سرحت في عالمها الخاص، مع أنقاض هدية أبيها الجديدة، لعبة السيارة التي تحولت إلى ركام وبقايا معدنية وبلاستيكية، بفضل رغبة الصغيرة في استكشاف أسرارها. تفكك أجزاءها المتبقية. تعيدها إلى مكوناتها الأولية. تحولها إلى كم كبير من التفاصيل المتناثرة.
حتى انقطع الإرسال التليفزيوني فجأة!
كان صوت الوشيش المزعج دافعَا قويًّا للنظر إلى الجهاز، ومتابعة تلك النقاط السوداء المنتشرة على شاشته التي اعتادت عليها مع انتهاء الإرسال الليلي، لكن أشعة الشمس ما زالت متناثرة خلف الشبابيك المغلقة، ومع ذلك لم يستوقفها الأمر كثيرًا، بل وجدته ذريعة مناسبة لترك موقعها على الكنبة الخشبية المواجهة للتليفزيون، والدخول إلى الشرفة الواسعة، منتهزة فرصة انشغال والدتها في المطبخ. تعرف أن هذا ممنوع في غير وجود الكبار خوفًا من أن تشب وتتعلق بالإفريز وتسقط من الدور الثاني، لكنها الآن بعيدة عن الرقابة يدفعها الملل والفضول.
دخلت الشرفة الواسعة، حيث يمكنها مراقبة عصافير الخواجة اليوناني المنتشرة على إفريز شرفته لتلتقط الحَبَّ. لم تحب لَمَى تلك العصافير الرمادية التي يطلق عليها الأطفال “عصافير المجاري” كما أنهم يطلقون على اليوناني لقب الخواجه “بوسطه” حتى نسى هو ذاته اسمه، لكنها كانت تنتظر حتى تنتهي العصافير من التقاط الحَبِّ الذي ينثره لها الخواجه بنفسه، وتطير، وترتاح على إفريز السطح المقابل، أو تنتشر على الأشجار اليابسة، قبل أن تبتعد في اتجاه السماء، وتصبح مجرد نقاط صغيرة. تتابعها لَمَى بشغف وفرحة تمسح وجهها، وتتغير مشاعرها تجاهها، كأنها ليست العصافير المتربة التي كانت تلتقط نثار اليوناني منذ قليل.
أشاعت الجارة العجوز التي تقطن في الشقة المقابلة بعمارة لَمَى، أن الخواجه بوسطه قد ورث عن والده هذا البيت ومحل أنتيكات قريب. كانت تردد كلما جاءت سيرته “كان خواجه طيب وبتاع ربنا”. لا يترك الخواجه الابن فرصة دون أن يأتي إلى القاهرة، ويشعر بارتباط شديد بعصافيره، التي تعرف بقدومه، فتنتشر على إفريز شرفته، كمتسول يعرف جيدًا زبونه الخيِّر.
انتقل نظر لَمَى من السماء إلى الأرض، حين مر على ذهنها خاطر. كانت ابنة الأربع سنوات تشب على إفريز الشرفة لتبحث عن لوزة على طول الشارع، لكن لوزة اختفت منذ عدة أيام إلى غير رجعة.
لوزة لصة مدربة. اعتادت سرقة الملاءات والبطاطين المعلقة على النوافذ والشرفات بالأدوار الأرضية، حيث تفردها سيدات الحي كل صباح لتعريضها للهواء والشمس، ويتبادلن الأحاديث مع بعضهن البعض، تاركات المفروشات معلقة كأعلام ترفرف دون أن توضع لوزة في الحسبان. كانت تسحب ما سهل حمله من أعلامهم النظيفة بين فكيها وتجري في اتجاه الخرابة، تحتفظ بها هناك عند صاحبها سيد. في حقيقة الأمر لم يكن لسيد أي دور! كان ينظر إلى ما تأتي به لوزة نظرة خاوية، قبل أن يعود إلى إسناد ذقنه على ركبته والتحدث إلى نفسه بصوت خفيض، ورغم برودة الشتاء، لم يحاول أن يستخدم الملاءات والبطاطين التي تكدست في زاوية من الأرض الخراب بعد مرور أيام من تقمص لوزة لدور يشبه “حرامي الغسيل”.
لم تنكشف اللصة إلا حين قررت تغيير نشاطها. كان ذلك بعد صلاة الجمعة مباشرة. خرج المصلون من جامع صغير في شارع جانبي، لمواصلة طقوس يوم إجازتهم. لم يجد البعض أحذيتهم. ظلوا يحملقون حولهم في ارتباك حتى لمح أحدهم فردة حذائه ملقاة على الطريق، تلعب بها لوزة، تحركها يمينًا ويسارًا، وتعضعضها بأسنانها. تحلق حولها المصلون كأنهم على وشك سؤالها! لم يكن يدور في ذهن أيّ منهم أن هذه الكلبة الصغيرة يمكن أن تكون حرامي غسيل محترف تحول إلى لص أحذية مبتدئ!
اعتادوا على تلقيبها بلوزة المجنونة، ليس فقط لأنها تلازم سيد المجنون القاطن بخرابة داخل حارة جانبية، ولكن، أيضًا، لأفعالها العجيبة، التي لم يكونوا قد عرفوا بعد أن من بينها السرقة.
كلبة سيد البنية، تلمع عيناها بجنون. ولا تشبه كلاب الشارع. كثيرًا ما تنتابها حالات مرح مفاجئة فتجري وراء ذيلها في دورات كاملة. تهتم بنظافتها إلى حد غريب. لسانها المدلى يقوم بواجبه فوق شعرها البنيّ الأجرب، فيمنحه نظافة تتناقض مع فراغ بعض الأجزاء في جلدها من الشعر كاشفة عن جروح قديمة.
تختفي لوزة أيامًا وتعود إلى صاحبها المسكين لتبيت معه أمام الخرابة. يميزها شريط أخضر ملتف حول رقبتها. قيل إنها كانت ملكًا للص دربها على السرقة لكنه كان يضربها فهربت منه. وقيل، أيضًا، إنها كانت ملكًا لعائلة ميسورة، ولا يعرف أحد لما طردوها رغم صغر سنها واكتمال صحتها. لكن بائعة البطاطا، التي فقدت كل أسنانها تقريبًا منذ شبابها، أذاعت أن الكلبة أصابتها لوثة مثل سيد؛ فطردها أصحابها الأغنياء. فما كان من إحدى الجارات إلا أن علقت “الجنازة حارة والميت كلب”. وحين روت لَمَى لوالدتها ما سمعته علقت بأن الحيوانات لا تملك عقلا لتفقده!
وهو قول وضعته لَمَى محلا للنظر والمتابعة لسنوات عديدة.
بعدما تحلَّقَ المصلون حول لوزة في حالة من عدم الفهم، تطوع أحد الأطفال الذين هربوا من الصلاة مبكرًا برواية قصة سرقة الحذاء، مضيفًا من مخيلته تفاصيل بطولية عن اكتشافه الأمر واعتراضه لطريق الكلبة المجنونة، فربط أحد المصلين بين تلك الحادثة، وحوادث السرقة المتكررة للملاءات والبطاطين المنشورة على أسوار شرفات الأدوار الأرضية، لذلك سحب الرجل الكلبة من شريطها الأخضر وهي تنبح بصوت مختنق، وتصدر منها حشرجة موت مخيفة. واتجه الجمع نحو الأرض الخراب في الحارة الجانبية، تلك المتفرعة من الشارع الذي تقطن فيه لَمَى، وهناك تم اكتشاف أمر السارقة. ولولا حماية صاحب محل البقالة المجاور للأرض الخراب، لسيد وكلبته، لنكلوا بلوزة واقتادوا سيد إلى قسم الشرطة.
انتهت الحادثة كأنها لم تكن. اختفت لوزة ولم تعد. وظل المجنون في مكانه المعهود أمام الأرض الخراب، في حماية البقال الطيب. ودخلت لَمَى خلسة الشرفة المحرمة ترقب طير السماء وتبحث عن مجانين الأرض.
موقع سيد بعيد عن مرمى بصرها. يجلس كعادته عند مدخل بيت من طابقين مواجه للأرض الخربة، في حارة جانبية ضيقة متفرعة من الشارع الذي تقطن به لَمَى. يرتدي جلبابًا مقلمًا اختفى لونه تمامًا تحت كتل البقع والأتربة والقذارة. التحم مع جلده اليابس في منطقة لونية غير محددة. شعره الخشن المنكوش يلتقي مع سوالف وذقن وشارب. يختفي وجهه تحت كل هذا الركام. لن يعلق بذهن الطفلة من هيئة سيد سوى جسده الناحل المختفي تمامًا كأنه لا شيء تحت هذا الساتر القماشي، وعينيه الهائمة إلى الداخل، الغائبة في عالم لا يراه غيره. ستلحظهما كثيرًا وهي تمر خائفة بجواره، في طريقها المختصر عبر تلك الحارة إلى مدرستها، بعد سنوات معدودة من هذا اليوم الذي اختفت فيه لوزة.
بعد لوزة سيأتي عنتر، ليلازمه ويشاركه في سكنه الضيق. يبثه الدفء في الشتاء، ويسليه بنباحه ونباح أصدقائه وحفلاتهم الليلية في الصيف. أما أعداء سيد فهم الأطفال. ليس هناك ما يمكن أن يزعجه في جلسته القرفصاء المعتادة، ودفعه إلى الهياج إلا طفل صغير يحمل طوبة يقذفه بها ويجري، أو مجموعة من الصبية يتسلون عليه بشتمه أو ضربه. يترك موقعه ليجري خلفهم مطلقًا وابلا من السباب غير الواضح، من حنجرة لم تتحرك أحبالها سوى لحديث سيد مع نفسه بصوت منخفض. ولم تعتد على كل هذا الصراخ.
ستقترب لَمَى من سيد في طريقها إلى المدرسة بعد عدة سنوات بخوف وريبة، رغم أنه لم يؤذها أبدًا. سيتبادلان في البداية نظرات متوجسة، قبل أن يأمن جانبها، ويتركها تعبر بجواره في صمت. ستحاول التلكؤ أحيانًا لتتنصت على حديثه لنفسه، علها تعرف ما يشغله. لكنها لن تستطيع تمييز ما يقوله. وستسرع الخطى في خوف قبل أن يهاجمها مثلما يفعل مع الأطفال. ستحمل في يدها أحيانًا عملات معدنية. تضعها على ورقة جرائد أعدها البقال ليضع عليها أهل الخير ما تيسر من بقايا الطعام لسيد وكلابه. تعرف أن سيد لا تعجبه العملات الورقية. يقطعها على الفور. ويصاب بحالة هياج أحيانًا حين يراها. وربما يبكي ولا أحد يعرف السبب. سترى، فى مرحلة لاحقة، أثناء عودتها من المدرسة أحد المارة يحاول إعطاءه عملة ورقية. ستراقب تقلص عضلات وجه سيد المتسخ، وانتشاله العملة من يد الرجل المحسن، ليقطعها أجزاء صغيرة. وعيناه تتسعان ببريق مخيف. سينزوي الرجل والأطفال العائدين من المدرسة جانبًا، خوفًا من غضب المجنون. وسيخرج البقال على أثر صراخ الأطفال. لكنه سيجد سيد يبكي بحرقة، مخفيًا وجهه بين ذراعيه، وعينيه الدامعة شاردة في عالم آخر.
سيد رجل طيب كما يقول صديقه البقال دائمًا، في حاله ولا يؤذي أحدًا. فقط يجري وراء الأطفال الذين يؤذونه حتى يتركونه في همه. ولا يهتم بما يحدث في العالم من حوله. تكفيه جلسته القرفصاء واهتزازات جسده يمينًا ويسارًا، وهو يسند ذقنه على ركبته، أو حركته الهيستيرية إلى الأمام والخلف في مكانه، أو قيامه واقفًا ليسير في مساحة متر مربع، جيئة وذهابًا، مرددًا في الحالتين كلمات لا يسمعها أحد، يوجهها لنفسه، أو لكائنات لا يراها سواه.
كانت القصص التي حيكت عن سيد أقل إثارة بالنسبة للَمَى حين تركت موقعها أمام التلفزيون، الذي أنهى إرساله مبكرًا لأسباب لا تعرفها. وبدأت تشب بحثًا عن كلبة سيد الأكثر أهمية بالنسبة إليها. لتكتشف وجود عنتر الكلب الجديد الذي سيحتل المشهد بعد لوزة. لكنها حين تكبر قليلا، وتضطر لعبور الحارة ليلا في بعض الأحيان، وترى سيد جالسًا مستندًا على جدار المنزل المقابل للخلاء، متأملا ظلمة الأرض الخالية، دون أن يتحرك في مكانه كعادته، أو يتحدث إلى نفسه، ستدرك أن حكايات أم مجدي التي تصنع “المفتقة” في المواسم عن “دكتور” سيد والمنزل الذي كان يحتل موقع الأرض الخراب، ربما لا تبتعد كثيرًا عن الحقيقة.
حدثت الرحلة السنوية إلى بيت أم مجدي بعد حادثة الكلبة لوزة بيوم واحد. كانت رائحة “المفتقة” القاتلة قد تسربت عبر شباك بيتها في الدور الأرضي بالحارة، واحتلت الهواء وطارت حتى شارع لَمَى. وصل لقاطني الشوارع والحارات القريبة نبأ بداية موسم “المفتقة” دون الحاجة إلى منادٍ. ل”مفتقة” أم مجدي طعم مختلف لأنها تعرف سر الصنعة، هكذا كانت تقول والدة لَمَى، ولذلك كانت تجلب كميات كبيرة منها كل عام لبيوت العمات والخالات والأعمام. تحتفظ ببرطمانات المربى والعصائر الزجاجية لهذا الغرض، ويجلب لها الأقارب بعضها.
تبدأ الأم الرحلة الصباحية ومعها أكياس ممتلئة بالبرطمانات الفارغة، بعد نزول أخوات لَمَى البنات إلى المدارس، تجنبًا للمشاكل، فالوسطى لا تطيق رائحة الحلبة التي تفوح من البرطمانات ولا تمنع الأغطية المحكمة سريانها، والكبرى لا تأمن على قوامها الرشيق من دسامتها، وعلى الأم توزيع المطلوب على بيوت العائلة قبل وصول البنات. ورغم أن لَمَى لا تحب شكل “المفتقة” القبيح، والمكونة من حلبة وعسل أسود، يكونان مزيجًا لزجًا يشبه المربى بلون بني داكن وقوام ثقيل، تعلوها حبات السمسم، إلا أن الأم تحملها قسرًا على الذهاب معها حتى لا تتركها بمفردها في البيت. تبكي الصغيرة وأمها تقودها من يديها وتنحرف بها إلى الحارة الجانبية المتفرعة من الشارع، التي تقود إلى خرابة سيد بعد انحرافهما يسارًا مرتين عبر حارتين. لكنهما هذه المرة لم تكونا في الطريق إلى البقال، بل إلى بيت أم مجدي، في أول حارة تنحرفان إليها من شارعهما.
تجلس أم مجدي ملتصقة بالشباك. تُخرج رأسها وتحرك ذراعيها في ترحاب. لتترجرج أساورها الذهبية الجديدة، وتتخبط في بعضها محدثة رَنَّةً وانعكاسًا في ضوء الشمس يلفت نظر الطفلة ويشغلها قليلا عن دموعها. لم تتوقف لَمَى عن البكاء إثر اقتيادها إلى وكر صناعة المفتقة ذات الرائحة القاتلة والشكل القبيح، حتى مع حكايات أم مجدي عن صنع يديها الذي يكبر البنات ويسمن النحيفات، ونصائح أمها بقدرة تلك الحلوى على منحها طاقة وقوة عالية. انصرفت السيدتان عنها بحوارهما عن الناس في الشارع والحارات المتفرعة. وتعبت لَمَى من البكاء ونزلت تحت البيت. ورسمت بطوبة صغيرة على رمال الحارة خطوطًا طولية وعرضية، مُكوِّنة مربعات متلاصقة بأحجام مختلفة. تُصوِّب بالطوبة على إحداها، وتتجه وهي تحجل على قدم واحدة إليها، متحاشية لمس الخطوط. كانت هناك مجموعة أطفال بأعمار مختلفة تلعب بالقرب منها ببلي ملون. اقترب منها طفل صغير يكبرها بعامين أو أكثر، سمين وعريض، أشبه بشخصية دنجل الشهيرة في مجلة ميكي جيب. رفضت اللعب معه، عندما لاحظت مراقبة والدتها لها عبر الشباك. كانت تعرف تعليمات والدها وإخوتها، لا تلعبي مع الأطفال في الشارع، ولا تكرري ما يقولونه. كانوا يصرون على حمايتها ومنعها من اللعب بعيدًا عن باب العمارة تحت المراقبة. سبها الولد وكاد أن يضربها ويطردها من الحارة. لولا أن أم مجدي نهرته، فابتعد مُتوعِّدًا إياها.
أكملت لَمَى لعبها بمفردها، حتى بدأت أم مجدي في رواية قصة سيد وإخوته. تركت لَمَى لعبتها واستندت بمرفقيها على إفريز الشباك. وتابعت بشغف الراوية السمراء، بقامتها الطويلة والعفية، وجلبابها الأسود الممتلئ ببقع العسل والحلبة، وطرحتها السوداء الخفيفة. تحكي عن تاريخ المجنون وهي مُنكَّبة على توزيع المفتقة داخل البرطمانات الزجاجية.
كانت المنطقة كلها، بشوارعها وحاراتها، أرضًا خالية. وكان البناء الوحيد بيتًا من طابقين يقع في مكان الأرض الخراب. يطل على مساحة واسعة من الأراضي الخضراء المزروعة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على شاردة بشر قط. وكان يسكن في هذا البيت دكتور سيد وإخوته. كان على دكتور سيد تربية إخوته اليتامى بعد وفاة والديه. روت أم مجدي من موقعها أمام البوتاجاز الجديد الذي جلبه ابنها من الخليج. وكانت قبله تستخدم “بابور الجاز”. وتحكي الحكاية نفسها لزبائن آخرين. لا يعرفون الكثير عن المجنون الذي وجدوه منذ قدومهم إلى المنطقة.
“كبر إخوته الصغار، وضاق عليهم الدار، لا ست ولا عيل. ضيع عمره يا ولداه في تربيتهم. وعقله خف. في ناس قالت ضربوه في الحمام، اتشطروا عليه بكترتهم، وهو وحده لا حول الله، لحد ما ركبته جنية، ونسى ليله من نهاره. وناس قالوا كان بيهرب من وحدته بالفسحه في الأراضي الواسعة للي ما كنش فيها نفس، بعد ما كبر إخوته ونكروه، لحد ما لبسته جنيه. انطبق البيت على للي فيه. في لحظة كانت الجنية بتنفخ في التلت حيطان وتساويهم بالأرض. مفضلش غير حيطه واحده بس. لسه بقيتها متسابه لحد دلوقتي في الأرض الخراب، عشان الناس تعتبر، أمال، يطردوا أخوهم والجنيه متنتقمش يعني للراجل الغلبان.”
كل الحكايات تقودك للحظة الذروة. تلك اللحظة التي يقرر فيها الإخوة التعساء طرد سيد من بيته، مثلما ألقى أبناء يعقوب بأخيهم يوسف في البئر. لحظة متكررة. لكن العقاب هنا كان فوريًّا. أجادت أم مجدي روايتها كما سمعتها من الأجداد والجارات الكبار، مع بعض التصرف لأنها كانت تختلف في التفاصيل من وقت لآخر. خرج سيد من البيت المتهدم حافيًا عاريًا. لم تفهم الصغيرة لمَّ عُوقِبَ هو أيضًا؟! و لمَّ لم تُنكل الجنية بإخوته وتترك له بيته!! لكن سيد لم يكن ليعود إليه حتى وإن بُني من جديد. لم يكن ليترك موقعه أمام بقايا بيته المتهدم. صارت الخرابة بيتًا، كما صار الجنون ملاذًا! تدور حكاية الدكتور سيد في الشارع والحارات المتفرعة بأكثر من صياغة. كلها مشتقة من قصص الأنبياء والأولياء. كان سيد الرجل الطيب الذي فقد عقله نتيجة لغدر قديم. وبقى وحيدًا متأملا هذا المكان وهو يُبنى ويُعَمَّر، وتقام بيوته، وتخطط شوارعه وحاراته.
ظلت لَمَى واقفة في مكانها آنذاك، مستندة على إفريز الشباك الواطئ، الذي يكاد يلتصق بالأرض، كمعظم بيوت البدروم. تطل داخل المنزل، على الراوية الماهرة تحديدًا. لا تشم لَمَى رائحة المفتقة القاتلة. ولا يهمها كم يمضي من الوقت قبل أن تنهي أم مجدي عملها، وتسلم البرطمانات الممتلئة، وتنهي حكايات الدكتور سيد أو سيد المجنون.
تقف لمي في شرفة بيتها بعد انقطاع الإرسال في التليفزيون، وسيلة تسليتها الأولى. كانت مستندة على الإفريز. تراقب الشارع، وعصافير المجاري. تبحث عن لوزة وترحب بعنتر، حين رأت جارهم يأتي جاريًا من أول الشارع. ويلوح لها مناديًا. أسرعت إلى داخل البيت منادية أمها بدورها. واستقبلتا معًا الجار اللاهث الأنفاس الذي بادرهم بعبارات مثل:
“اغتالوا الريس. فين أخوكي؟ بيقبضوا على إللي بيشتغلوا سياسه”!
لم تفهم لَمَى ما يدور! لماذا دخلت الأم لتطمئن على أخيها النائم في غرفته؟ ولماذا هذا الجزع الشديد البادي على الجميع؟! حتى حين تحلقوا حول التليفزيون، الذي اختفت عن شاشته النقاط السوداء وعادت إليه الحياة، كان أخوها يحلل الموقف ويوضح أنه ليس هناك خطر عليه. ويصر على النزول. وكانت الأم تحاول منعه من مغادرة البيت. وتتصل بالأقارب والأصدقاء ليعينوها عليه. استغلت لَمَى الفرصة وعادت إلى الشرفة الممنوعة، المتسعة والطويلة، التي تأخذ ناصيتين، بين الشارع الرئيسي حيث تطل على شرفة الخواجة اليوناني، وبين شارع جانبي مسدود حيث يمكنها أن تواجه منزل سكينة وتشاهد التليفزيون في بيت السيدة العجوز عبر النافذة. وتراقب اجتماع سكينة مع صديقتها زكية في البيت المجاور لها في ساعة العصاري لشرب الشاي، كما اعتادتا كل يوم منذ شبابهما، حتى هذا اليوم وهما عجوزان جميلتان كما كانتا دائمًا.
يمكن أن نؤرخ لبداية علاقة الصديقتين الصغيرتين بهذا اليوم، يمكننا ببساطة القول إن لَمَى وصوفي توثقت علاقتهما بسبب اغتيال السادات. حين أتت والدة صوفي لإنقاذ والدة لَمَى وإقناع الأخ الأكبر، الطالب بالجامعة، بعدم مغادرة المنزل هذا اليوم، خوفًا عليه من الاعتقال. إلا أنه كان قد غادر بالفعل حين قدمتا. وانشغلت السيدتان عن الطفلتين بأحاديث خاصة.
شيش الشرفة المتسعة مفتوح. السماء ممتدة أمام ناظر صوفي إلى ما لا نهاية. تجذبها أجنحة العصافير المتحركة على صفحة السماء، تبتعد وتقترب كأنها تلعب معها. دخلت الشرفة. وظلت تقفز محاولة الوصول إلى حافة إفريزها للتعلق به ومتابعة أجنحة العصافير المتحركة حينها سمعت صوتًا يرتفع ويخفت ويتغير كأنه يمثل عدة أدوار ويقلد أصواتها. انحرفت في اتجاه الامتداد الجانبي للشرفة المواجه لبيت سكينة. لتجد لَمَى جالسة على الأرض تلصق إحدى أذنيها بالحائط. وتنبش بأصابعها الصغيرة الطبقة الجيرية الرقيقة الهشة، التي تتهاوى كذرات من بين يديها. تلعب لَمَى مع نفسها وتؤدي كل الأدوار في فيلم من تأليفها وإخراجها، فهي الأميرة وحارس الكنز وكلب الحراسة. أزعجها اقتحام صوفي لجلستها السرية. خشيت أن تخبر الكبار بطقوسها اليومية في الشرفة الممنوعة، حيث يمكنها مشاهدة كل الأفلام والمسلسلات عبر تليفزيون سكينة، ومتابعة أحاديث السيدتين والخواجة اليوناني، وتقشير الطبقة الجيرية من الحائط عسى أن تصل إلى الكنز.
في هذا اليوم روت لَمَى لصوفي حكاية الكنز المدفون.
كانت تنقر بأطراف أصابعها على الحائط، وتسمعها صدى أجوف يرن في المكان، دليلا على فراغ مختفٍ، يحوي كنزًا مثل كنز علي بابا والأربعين حرامي. اقتربت صوفي مترددة، في خجل، وجلست بجوار لَمَى ونقرت على الحائط. واتسعت ابتسامتها معبرة عن فرح الكشف. وظلتا معًا تحكيان عن الجنة المتوارية خلف الجدران، عن الغابات والحيوانات التي تشبه مخلوقات برنامج عالم الحيوان الغريبة الذي يذاع كل يوم جمعة على القناة الأولى. وحين سمعتا الأصوات تبحث عنهما تسحبتا عائدتين إلى الغرفة. وحملت صوفي سر لَمَى معها.
عاشت صوفي سنوات عمرها الأربع في قريتها الصغيرة مع جدتها. اقتراب عمرها من عمر أخيها الأصغر دفع الجدة إلى اصطحابها معها إلى القرية فترات ليست بالقصيرة، حتى تستطيع الأم رعاية الطفل الأصغر منها. وحين عادت كانت لكنتها القروية مدعاة للسخرية من إخوتها وأصدقائها. وكانت بشرتها السمراء الداكنة مدعاة لتعليقات السخفاء في الشارع. لذلك اعتادت الصغيرة على الوحدة. كان الانسحاب وعدم الاختلاط خير حل لها، قبل أن تبدأ في تكوين مجتمعها الصغير.
