عالمٌ غنيَّ هو ذلك العالم الذي يغريك نجيب محفوظ للطرق على بابه، قص تاريخي وواقعي، وترميز، هو ما يعدك أن تجده ما بين دفات قصصه البالغة الثراء، بل إنه قيل: ” لا ترى في الرواية سوى نجيب محفوظ، وفي المسرح سوى توفيق الحكيم“.
الواقعية وفقاً للمعجم الوسيط “مذهب فلسفي يجعل للواقع المادي المحسوس الاعتبار الأول ، ويطلق خاصة في القرون الوسطى على المذهب الذي يرى أن الكليات لها وجود حقيقي ومذهب أدبي يعتمد على الوقائع والوثائق ، ويعنى بتصوير أحوال الطبقة الكادحة من المجتمع“.
فلغِنَى عالم نجيب سر آخر، في قدرته على حشد الأبطال لتكوِّن مرآة للمجتمع في صورته الحقيقة، لذلك تكتسب قصصه أهميتها، من كونها معبرة عن المجتمع وعن الطبقات الكادحة، ومن هذا الوصف الدقيق الأمين، بلا نفاق ولا ابتذال، وهذا الالتزام الواقعي الذي يشعرك كأنك جالس على قهوة في زقاق منسي، أو تشهد “عركة” فتوات، أو ربما رأيت نفسك في بطل من أبطاله، يأخذك من مكانك مشدوداً دائماً إلى مدارات عالمه الذي يكاد يكون عالماً قائماً بذاته، هذا هو السر كما يقال ” الفن هو الإنسان“.
رجل طيب الملامح، جالس على قهوةٍ في حي شعبي يكتب، هذه هي الصورة التي أتخيلها عن نجيب محفوظ دوماً، أفضل من عبر عن الحارة المصرية، كانت بوتقته التي يصهر فيها رموزاً لجميع الشرائح التي تعبر عن المجتمع في ذلك الوقت، ويمتزج فيها عالم البسطاء بكل تناقضاته.
يقول نجيب محفوظ «أعلم أنني أكتب أسلوبا أقرأ نعيه بقلم فرجينيا وولف، ولكن التجربة التي كنت أقدمها كانت في هذا الأسلوب»، وبينما كان الغرب قد جرب الواقعية الأدبية، وخاض فيها شوطاً كبيرا، بل انتقل إلى تياراتٍ أخرى، كنا نتلمس طريقاً نخاف نهايته، ولكن نجيب لم يخش هذا الطريق، بل مهده حتى صار من أوائل رواده، فأعمال مثل” القاهرة الجديدة” ، “بداية ونهاية”، “خان الخليلي”، “زقاق المدق”، “السراب”، و”الثلاثية” مهدت لتيار الواقعية في الأدب العربي، ثم رسخته.
والحديث في هذا المقام لا يلخصه مقال؛ بل يحتاج إلى دراسات مطولة، لذا سأتخذ من “زقاق المدق” أنموذجاً لواقعية نجيب محفوظ التي أوصلته للعالمية.
*اللاشخصية، مطلب الواقعية دوماً:
وهل هناك أقوى من الواقع لستمد مه الكتاب رواياتهم، ويتوحدون معه؟!
في رواية “زقاق المدق” والتي تنتمي لتيار الواقعية النقدية، يغيب المؤلف تماماً عن عالم روايته، غياباً يترك لنا المجال لنتوحد مع أبطال القصة، ونلحظُ تأثير الحرب على المصريين مختزلاً في هذا الحي.
تنصاعُ الشخصية الروائية المحورية في هذه الرواية لمصيرها، بل تتلذذ بسقوطها، لتنتهي نهاية مأساوية، في حي زقاق المدق، أحد الأحياء المتفرعة من حي الحسين، تعيش “حميدة”، ابنة بالتبني، ناقمةً على الدوام، متطلعة لحياة أفصل خارج الزقاق، يحبها “عباس الحلو”، لكنه لا يرضي طموحها، وعندما حاولت أن تحقق طموحها بنفسها وتتحرك خارج الزقاق الضيق تسقط في دائرة الغانيات”، ولكنها لا تريد تغيير قدرها مطلقاً.
لنجيب محفوظ القدرة على الحشد الهائل لشخصيات روائية في مكان ضيق، خالقاً عالم مليء يلحظات الاحتكاك أو الصدمات، وألوان من المعاناة، وحالات انتظار ينتج عنها تحولات قد تصل لتدمير الذات.
“المعلم كرشة” الذي يمتلك قهوة مشهورة في الزقاق، لكنه يصير أضحوكة الحارة كل يوم؛ لتهتكه وتعلقه بالصبية.
“عباس الحلو”، الذي أوقعه حظه العاثر في حب من لا تريده، ليس هذا فقط، بل في فتاة لا تعرف للحب معنى، توهمه بالحب، فيسافر ليعمل بمعسكرات الجيش الإنجليزي، وعندما يعود حاملاً شبكته وأحلامه، يخبطه اختفائها المفادئ عن الزقاق فوق رأسه، يبحث عنها، ليجدها أخيراً في أحد البارات، تجلس جلسة خليعة بين يدي مجموعة من الجنود، يتقدم إليها ليلقنها درساً، لكن الجنود اللإنجليز يضربونه حتى يفارق الحياة.
“زيطة صانع العاهات”، “فرج”، “الشيخ الدرويش”، “حسين كرشة”، وغيرهم، كلها شخصيات ثانوية، منها مؤثر كفرج الذي ساق “حميدة” لمصيرها المحتوم وخدعها باسم الحب، وبعضها شخصيات تنتظر مصيراً مجهولاً في زقاقها الضيق.
والحق إن الحديث عن انتفاء الابتذال في روايات نجيب محفوظ مهم للغاية في هذا المقام، فبعض الكتاب الجُدد يستشهدون في كتاباتهم التي يدُّعون أنها واقعية- وهي فيها من الابتذال ما يندى له جبين أي قارئ- بنجيب محفوظ، والحق أن جميع رواياته وإن كانت جريئةً في وصفها، فهي خالية من أي ابتذال، حتى في وصفه لهذ الرجل المتهتك الذي ينتظر الصبية على مدخل الحارة، لا تجد أي ابتذال، بل تلمح مقصده بخفة بادية في الوصف، فلا أوصاف مخلة، ولا ألفاظ نابية.
يمتلك نجيب محفوظ قلماً سحرياً، وقدرة فنية تجعل القارئ مستمتعاً، يطوي صفحات الرواية صفحة وراء صفحة مستمتعاً شغوفاً، حتى ينسى كم من الوقت أمضى في هذا العالم الغريب.
“تلك تحية متواضعة، ومتأخرة جداً، لهذا النجيب، المحفوظة أعماله في قلبي وقلوب كل محبيه”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية