان من الدموع على خديه والتقيا فى بحيرة صغيرة أسفل أنفه.
وهذه حكاية أخرى حزينة كذلك. فوجئ سليمان برجل يحمل توءماً هذه المرة، ووضع مفتاح سيارة أمامه، وقال: «ده مفتاح عربية الفيات بتاعتى.. قدّام الصيدلية آهى، خدها والنبى وادينى قصادها لبن للعيال دى لغاية ما يتفطموا»، لكن سليمان أعاد إليه المفتاح وأعطاه خمس علب لبن، وأخبره أن باستطاعته المجىء – فى أى وقت – ليحصل على ما يريد، ويمكنه تسديد دينه حينما تتحسّن الأمور.
وبسبب كثير من هذه المواقف قرر سليمان أن يخصِّص دفتراً للآجل، وبالتالى كان باستطاعة أى شخص أن يحصل على أى أدوية يريدها، مع إمكانية السداد لاحقاً، لكن كثيرين كانوا يعودون ليحصلوا على مزيد من الأدوية ولا يدفعون أى مليم.
كان سليمان يجلس فى منزله ذات يوم من أيام عام 2009 ورنّ جرس التليفون، وفوجئ بالطبيب فى الصيدلية يخبره بأن هناك شخصاً طاعناً فى السن يصر على مقابلته، ليدفع له خمسة جنيهات مدين بها منذ 79، فضحك سليمان وقال للطبيب: «قول له كده عدّى تلاتين سنة، وإنى مسامح، وهزّر معاه، وخليه يبرْوزها فى البيت»، لكن الرجل رفض التحرك من مكانه حتى يسدد الديْن. بدا كأنه شخص خرج لتوّه من كتاب قديم، ليذكّر سليمان بحكايته الطويلة والعظيمة والممتعة مع الوظيفة.
كان حلم الصبى محمد سليمان أن يعمل مدرس ابتدائى فى قريته «مليج» بالمنوفية، وصارح عائلته برغبته فى الالتحاق بمعهد المعلمين فى «شبين الكوم»، لكن مشكلته أنه كان طالباً متفوقاً، وحصل على مجموع كبير، فقرر أبوه إرساله للدراسة فى جامعة القاهرة، وهكذا أدرك سليمان أن اجتهاده الزائد قضى على حلمه.
كان صاحب «سليمان الملك» و«هواء قديم» يحاول إقناع العائلة بكلية الآداب، غير أنهم أصرّوا على إدخاله كلية «الصيدلة»، لم يكن – وهو يخطو من باب جامعة القاهرة – يعرف شيئاً، أى شىء، عن مهنة الصيدلة، ولا نوع الدراسة، سهولتها أو صعوبتها، غير أنه قبِل خوض المغامرة، أياً كانت النتيجة. كان ماكينة مذاكرة، وشاباً ذكياً ولماحاً، وشبّهه أقرانه بالإسفنجة، إذ كان قادراً على امتصاص أى معلومة، واستيعاب كل الدروس، مهما بدت صعبة، ولم يكن هناك جديد، فقد كان نفس الطالب المتفوق، الذى يحصل على أعلى الدرجات، لكن ذلك لم يستمر أكثر من عامين، وكان السبب غريباً بعض الشىء..
عرف سليمان أن الكلية تقيم أمسية ثقافية شهرية، تدعو إليها عدداً من الكتّاب المعروفين. وقد وجد نفسه فجأة أمام نجوم الثقافة ممّن يقرأ لهم فى الصحف القومية، يوسف إدريس، وصلاح جاهين، وسهير القلماوى، وفى لقائه الأول وقف ليلقى قصيدة عمودية، أمامهم، وفوجئ بصلاح جاهين ينادى عليه، ويثنى على قصيدته، وسأله بضع أسئلة محاولاً – ربما – أن يفهم كيف يفكر هذا الفتى النحيف فارع الطول فى مستقبله كأديب، ثم نصحه بأن يتابع ما يكتبه شعراء التفعيلة الرواد، وكذلك كتّاب القصة والرواية الراسخين، وأن يكف عن الكتابة التراثية أو الشعر العمودى تحديداً، وهذه النصيحة وجّهته مبكراً لقراءة شعر صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازى وحفظه، كما تابع ما تنشره «الأهرام» من قصائد، لكبار الشعراء، لويس عوض، وكمال عمار، ونجيب سرور، وغيرهم. كانت هذه انحرافة فى خطّ سليمان الدراسى المميز، فبسبب ولعه المتزايد بالأدب، تراجع تقديره من «جيد» ابتداء من عامه الدراسى الثالث فى الكلية، إلى «جيد جداً»، وترتب على ذلك تغيُّر نمط حياته، إذ كان يحصل بسبب تفوقه على 28 جنيهاً كل ثلاثة شهور، وهو مبلغ خيالى فى الستينيات. كان باستطاعته أن يعيش ملكاً بخمسة جنيهات، إلا أن المبلغ الكبير جعله طالباً إقطاعياً، وساعده على شراء ما يريد من الكتب، وارتياد دور السينما. كان يذهب كذلك إلى قاعة «إيوارت» فى الجامعة الأمريكية، ليستمتع بحفلها الموسيقى الأسبوعى، كما انتظم فى حضور حفلات الأوبرا الخديوية، لكن الأمر انتهى بكابوس. عبر أمامها – ذات يوم من أيام أكتوبر 71 كما اعتاد على مدار سنوات – متجهاً إلى شارع الجمهورية حيث يقيم، ورآها تحترق، فتوقف أمامها مشدوهاً ثم انهار باكياً. لم يستوعب عقله ضياع كل هذا التاريخ المغلّف بجمال لا مثيل له.
تخرج سليمان بعد النكسة بعام، أى فى 1968، وزفّ إليه أبوه خبراً اعتقد أنه سيُسعده، فقد أخبره بأنه حجز مكاناً له فى القرية لتأسيس أجزخانة. كان الأب محباً للحياة، وخدوماً. وقد فكر فى الاطمئنان على مستقبل ابنه، لكنه أراد كذلك أن يرتبط اسم عائلته بأول صيدلية فى «مليج»، إذ أن هذا سيوفر على الأهالى مشقة ضخمة، حيث كانوا مضطرين للذهاب إلى «شبين الكوم» على بُعد كيلو مترات ليحضروا أدويتهم، وفى بعض الأيام لم تكن المواصلات متوفرة فى الأوقات المتأخرة.
لكن الأقدار كان لها رأى آخر، فقد أجبرت ظروف الحرب محمد سليمان على قبول التكليف الحكومى، بالعمل فى الشركة المصرية لتجارة الأدوية. كل شىء كان ممنوعاً فى توقيت الحرب، الإجازات والاستقالات والهروب، وقد رضخ الأب على أمل أن يتحقق حلمه بعد أن انقشاع ضباب النكسة، واستمر الابن فى الشركة منذ بداية يناير 69 وحتى نفس الشهر من عام 74، وكانت الشركة هى الوحيدة المسؤولة عن توزيع الأدوية على صيدليات ومستشفيات مصر، كما كانت تستورد بعض الأدوية، وكذلك ألبان الأطفال.
وجاءت خطوته الأولى فى منطقة القاهرة الدوائية، وكان مقر عمله فى شارع الألفى. كان وحيداً فى العاصمة، وبالتالى كان يطيب له أن يعمل لأطول وقت ممكن، وبسبب هذا طمع فيه كثير من الزملاء، خاصة كبار السن، كان أعزب، ولا يحصل على إجازات، ويسهر حتى الفجر، حتى لو كان لا علاقة له بالنوبتجية، ثم يذهب إلى بيته لينام بضع ساعات ويعود من جديد بذهن متقد، وأحبه رئيس المنطقة، فقد كان يراه فى غرفة المكتب التى تضمهما يعمل بدأب وصبر، ولا يرفع عينيه عن الأوراق، كان «قطر شُغل»، وخيّمت رائحة النكسة على المكان، مثلما كانت تخيّم على مصر بأكملها، وأتاح له الوجود فى هذا المكتب فهم ما يدور حوله، وأن يتلمس إلى أى حد كانت الفاجعة ومرارتها. ورأى كثيراً من المشاهير يأتون إليهم ويطلبون منهم استيراد أدوية مضادة للاكتئاب والانهيارات النفسية والعصبية، فلم تكن متوفرة فى هذا التوقيت. كانوا يمتلكون مكتباً فى شارع «عماد الدين» لهذا الغرض، ولم يكن طلب استيراد أدوية قاصراً على فئة المشاهير وحدها، بشرط أن يدفع الزبون ثمن عشر علب أو ما يكفيه لمدة عام من الدواء، وأن يُحضر روشتة بحالته من طبيب مختص.
يحكى: «كنت أسمع رئيس منطقة القاهرة يحدث صلاح جاهين المكتئب فى التليفون، ويسأله: انت لا كنت على الجبهة ولا حاربت.. مالك مكتئب ليه؟! كان جاهين منهاراً نفسياً، وحاول رئيس المنطقة التخفيف عنه، أو إثناءه عن تناول تلك الأدوية، أو التخفيف منها، لكن جاهين كان مُصرّاً، ثم حدث ووجدته أمامى فى المكتب، وسلمت عليه، وتبادلت معه حديثاً قصيراً عن الأدب. كان الحزن يكسو ملامحه بطبقة ثقيلة، وهكذا كان حال يوسف إدريس، لكن جاهين كان منظماً أكثر من إدريس، الأول لطالما حضر إلى المكتب فى مواعيد ثابتة، خاصة فى الصباح، أما يوسف إدريس فكان يطيب له الاتصال، ليسألنى: قاعد لغاية إمتى؟! وكنت أخبره بأننى سهران، وكان يطب علىَّ فجأة فى الثالثة أو الرابعة بعد منتصف الليل، وذات يوم وجد كتاباً للبياتى أمامى فأمسك به وألقاه من الشباك، وقال لى: إيه الزفت اللى بتقراه ده؟! لكن صلاح عيسى أخبرنى بعد ذلك أنهما على خلاف بسيط، لكنهما عادا لاستكمال صداقتهما، حيث رآهما منذ يوم أو اثنين يجلسان فى مقهى بوسط البلد».
أصبح سليمان صديقاً صغيراً ليوسف إدريس، وكانت أول نصيحة منه ألا ينتمى لحزب ما، وقال له بالحرف الواحد: «كل حزب هو زنزانة. حافظ على حريتك واستقلالك، ولا تلتحق بأى تنظيم سياسى». كان دواء جاهين أقراصاً، أما إدريس فـ«حقن». يحكى: «كان يأتى إلىّ ويعطينى الروشتة، وكنت أضحك لأنه كان يكتب الدواء لنفسه، كان يوسف إدريس الطبيب والجرّاح – كما هو مدوّن بالورقة – يكتب اسم الحقنة للمريض يوسف إدريس»!
كان سليمان مسئولاً عن تمويل صيدليات الزمالك ووسط البلد وإمبابة بالإضافة إلى محافظة القليوبية، وقد تنقّل من فرع إلى آخر، ثم شعر فجأة بالوظيفة تخنقه، وسيطر عليه إحساس بالغضب، فقد كانوا يمنحونه – شفوياً – إدارة أى فرع يذهب إليه، لكنه لم يحصل على أى امتيازات أو عمولة، كالمدير الحقيقى. تركوه يقوم بواجباتهم، وكانت الأموال تدخل جيوبهم فى النهاية. وأصبح الحل المؤقت بالنسبة له أن يرحل إلى مقر جديد، حيث يتكرر كل شىء بحذافيره، وهكذا، حتى إن زملاءه سخروا منه، وأطلقوا عليه لقب: «المدير المتجول»، كانوا ضحكاتهم تتعالى بمجرد رؤيته، ويصيحون: «المدير المتجول جه.. المدير المتجول راح!»، وفى عام 70 هرب سليمان من عمله. قرر وضع حد للأمر، وترك كل شىء وراءه، لينجو بنفسه، وعمل فى صيدلية بإمبابة، لكنهم عرفوا مكانه بعد فترة قصيرة، وأرسلوا الشرطة فى إثره، فأعادته إلى عمله، وسأله مديروه: ماذا تريد؟! فقال بوضوح: «عايز ابقى مدير فرع». اشترط أيضاً أن يحصل على نفس حوافزهم، وقال لهم إن مرتبه يضيع على أجرة التاكسيات، كما أنه يمكث ساعات طويلة فى العمل، وبالتالى يضطر إلى تناول وجباته فى المطاعم، فقرروا التخلص من زنّه المتواصل، وغضبه الهادر، وجعلوه مديراً لفرع «النصر» بشارع شريف، لكنهم ساوموه على العمل فترتين وقبِل فوراً، وهناك التقى بالفنان صلاح ذوالفقار. يحكى: «جاء هو الآخر ليطلب بعض أدوية الاكتئاب، وكان شخصاً ودوداً، وفوجئت به يعرض علىّ مرةً دوراً فى فيلم يقوم ببطولته، فضحكت، إذ لم أتخيل نفسى أبداً ممثلاً. حاول ذو الفقار إقناعى، لكننى اعتذرت، فهناك ما هو أهم ينتظرنى. ندوة قصر ثقافة الجيزة»، يقولها ويضحك.
وفى قصر ثقافة الجيزة جرت قصة شهيرة يطيب لسليمان ترديدها. كان يذهب كقارئ أو متفرج، لكن حمدى الكنيسى سأله مرة: «بتكتب حاجة؟!»، وبتردد أخبره، وبضغط من الكنيسى سلمه كشكولاً يمتلئ ويفيض بقصائده، ثم فوجئ بالكنيسى يسلّم الكشكول بدوره إلى صلاح عبدالصبور، بل ويستضيفه فى برنامجه الإذاعى «أقلام جديدة» ليتحدث عن تلك القصائد مبشّراً به وبها. وبعد سنوات أخرى بدأ صديقه أمل دنقل يضغط عليه ليتخلى عن وظيفته لمصلحة الشعر، لكنه رفض، فطلب دنقل من عبدالصبور التدخل، واستدعاه عبدالصبور، وقال له ما يعنى أن خير الأمور الوسط، وأنه لا يوافق دنقل على مسألة ترك العمل، وفى نفس الوقت لا يوافق على استمراره فى شركة الأدوية، وعرض عليه صاحب «أقول لكم» وظيفة فى إدارة النشر بالهيئة العامة للكتاب، لكنه رفض، وكرر عرضه بعد عودته من الهند عام 79، لكن سليمان تمسّك بموقفه، فقد منحه العمل أهم ما كان يطمح فيه. أن يعيش وسط الناس، وكان يرى أن الشعر لن يأتيه إذا عاش فى غرف مغلقة، أو فى هيئات لا يرتادها سوى الموظفين الكسالى.
لكن ما يعنينا من هذه القصة أن حماس كبار الشعراء له، وضع حداً لأى تفكير بالعودة إلى مسقط رأسه لتأسيس الصيدلية، ثم جاءه من «مليج» صيدلى حديث التخرج، ليستوضح منه – بأدب بالغ – إن كان سيعود لتأسيس الصيدلية أم لا؟ فطمأنه: «تقدر تقوم بالخطوة دى بدلاً منى»، وقبل أن يغادر الصيدلى اقترح عليه الدخول معه شريكاً، لكن سليمان أخبره بحسم بأن هذه الخطوة انتهت بالنسبة له.
بعد انتهاء الحرب سُمح – لمن يريد – بالاستقالة من شركة الأدوية، وهكذا بدأت خطوة جديدة فى حياة سليمان الوظيفية، إذ قرر افتتاح صيدلية فى «الوايلى الكبير». كانت أول صيدلية تُنشَأ فى هذا الحى، داخل أزقة تشبه وكر ثعابين، وقد سحرته المهنة بالكامل، إذ اكتشف من خلالها تأثير البلاغة الشعبية عليه، لدرجة زلزلته، وكان أصحاب البلاغة أشخاصاً شديدى العادية. دخل إليه كهل مرة، وسأله: «بقى عندك الدوا ده كله ومفيش حاجة تفيدنى بيها؟! مالك يا عم كده؟! نفسى اقول آلو». لم تكن الفياجرا قد ظهرت قطعاً وقتها، لكن جملة الرجل الذكية المغلّفة بالسخرية والشجن كانت كافية لتقول كل شىء.
دخل رجل آخر طاعن فى السن يحمل حفيدته، وأنزلها إلى الأرض، وقال لسليمان: «عايزين حاجة للعروسة دى، ميّتها بتسبقها دايماً». كانت الطفلة تعانى من التبول اللاإرادى، ولم يشأ الجد أن يحرجها، وبما أنه كان يمتلك قدرة على البلاغة فلماذا يتحدث بشكل عادى؟!
لم يحتج سليمان إلى وقت طويل ليصير صديقاً للجميع فى هذه المنطقة، إذ كانوا يبثونه أوجاعهم، ويكشفون أمامه ببساطة أسرارهم: «قعدت 38 سنة فى الصيدلية، لم أستطع خلالها شراء سيارة، أو شقة، فقد اكتشفت أن الناس هنا فقراء، وموظفون صغار. كان من الصعب بيع مستحضرات التجميل فى مكان كهذا، ولم يضايقنى الأمر. وقد أحضرتها مع افتتاح الصيدلية، ولاحظت أن الفتيات يأتين إلىّ، وتمد الواحدة منهن يدها إلى المونيكير، وتطلى أظافرها، وتقول لصديقتها أو قريبتها: جربى لون تانى، وهكذا، ثم يغلقن العلب ويغادرن. ولاحظت أن كريمات وصبغات الشعر تتجلّد داخل علبها، وزجاجات الكولونيا تجف، وفهمت الأمر. هذا مكان أقرب إلى قرية وآخر ما يفكر فيه الناس هنا تجميل أنفسهم، بينما يتجهون إلى آلاتهم ليتحولوا إلى تروس، ويعودون فى نهاية اليوم وقد غطّى الشحم ملابسهم وملامحهم وأرواحهم»
كان الشخص يأتى منهم ويطلب عدداً من علب الأدوية، ثم يعيد علبة أو اثنتين، وفى كل مرة يسأل: «كده الحساب بقى كام؟!» لكن سليمان كان يمنحه الدواء بالكامل، ويقول له: «لمّا الأمور تتحسن ادفع اللى عليك»، ثم قرر عمل دفتر للآجل، وطبعاً هذا أضر بالصيدليات التى فتحتْ تباعاً حوله، ثم جمعَ الصيادلة أنفسهم وذهبوا إليه، ليقولوا له: «الكلام ده مينفعش، انت بتخرب بيتنا كده»، لكنه لم يتراجع، فقد كان الأمر نابعاً من قناعة داخلية. سكن سليمان فى حدائق القبة، وكان يذهب يومياً إلى الصيدلية، وحينما يدخل شارع الوايلى كان الناس يوقفونه ليسلموا عليه، إلى أن يصل إلى مقر الصيدلية فى 103 شارع الساقية. كان شيئاً عادياً أن تأتى إليه امرأة تبكى، وتحكى له عن حماتها، وقسوتها، وتمثّل أمامه – كأنه وكيل نيابة – جريمة أمّ زوجها، وهذه الجريمة إما «علقة ساخنة» أو «قلمين» أو تمزيق ملابس.
يقول: «كنت محظوظاً بعدد من الأطباء حولى، ومنهم طبيب اسمه فهمى إمام كان يعيد إلى معظم المرضى حق الكشف، وكذلك الطبيب محمد ثابت، الذى كان يحدد سعر الكشف المنزلى حسب شكل البيت وطلائه وأثاثه، فإذا وجد الناس بسطاء يطلب نفس ثمن الكشف فى العيادة، وكان 20 قرشاً، وفى بعض الحالات كان يرفض أصلاً – حتى – الحصول على هذا المبلغ الزهيد، وكان يحمل بعض عيّنات الأدوية معه، ويمنحها للمرضى، وكذلك قد يعطيهم حقنة مجانية، أما لو تيقن أن الأسرة ميسورة فربما كان يرفع الفيزيتا قليلاً».
اكتشف سليمان أن شعبيته ازدادت للغاية لدرجة أن السكان جاءوا إليه لإخباره بأنهم يجمعون كفالة لـ«الواد دقدق» وحينما سألهم: «هو محبوس فى إيه؟!» ردوا عليه: «مخدرات!». كان المبلغ كبيراً، أو خيالياً، بالنظر إلى أننا نتحدث عن عام 80، إذ بلغ قرابة ألفى جنيه، لكنهم طمأنوه أن الجميع سيدفع، كل واحد ومقدرته، جنيه أو اثنان، أو خمسة، أو عشرة، وهكذا دفع لهم، وكان حريصاً على أن يكون كريماً للغاية. يحكى: «جاء إلىّ شخص يشبه الباقين، إلا أنه يبدو ميسوراً من ملابسه، ومن الخواتم الكثيرة التى تخنق أصابعه المكتنزة، وكذلك كان وجهه يدل على أنه يتناول اللحم بانتظام، إذ كان شبيهاً بإنسان بوتيرو، ولكن بعد تمصيره. طلب بعض علب الأدوية، لكنى كنت أشعر بالفضول، وقررت أن أساله: انت ساكن هنا؟! فابتسم بمزيج من الفخر والحماسة، وقال لى: شوف يا دوك. أنا بقى كبير الحرامية فى المنطقة دى. أنا بعون الله اللى بسرح النشالين فى التروماى والأتوبيسات والشوارع، وانت أصلاً فى حمايتى، وِمْحرَّج على العيال دى محدش يهوّب ناحيتك يا آبا، اللى هيمد إيده على الأجزخانة هقطعها له، متخفش أبداً يا دوك، انت فى إيد أمينة».