بيت عائلة صوفي في الدور الأخير. يكشف أسطح العمارات المقابلة. نافذته واسعة تواجه الفضاء. وتلتحم مع المنطقة الفاصلة بين أرض وسماء. تشتبك مع الفراغ، سابحة في ملكوته. تقفز صوفي على السرير أسفل النافذة. وتجلس متأملة التفاصيل العابرة، البعيدة والصغيرة للغاية، والقريبة الواضحة للعيان في السماء. نجوم وكواكب تعتقد أنها أقرب إليها من الشارع وأسطح العمارات. وسُحُب تكاد تلمسها، وتحرك مساراتها.
في فترة لاحقة، ستجلس صوفي على السرير مستندة على إفريز النافذة، لتراقب الرجل الذي يقف عاريًا كما ولدته أمه. ستحتفظ بسره وهو يستعرض جسده أمام المرآة، أو يقف في نافذة بيته في العمارة المقابلة، الأقل ارتفاعًا، دون أن يلحظه أحد. لكنه ما لبث أن كشف سره بنفسه، حين بدأ ينادي الجيران، مبتسمًا في بلاهة، مستعرضًا تفاصيل جسده العاري. سمعت صوفي من موقعها صرخات النسوة وشتائم الرجال. ورأت عددًا من الرجال يحيطون به ويغطونه قسرًا بملاءة قبل أن يصحبوه إلى حيث لا تعلم. من وقتها لم تعد تراه أبدًا. لكنها تذكر الابتسامة التي غطت وجهه وهو يقف عاريًا تمامًا تحت ضوء الشمس، وأعين الجيران.
كانت ترقبه في البداية بخوف حتى أدركت أنه لا يراها. وأنه لا يشعر بأحد. وأنه فقط معجب بعريه، ومستمتع به. لم تكن قد رأت من قبل جسدًا عاريًا، حتى جسدها هي لم تحاول أن تتطلع إليه كثيرًا. اهتمت بما تستطيع أن تراه من تفاصيل. وحاولت رسمها بعد ذلك. رسمت الرجل العاري بخطوط بدائية في كشكول رسمها بجوار “بلبل”. جسد بلبل لرجل ثلاثيني نحيل أما عقله فلطفل في الرابعة. “بلبل” أيضًا كان مثارًا لخوفها. يسكن مع أهله أسفل شقة عائلتها. ولا يتضح من كلامه المتلعثم سوى السباب والشتائم. كانت صوفي الوحيدة التي تسلم من لسانه. يمنحها قبلاته التي كان الصغار ينفرون منها، كلما صعدت أو هبطت من بيتها، حيث لم يكن يغادر موقعه أمام شقته. تحنو الصغيرة عليه كثيرًا رغم خوفها منه. تشفق عليه رغم عنفه وتراه مفروضًا عليه لعدم قدرته على التحكم في عضلاته وأطرافه. تربت على كتفه، وتجلب له الحلوى كأنه هو الطفل الصغير.
كان بلبل يذكرها ب”وليد” صديق طفولتها في البلدة، قبل أن تبلغ الرابعة، وتأتي إلى المدينة وتلتقي بلَمَى. هذا الرجل الذي كان يحبى كطفل. لم تكن تلعب مع غيره في البلدة. تذهب إلى بيته صباحًا وتستأذن من والدته. يسير بجوارها على أطرافه الأربعة بجسده الضخم وجلبابه النظيف. تقلده في حركته وسيره على يديه وقدميه. وحين تتعب وتستقيم واقفة، يمسك ذيل فستانها وينظر إليها متوسلا كي تشاركه اللعب من جديد، فتعود إلى وضعيته المتعبة حتى لا يبكي. لم يكن وليد يستطيع الحديث. فقط كان يضحك بصوت مسموع كطفل رضيع وهما يلعبان، أو يبكي حين تتركه لترجع إلى جدتها ليلا. فتظل بجواره حتى يهدأ قبل أن تشاغله أمه فتهرب صوفي. وبعد طول بكاء يترك الصغيرة الناعسة عند باب البيت.
اليوم صار بلبل بديلا. تخاف منه صوفي التي لم تكن تخاف من وليد أبدًا. بلبل طويل القامة وهزيل. عنيف كمدينته. لا يعبر عن نفسه بضحك وبكاء الأطفال. ولا يتوانى عن طلب ما يريده بإطلاق السباب بلسانه الثقيل. بلبل يعرف أنه يملك جسدًا له قوته مقارنة بأصدقائه الأطفال. عرف بالتجربة أنه يمكنه بهذا الجسد إخافة الآخرين. وليد لم يشكل جسده الضخم بالنسبة إليه سوى ثقل في الحركة أثناء اللعب. لم يكن سوى عصفور بجسد فيل!
هؤلاء الرجال الأطفال، شكلوا مع سيد المجنون أساطير خاصة للطفلتين في جلساتهما السرية المعتادة، بشرفة منزل لَمَى. تقص لَمَى لصوفي حوارها مع والدها عن الجنة المتوارية خلف الحائط، وعن المجانين خلف الشرفات والنوافذ. قالت لَمَى إن المجانين لا يحاسبون لأنهم لا يفكرون كما يقول والدها، ولهذا سيدخلون الجنة، ويحصلون على الكنز المختفي دون غيرهم. أشارت صوفي إلى أن السماء ستفتح أبوابها للجميع وسيدخلون جميعهم في جنتها. لكن لَمَى أصرت على أن الجنة خلف الحائط المُجوف. وأن المجانين فقط هم الذين سيدخلونها لأنهم لن يحاسبوا، بينما كل الناس يُخطئون ويُحاسبون ويُضربون من أمهاتهم ويقال لهم: “ربنا هيزعل منكم وهيدخلكم النار”. إذن لا يضمنون إمكانية دخول جنة السماء. لم تقتنع صوفي. ظلت السماء واسعة وكافية للجميع في نظرها.
تجلسان على الأرض مستندتين إلى الحائط العالي الذي ينتهي بالإفريز المرتفع عن قامتهما، لتلعبا بالسيارات المفككة، وأدوات المطبخ والمكياج، والعرائس مختلفة الأشكال. تنسجان القصص وترسمان سيناريوهات. وتمثلان مشاهد من الخيال في مملكتهما الخفية. تكونان أميرتين في ممرات الكنز، أو مجنونتين على أبواب المساجد. وحين تملان، تراقبان الشارع الواسع. تتعلقان بالإفريز وتقفان على أطراف أصابعهما خاصة بعد ظهور عنتر واستضافة الشارع لحفلاته المثيرة كل ليلة.
