ساري موسى
يركن الكاتب والمترجم المصري محمد الفولي إلى الذاكرة في كتابة قصص مجموعته ((تقرير عن الرفاعية)) (الكتب خان)، لا بوصف الأحداث التي يختزنها فيها بدءاً من طفولته ماضياً انقضى أراد أن يستذكره بدافع من الحنين مثلاً، بل لكونها شديدة الاتصال بالحاضر الذي يحرض على العودة إليها ويذكّر بها، انطلاقاً من أغنية شعبية سمعها، أو كابوس رآه، أو فيلم شاهده، أو شخص صادفه في الشارع… حتى الحاضر نفسه في بعض القصص نجده لا كزمن حالي تجري فيه الأحداث كما يوهمنا الكاتب في البداية، إنما بوصفه ماضيا مستعادا أيضا لأن السرد يدور في زمن لاحق.
ولأن مادة القصّ وموضوعاتها تنبع من الذاكرة الشخصية فإن ((محمد الفولي)) هو بطلها وساردها معاً، يحكيها لنا بلغة بسيطة يومية مع لمسة من خفة الدم المصرية، كونها تتناول أحداثا ((عادية)) قياساً بالتحولات الكبرى والمصيرية التي تجري في مصر والبلدان المجاورة، دون أن يقلل هذا من أهميتها ومصيريتها بالنسبة لحياة وعائلة شاب ثلاثيني موظف ومتزوج، يحاول أن يعيش حياة طبيعية في بلد يموج بعشرات الملايين ممن يحاولون الأمر نفسه.
تنقسم المجموعة إلى جزأين، يشير الكاتب قبلهما إلى كون قراءة قصصها لا يتأتّى إلا عبر الترتيب الذي أوردت فيه، يمكننا اعتبارها إذن متتالية قصصية، تكون بعض الأمكنة مسرحاً لأكثر من قصة، وتتكرر بعض الشخصيات فيها، كما تترتب قصصها فوق بعضها للوصول إلى الذروة في النهاية، كما سنقرأ في القصة الأخيرة التي حملت المجموعة اسمها عنوانا لها.
عنون الكاتب الجزء الأول ((أبطال منسيون))، تذكرهم بمحض الصدفة أو بسبب أرقه المزمن، أو ربما بفعل الضيق والندم على فعل لم يكن له يد في اقترافه وهو أنه كبر، إذ ((لا يوجد من هو أحمق من الإنسان: في الطفولة يحلم بالهروب نحو البلوغ، لكنه حينما يصل إلى مبتغاه يرغب في استرداد تلك الأيام ويتيه بين الجانبين، فيلتفّ حبل العمر حول رقبته ويصرعه ببطء)). هؤلاء الأبطال المنسيون هم بلطجيون وحشاشون وتجار حشيش صغار ومطربون شعبيون وحواة أفاعٍ، أساطير في أحيائهم الشعبية التي كان الفولي الطالب يهرب إليهم من مدرسته، مثل عم زينهم صاحب محل البلايستيشن ومغارة الحشيش، وعنتر عضمة نقيض الفولي في كل شيء، دون أن يمنع هذا التناقض قيام شراكة بينهما قوامها المصلحة المادية، وعلاء بوكس الذي يضاهي ميسي ورونالدو في المهارة الكروية رغم كونه يلعب حافيا وبسيجارة مشتعلة ومثبتة دوما في زاوية فمه، وأيمن حلاله صاحب أغنية الفأر المختبئ تحت السرير…
القصة الوحيدة التي تنجو من ذاكرته الشخصية هي ((الحقيقة وراء المطرية)). عمليا هي قصة عن ذاكرة المكان، يبحث فيها عن سبب تسمية الحي الذي يعيش فيه باسم المطرية، تقوده في دروب متداخلة بين الصوفية والمسيحية، تضيع عبرها حقيقة الاسم.
إلى جانب التنويع والتداخل الزمني، هناك تنويع مكاني أيضا. تقوم الذكريات بدور الجسر الواصل بين القاهرة التي نشأ فيها وتعلم في جامعتها، ودارفور التي يخدم فيها ضمن الكتيبة المصرية من وحدة حفظ السلام الإفريقية، ومدينة مالاجا الإسبانية التي سافر إليها بعد ذلك مستفيداً من دراسته للأدب الإسباني وذلك في ((قصة حب رعب آهات)). تخدمه دراسته كذلك في الربط بين ما جرى لعلاء بوكس رفقة حبيبته سماح ابنة أبلة فاتن القوادة، ومسرحية لا ثلستينا التي تتناول موضوعاً مشابهاً.
في الجزء الثاني المعنون ((ثلاثية الأفاعي))، يتضح مقصد الكاتب ب((الرفاعية)) التي يرفع تقريره عنها. فالرفاعية في الأساس هي طريقة صوفية سُميت نسبة إلى القطب الصوفي أحمد بن علي الرفاعي، بدأت بزاوية صغيرة وسط القاهرة تمارس فيها شعائرها قبل أن تأمر أم الخديوي إسماعيل ببناء مسجد كبير لهم في المكان ذاته، بسبب كراماتهم التي نالتها حصة منها، كما تقول إحدى الحكايات الشائعة، التي تضيف أيضا أنه كان للشيخ أحمد الرفاعي قدرة السيطرة على الحيوانات وترويضها ومنها الأفاعي، كما يرد في قصة ((إبراهيم الرفاعي))، وهي بحث مكاني جديد في سبب تسمية الشارع الذي يقع فيه بيت الكاتب باسم هذا الشخص، ومحاولته معرفة من يكون. أما الرفاعية التي يقصدها الكاتب فهي طائفة من الحواة ومروضي الأفاعي، يسيطرون على الناس الذين يختارونهم ويجتذبونهم إليهم بقوة تشبه السحر كما يسيطرون على أفاعيهم، فلا يجد المرء نفسه إلا وهو يتحول إلى رفاعي تدريجياً دون قدرةٍ منه على إيقاف عملية تحوله هذه التي تستغرق سنوات، وهذا ما يكتشف الفولي حدوثه معه في قصته ((تقرير إلى الرفاعية))، التي يرى كل شيء خلالها يتحول إلى ثعابين، ويتذكر رؤيته للعديد منها في أماكن وأوقات مختلفة ومتفرقة دون أن يعطي لظهورها، ورمزية هذا الظهور المنذرة بتحوله، أي أهمية.
تختلف القصة الأخيرة عن باقي قصص المجموعة، كأنها ملحقة بها من خارجها، وهو اختلاف مفهوم يتعلق بالوضع الجديد للكاتب، وسببه عملية التحول المذكورة سابقاً، فهي قصة مكتوبة من أجل المستقبل وكي تصل في المستقبل، بعد سنوات من كتابتها. لا ذكريات فيها، فالحاضر يفرض ثقله ومهابته حاجباً كل ما عداه. ((لم تعد تغذيني الذكريات، بل تقودني الحقائق التي تخرج عن كل ما هو مألوف))، يقول. فقد تحول المترجم العامل في وكالة إسبانية للأنباء إلى هارب من كل شيء؛ ماضيه وذاكرته وعائلته ومعارفه، ومن الرفاعيين الذين يريدون تحويله إلى ثعبان، لنجد أنه هروبه لم ينجيه من مصيره، والخطر الآن صار يتهدد ابنته التي تركها عندما كانت في الرابعة من عمرها وحاليا هي في التاسعة عشرة ومتزوجة، وزوجها نفسه هو مصدر الخطر، إذ أهداها ثعباناً في عيد ميلادها الأول بعد زواجه منها، تبيّن لها أنه كان يعرف اللغة الإسبانية في حياة سابقة!