هذا الموقف ذكّر سليمان بشىء آخر، إذ أنه قرر من البداية عدم شراء الأدوية المخدِّرة، رفض استلام شحنات من «برشام أبوصليبة»، وكذلك منتجات المورفين. سمح فقط بشراب «كودايين فوسفات» للسعال، ثم لاحظ أن الشخص منهم يأتى إليه ويطلبها مفتعلاً الكحة، وبعد مغادرته الصيدلية يقف على بُعد أمتار، ويفرغها مرة واحدة فى جوفه، ثم يتجشأ، ويلقيها على الأرض، لدرجة أن شركة الأدوية انتبهت إلى الأمر، وقررت رفع المادة المخدرة من الأدوية. كان سليمان يستمتع بعد ذلك برؤيتهم يشربون الزجاجات العادية خالية التأثير، ويضحك فى قرارة نفسه، لكنهم تنبهوا للأمر بعد ذلك. كانت رائحة الكودايين تفوح من مئات الزجاجات وتزكم هواء الأزقة، يقول: «قررت إراحة دماغى من البداية، وكذلك عدم إيذاء الناس، وقد جنيت ثمن ذلك، إذ كسروا كل الصيدليات فى المنطقة، بحثاً عن الأدوية المخدرة ونهبوها، أما أنا فلم يقترب أحد من أجزخانتى أبداً». وقد تنبّه سليمان كذلك إلى الترامادول قبل أن يُدرج فى الجداول أو تحظره الدولة بسنوات، حينما طالع التركيبة الدوائية: «شعرت بالفزع، كانت تركيبة مخدرات»!
حُبس سليمان عام 85، بصحبة 27 شخصاً آخر، منهم أحمد طه، وبشير السباعى، فى سجن القناطر، بتهمة إنشاء تنظيم يسارى متطرف، وقد سأل أبوه أقرباءه: «اتأكدولى الأول اتحبس ليه، لو كان بسبب الكتّاب أنا مش رايح له!» وبالتالى رفض زيارته. واجتمع أطباء وأهالى المنطقة، ليتدبّروا أمر الصيدلية المهددة. صحيح أن الأهالى لم يشاركوا الأطباء بسبب أحوالهم الصعبة، إلا أنهم كانوا خائفين من إغلاقها. صار سليمان ابناً للكهول والعجائز، صار صديقاً للموظفين والحرامية، صار طبيباً نفسياً للفتيات والأرامل والمطلقات، صار أباً للأطفال والشباب. وهكذا تعامل الأهالى مع عملية جمع المبلغ المطلوب كأنها تخص عزيزاً لهم. انتهت الأمور بسلام. سدّدوا ديون شركة الأدوية، ووظّفوا صيدلياً شاباً، وحينما خرج سليمان من الحبس بعد شهرين عاد ليجد الأجزخانة متوهجة كأنه لم يغادرها سوى ساعات.
لا يشعر سليمان – الذى لم يهتم بالمال – بالندم أبداً. يقول: «عشت تجربة حياتية عميقة. لم أترك نفسى للعزلة وسط الكتب والمؤلفين، واخترت أن أعيش وسط الناس. شاهدت معهم كل المواقف الكبيرة. تأثير نكسة 67، والزهو بانتصار 73، وانتفاضة الخبز 77. كما عشت أحداث الفتنة الطائفية 81، كانت أحداثاً صعبة لكنها لم تخل من مواقف عظيمة، إذ رأيت أسراً مسلمة تخبئ أسراً مسيحية. وأنا فخور، لأننى عشت تلك التجارب، وأصبحت جزءاً من ذاكرة هؤلاء البسطاء»..
يقول محمد سليمان فى أجمل قصائد ديوانه «هواء قديم»:
بعلب ملوّنة
وبائع يتسلّى بعدِّ أسنانه
كان عليه أن يظل واقفاً هناك.. مسلحاً بقوة الضعف
وصامداً كأنه المقلاة
وكان عليه أن يقعد فى الدكّان عشرين سنة
ليساعد امرأة بمعقود السُكّر
وطفلاً على التبوّل خارج السرير
وكان عليه أن يساعد شيخاً على دخول بستانه
وأن يبيع «النوفالجين» حبّة حبّة
كى لا يصير كحامل النعوش.