بعد اختفاء لوزة، واغتيال الرجل ذي “الزبيبة” على جبهته، وتعارف لَمَى وصوفي بعدة أيام، ظهر عنتر. تُخفي لَمَى أحذية صوفي. تتوسل للجميع. تتصنع الأسباب كي تبقى صوفي معها لليلة، ليلة واحدة فقط كي تحضر معها إحدى تلك الحفلات الليلية.
تنام البنات الخمس في غرفة البنات الوحيدة، حيث الشرفة الواسعة. لَمَى وأختيها وصديقة أختها التي تقيم معهن في أيام المذاكرة، وصوفي، جميعهن على سرير واحد. يضطررن للاستلقاء عليه بالعرض. تتدلى أقدام البنات الكبار من طرف السرير. تضحك الصغيرتان على أقدام البنات الكبار المتدلية، وتترقبان نوم كل قاطني البيت، حتى تتسللا من السرير، مع بداية الحفل.
تسحبتا إلى الشرفة. وتعلقتا بالإفريز. وحاولتا على ضوء عمود إنارة وحيد على طول الشارع -لا تتركه النجوم المتلألئة في هذا اليوم منفردًا- تتبع أصوات النباح القادمة من مدخل الحارة الجانبية. كان أول الحضور مجموعة من كلاب الشارع الشرسة، تطلق نباحها في الفضاء في هيستريا، كأنها لا تنذر بقدومها النائمين فقط، بل الأموات أيضًا. قبل أن يتبعهم الملك عنتر مأرجحًا ذيله في ترقب، متشممًا الهواء أمامه في حذر، ثم مطلقًا عقيرته بنباح مستعر، كعواء ذئب متأصل. عنتر كلب بُني قوي البنية. يدل صوته وهيئته على صحة وفتوة. ويدل كثرة التابعين له على سطوة وخبرة. لم تكن لدى لوزة علاقاته تلك! لم يوصف عنتر يومًا بالجنون، ولو على سبيل المزاح. كان حريصًا إلى أقصى حد. لم يدخل في معارك مع كلاب أخرى تصل إلى حد العنف أو الاقتتال، فقط تلك الاحتفالات الليلية، التي تبدأ بقدومه بصحبة أتباعه كدليل على اختيار الشارع كساحة لهم، ثم دخول مجموعة أخرى من الكلاب الغريبة. يقف الفريقان أمام بعضهما بعضًا، ويطلقان نباحهما الشرس أحيانًا، والحزين أحيانًا أخرى. يصعب تحديد إن كانت حفلة غناء أو مأتم. ولا يعرف قوانين اللعبة إلا عنتر، هو فقط الذي ينهي الليلة قبل قدوم الفجر. ينسحب في بساطة مارقًا من الحارة الجانبية وخلفه أتباعه. ويلحق بهم فريق الكلاب الغريب الآخر. يصلان معًا إلى الأرض الخراب ليكملا احتفالهما. ومع تعالي صوت آذان الفجر في الميكرفونات، تبارى المؤذن بالنباح، حتى ينتصر عليها، ويخفت صوتها، وينزوي تمامًا. تستلقي بجوار بعضها بعضًا في الأرض الخرابة كسكارى الأفلام القديمة.
هكذا تصف لَمَى نهاية الاحتفال المعتادة.
عرفت لَمَى صديقتها إلى زوجة سيد المستقبلية، فضحكت صوفي بشدة وهي مستلقية على أرضية الشرفة تخدش بأصابعها طبقات الجير المتبقية على حائط الكنز الأجوف “هأجوز سيد لفتحية زي ما بيحصل في الأفلام، وهيحضنها كمان” تبتسم لَمَى وهي تستشير صوفي في زواج فتحية وسيد.
فتحية سيدة في النصف الثاني من الأربعينيات. تقف في شرفتها المربعة الصغيرة بالدور الأرضي في العمارة المواجهة للداخل إلى شارع لَمَى عبر الشارع الرئيسي، كأنها امتداد للحارتين الكائنتين على اليسار واليمين في نهاية الشارع. تستطيع لَمَى رؤيتها عبر الشرفة. لم تلحظها قبل ظهور عنتر. لم تكن قد وصلت لحالة الهياج تلك بعد. تعيش بمفردها. يزورها إخوتها كل حين. تبدو سيدة عادية كغيرها من الجارات. تخرج إلى شرفتها وفي يدها كوب شاي وسيجارة. تستند على شباكها وهي تستمتع بطقسها الصباحي. شعرها رمادي، ووجهها خالٍ من الأصباغ. وترتدي عادة جلبابًا قطنيًّا طويلا بأكمام قصيرة، تضع فوقه شالا أو جاكت صوفيّ في الشتاء. تكون هادئة تمامًا، حتى تنفد سجائرها. تشير إلى أحد الشباب المتسكعين لإعطائها سجائر مقابل المال، حتى ينفد ما لديها من مال، فتبدأ في مشاغلة الشباب في الشارع لإعطائها ما تيسر من سجائرهم. ذلك المشهد الذي يتكرر كثيرًا، يدفع الجيران لإخبار إخوتها. فيأتون ويغلقون عليها الأبواب والشبابيك بالمفاتيح، فيتعالى صراخها، وحكاياتها، وشتائمها. تسب الرؤساء والملوك الراحلين والقادمين وتسب إخوتها وأقاربها وجيرانها والمارة والعابرين في حياتها. وتحكي عن خطيبها الذي خطفه ضباط أمن الدولة. وتعدد أسماء ضباط بعينهم. تصرخ فلا يسمعها أحد. وتتعالى الحكايات عن فتحية المجنونة على طول الشارع وعرضه.
“محدش هنا يعرف أنا مين أنا قربت أبقى وكيلة وزاره يا بقر”
تتعالى صرخات فتحية عن مكانتها ومكانة خطيبها. يقولون إنها ارتبطت برجل “بيشتغل سياسه” اعتقل في ظروف غامضة ولا أحد يعرف طريقه. ولأنها كانت تحبه أصيبت بلوثة. يعلق آخرون بأنها قبض عليها معه وعذبت وأصابتها تلك الحالة. وتشير حكايات أخرى إلى أن إخوتها رفضوا زواجها من هذا الرجل خوفًا على مستقبلها، وقد كانت موظفة لها مستقبل بالفعل. وآخرون يتحدثون عن ناس أصحاب مراكز عالية احتكت بهم فتحية صاحبة اللسان السليط، فأوقعوها في شر أعمالها.
صراخها وحكايات الجيران نسجت قصتها، التي تابعتها لَمَى على مدى أشهر من موقعها في الشرفة المتسعة، ووصلت بخيالها إلى هذا الحل..
زواج سيد وفتحية!
كلاهما يحتاج لمن يحدثه، مثلما تتحدث لَمَى لصديقتها صوفي. سيحكي لها سيد عن إخوته، ويجد بيتًا له وسكنًا. وستحكي فتحية عن أشباحها وضباطها، دون أن تحتاج إلى الصراخ. وسيجلب لها السجائر متى احتاجت لها، وفي آخر الفيلم، سوف يحتضن سيد فتحية و”يخلص الفيلم”.
أعلنت لَمَى عن أفكارها لصوفي ووافقتها تمامًا فيما طرحته.
ولم يتبق إلا يوم العرس. ويمكن أن تُحيي الزفاف تلك الكلاب التي لا تُجيد شيئًا سوى إقامة حفلات النباح الليلية. سيهتم الشارع كله بالتأكيد بهذا الحدث، حين يتم دعوة قاطنى الشارع إلى زفاف أقدم سكان المنطقة وأعلى الأصوات فيها، إلا زكية وسكينة، يستحيل أبدًا أن تغادرا شرفتيهما وقد اقتربت ساعة العصاري!
حين تنحرف من الشارع الرئيسي إلى الشارع الجانبي الذي يقع فيه البيت وتمد بصرك إلى مرماه الأخير حيث عمارتين متلاصقتين تمامًا تمثلان نهاية الشارع، وبالتحديد في الدور الأول، ستجد شرفتي زكية وسكينة، لا يفصل بينهما أكثر من متر واحد. حين تأتي ساعة العصاري تخرجان كملكتين إلى شرفتيهما لتناول الشاي معًا وهما في أجمل صورة. زكية بيضاء يعكر صفاء وجهها نمش بسيط، بعينين عسليتين واسعتين ونظرة مضيئة دائمًا وشعر خفيف أبيض معقوص خلف أذنيها يصل إلى نهاية الرقبة وجمال تركي تشي به ملامحها وحتى تقوس ظهرها لا يخفي رشاقة باقية من عهد الشباب. سكينة سمراء يميزها نقاء بشرتها بالنسبة لسنها وحاجبيها المزججة بعناية والكحل السائح فوق عينيها المسحوبتين في نعومة، والشعر الملتف الذي يغطي ذقنها المدببة ليخفي ما به من عيوب، أسود فاحم كأن لم تنبت فيه شعرة بيضاء، والألوان الدافئة المنتقاة لشفتيها وأظافرها المقلمة. كل التفاصيل تكشف عنايتها بجمالها. وقد زادها الانحناء -بفعل تقدم العمر- قصرًا ونحافة لكن جلستها الراقية تقاوم الطبيعة. ترتدي السيدتان غالبًا فساتين بأكمام قصيرة يصل طولها إلى منتصف قصبة الساق. على طرف شرفتيهما وضعت كراسي البحر القماشية في انتظارهما، لتتمكنا من الجلوس براحة دون أن تنهك أجسادهما المتعبة. الشارع ممتد أمامهما، والبيوت متراصة على الصفين كحاشية للملكات. تتابع الصغيرتان مراسم الحفل اليومي بشغف شديد. تتعلقان بإفريز الشرفة في انحرافها الجانبي المطل على الحارة الجانبية على اليسار، وترميان بصرهما تجاه اليمين حيث الشرفتان أمامهما.
ضحكات زكية وسكينة منطلقة في أريحية مع دخان سجائرهما المتطاير ودفء شاي العصاري المستكين في كفيهما المرتعشين، كأن الزمن يحاول أن يحكم سيطرته على الجسد، فلا يجد الأخير معنى للمقاومة فيمنح الأول انتصارًا شكليًّا. كفًّا يرتعش، ظهرًا ينحني، جلدًا ينكمش، لكن ضحكات العجائز لا يمنعها سريان الزمن. سترتبط لَمَى ببيانو سكينة كثيرًا، قطعة أثاث في بيت تاجر من أسرة متأصلة. تصر سكينة على أن المرحوم زوجها كان يعزف عليه من أجل خاطرها. لكن لَمَى كانت تراه دائمًا مجرد قطعة ديكور. تزيل عنها سكينة الأتربة كلما أمكن كأنها تمحو آثار الزمن عن وجهها. ستستغل الصغيرة لَمَى تليفزيون سكينة في أوقات كثيرة، لمتابعة مسلسلاتها، خاصة حين تحاول الأم إقناع الأب بإلحاق لَمَى بمدرسة خاصة إسوة بأبناء الجيران. لكن الأب سيصر على أن تكون “البنت زي إخوتها”، تصر الأم على توفير المال من “الجمعية” التي ستقبضها قبل ميعاد التقديم للمدرسة، لكن الأب، في هذا الأمر، لن يقبل أي جدال. فتستسلم الأم وتأخذ بنصيحة والدة صوفي، وتعطي ابنتها درسًا خصوصيًّا مع بنات الجيران الأكبر سنًّا، حتى تكون الابنة متفوقة في اختبارات الدخول إلى المدرسة التي اقتربت.
ستسمع لَمَى تلك المحادثات عبر شباك صغير في غرفة نوم والديها، يطل الشباك على الشرفة المتسعة، مقرها الدائم. ستهرب لَمَى كثيرًا من هذا الدرس، وتلجأ إلى الشرفة، وتحديدًا إلى موقعها المطل على شرفة سكينة، حيث تتمكن من متابعة مسلسل الأطفال الذي تحبه في تليفزيون سكينة. كانت أمها قد حكمت عليها بالحبس في الغرفة ومنعتها من مشاهدة التليفزيون، فجلست تبكي على أرضية البلكونة في أداء مسرحي معتاد، فتحت على إثره سكينة شباك الحجرة المواجهة لبلكونتها وأدارت مفتاح التليفزيون وحركت مؤشرات تغيير القنوات كأنها لا تعبأ بالصغيرة، لتشارك في بطولة المشهد، حتى هتفت لَمَى مطالبة إياها بالتوقف عند قناة محددة، فأعادت سكينة المؤشر حيث تريده الصغيرة، وغمزت لها بمرح ثم عادت إلى البلكونة المجاورة لبلكونة زكية حيث تنتظرها حرارة الشاي والحكايات والضحك.
ظلت لَمَى تتابع ما تشاء. وتختفي عن أمها ومدرسها الخصوصي كلما سنحت الفرصة في موقعها السري. ثم أصبحت تراقب منه، أيضًا، الخناقات والمشاحنات بين سكينة وزوجة ابنها، التي كانت تسكن إحدى الحارات القريبة، وتراها سكينة “لوكال” للغاية، لانتمائها إلى الأوساط الشعبية. ستنعكس تلك النظرة على معاملة زوجة الابن لها. وسيبدو البيانو المنزوي نشازًا للغاية مع أصوات السباب والصراخ الذي سيصدر عن هذا المنزل لسنوات. يحتل التليفزيون الملون الكبير الموقع الرئيسي بينما ينزوي البيانو جانبًا وفقًا لترتيبات زوجة الابن، وبعد سنوات سيرحل البيانو القديم عن الشارع، وستشيعه الصغيرة إلى من اشتراه بدموع حقيقية هذه المرة.
قبل ذلك الرحيل ستنادي زكية على الصغيرة لَمَى، وتطلب منها شراء خبز، لتصعد إلى منزلها. تستقبلها عند باب الشقة لتصطحبها إلى غرفتها. كان البيت مقسمًا بينها وبين ابن أختها الذي تزوج وأقام معها، الشقة كبيرة والعجوز وحيدة ولا مانع من أن تحل مشكلة ابن الأخت وتعطيه غرفة لكن الأسرة كبرت وضمت طفلة ثم طفلاً ثم طفلة أخرى. والأيام تمر والصغير يكبر والغرفة تسير اثنتين ثم ثلاثًا وترضى المضيفة بالغرفة ذات البلكونة التي صارت مملكتها ولا ترضى عنها بديلاً. أعطتها شوكولاتة وملست على شعرها وجلست تجهز طعامها. جلست لَمَى على سريرها النحاسي بسعادة. وفتحت غلاف الشوكولاتة بحرص لتحافظ على ورقة البخت التي اعتادت وجودها داخل “شوكولاتات” العجائز. عينا زكية مثبتتان على رداء أحمر شفاف ملقى على كرسي أمامها به صدرية بارزة وفتحتان جانبيتان ممتدتان أعلى من الفخذ بكثير، سألتها بطفولة (إنتي بتلبسيه إزاي ده) نظرت تجاهها بذهول كأنها تراها لأول مرة (دي بدلة رقص يا بنتي إنتي مشفتيش تحية كاريوكا وسامية جمال، أنا بقى كنت أحسن منهم كلهم قبل ما يتجوزني الباشا) ضحكت لَمَى (إيه ده هو إنتي بتمثلي فيلم أبيض وأسود ولا إيه). أطفأت سكينة البوتاجاز ثم أسرعت إلى الدولاب وأخرجت بدل رقص كثيرة موضوعة بحرص في الشماعة، ألوانها زاهية كأن نسيجها غزل وصبغ وخيط بالأمس فقط ألقتها على السرير. وأخذت تنثرها حول الصغيرة وهي تضحك. وحين بدأت لَمَى القفز بين الألوان المتطايرة خطفت زكية ورقة الحظ وكان حظها (يومك سعيد). وحين عادت لَمَى إلى المنزل وضعت طرحة أمها على هيئة صدرية تحيط بمنبت صدرها، وطرحة أخرى على وسطها، ورقصت أمام المرآة وعيناها ترى فيروز الصغيرة وأذنها تسمع بيانو سكينة ينفض غباره لتعزف أوتاره (شط إسكندرية يا شط الهوى).
عندما لم تعد العائلة الوافدة تحتمل زكية زاد الشجار إلى حد تدخل الجيران فاستقلت تمامًا. وتركت لهم المطبخ لتحتفظ ببوتاجاز مسطح تضعه على مائدة بغرفة نومها تعد عليه طعامها وكوب الشاي المقدس حتى مرضت. سمعت لَمَى صوت شجار أفراد العائلة على مقتنيات الغرفة قبل أن تخرج جنازتها وتباع أغراضها في اليوم نفسه. لن ترى لَمَى سكينة بعد هذا اليوم في البلكونة. ولن يتسنى لها مشاهدة التليفزيون عبر نافذتها. وسينتهي طقس ساعة العصاري بموت زكية. فبعد عام واحد ستنادي زوجة الابن والدة لَمَى، ستصعد إلى بيت سكينة، لتجدها جثة متيبسة على فراشها. ستعلم أنهم تركوها هكذا ليومين كاملين دون أن يعرفوا بوفاتها. هذا ما ستراقبه لَمَى في السنوات اللاحقة عبر شرفتها الأثيرة. أما في ذلك اليوم فقد ظلت السيدتان تلاعبان الصغيرتين عبر الشرفات. وتبادلانهما الحكايات. ستسألهما لَمَى عن لوزة، هاجسها الأساسي لسنوات. وستدعوهما لحفل زفاف سيد وفتحية المتخيل، لكن السيدتين المنمقتين لا تعرفان مصير لوزة. ولا تهتمان بسيد وفتحية.
بعد عامين من حادثة اختفاء لوزة، ستجلس الطفلتان على أرضية الشرفة كالمعتاد. مستندتان على حائط الكنز. ومنصتتان لصوت الموسيقى والغناء المنطلق من داخل المنزل، محمد منير، وفيروز، وزياد رحباني، ومارسيل خليفه، وفرقة الأصدقاء، وفرقة الفور أم، وفرقة المصريين، وصادق القليني، وآخرين، ستتهادى أصواتهم وتتسرب إلى أعماق صوفي ولَمَى، عبر المسجل الصغير. إنه الاحتفال بعيد ميلاد أخي لَمَى الأكبر في حضور أصدقائه وصديقاته. واللقاء الأخير قبل دخول الطفلتين المدرسة لأول مرة.
دخلت إحدى صديقات الأخ إلى الشرفة، لتشرب سيجارة بعيدًا عن أعين الأم. تحبها لَمَى كثيرًا بشعرها البني المهوش بلا تصفيف، وبشرتها البيضاء بنمشها البسيط. نفثت سيجارتها وهي تراقب الشارع. ولم تلحظ الصغيرتين المستندتين على حائط البلكونة، حتى نادتها لَمَى ودعتها للعب معهما. فأطفات عقب سيجارتها على الإفريز وألقتها من الشرفة. وجلست بجوارهما على الأرضية الممتلئة بجير الحائط وسألت مشاغبة:
– عايزه تطلعي إيه يا حبيبتى لما تكبري؟
نظرت صوفي للَمَى وهي لا تعرف إلى إياهما توجه ذات الشعر المهوش تساؤلها! فالتصقت في صديقتها بخجلها المعتاد. لكن لَمَى الصغيرة ذات الضفيرتين المثنيتين بأشرطة حمراء متدلية، لعبت في ضفيرتها الشمال الشاردة في اتجاه مخالف لقرينتها، وأجابت في ثقة:
– أحب لما أكبر أطلع مجنونة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فصل من رواية “محلك سر” تصدر قريبا عن دار ميريت للنشر
* اللوحات للفنانة التشكيلية حنان محفوظ
خاص الكتابة