عبد الرحيم طايع
صدرت الطبعة الثانية من ديوان الشاعر سامح محجوب “مجاز الماء” منذ أشهر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، الديوان ينتمي إلى الشعر الحر، ضمت دفتاه 81 صفحة من القطع المتوسط، واشتمل على 13 قصيدة، بدأت بقصيدة “أكتب كي أهزم موتي”، وانتهت بقصيدة “شهقة.. وينزل المطر” وهي أطول قصائد الديوان، مؤلفة من 36 مقطعا قصيرا (من بينها مقاطع نثرية كالومضات الخاطفة) وأسفل عنوانها، بين قوسين، كتب الشاعر كمن يقدم لها تقديما خاصا (أيها الناقصون المطرودون.. أيها الحالمون المخطئون.. أيها الحيارى.. أيها السكارى.. أيها المنبوذون.. أيها المنكسرون.. أيها الضحايا.. العالم لا يُحتمل بدونكم)
المجاز، لغة، نقيض الحقيقة، وأما الماء فدليل ساطع على وجود الحياة، والمزج بين اللفظين بصورة المتضايفين، المضاف إليه والمضاف، وهو مزج يكسبهما تعريفا أو تخصيصا كما هو معلوم من وصفهما اللغوي، قد يجعل المعنى المراد، أو بعضه، كما لو كان “الحياة اللايقينة”؛ لأن الحقيقة التي يناقضها المجاز هي الشيء الثابت يقينا.
تشكل قصائد الديوان، بين القصيدة الأولى والقصيدة الأخيرة، حياة كاملة بكل زخم الحيوات المعروفة، كلماتها الممعنة في الحركية والحيوية تؤكد الأمر، من ذلك: “تأويل/ شبق/ عنف/ حنين/ سؤال/ قيامة/ صباح/ كمال.
تخللت القصائد روح صوفية آسرة، تفوق الشاعر في بثها بصدق ورسوخ قدم، كأنه ابن مخلص من أبناء الطريق أصلا، وليس دخيلا عليه، كالشعراء الذين يرصون ألفاظا معينة بطريقة موروثة، معتقدين أنهم هكذا يصوِّفون نصوصهم، ناسبت روحه الصوفية الأصيلة فحوى الديوان تماما من حيث إن التصوف، باختصار، محاولة كبرى لمطالعة ما وراء الغيوم بالكشف:
“أعرف أن الله جميل
ولهذا أفتح باب الجنة
دون استئذان”
كذلك:
“فكيف أدل عليك
وأنت المسافة
بيني وبين الخيال؟
وكيف أصدق كشفا تداعى
وخر صريعا
على مقلتين
وحال؟”
بامتداد الديوان توجد أنثى باذخة، وضعها كامرأة، لا يحجب رمزية وضعها كوطن وكون وحياة، يدور حولها الكلام (في جدلية كبرى) متسائلا ومقاربا ومتوحدا..
“من أنت؟ من؟
من هؤلاء؟
إذ يقفز النيل الصبور
على قناطره القديمة
كبرياء فكبرياء
من أنت؟ من؟
من هؤلاء؟
أوكلما اقتلعت غيومك عاشقا
هطلت سماؤك أنبياء؟!
من أنت؟ من؟
من هؤلاء؟
ردي على النهر التحية
وامنحي الآن البكارة
من يشاء”
لا يغيب الحس الرومانسي لحظة عن الأجواء، ولكن بقدر الحرص على لطفه، يصير مسعورا أحيانا بحس إيروتيكي يداخله في سطور لاهثة تخلق عجائبية ما:
“أنا شاهد قبركَ
أسقي صبارك من نهدي
وأدل عليك الأسطورة
قبل الطوفان”
كذلك:
“تتعامد شمس الرغبة
فوق سريري
في النصف الثاني
من كل صباح
بعضي يغزل بعضي
أشباحا من فوضى
امرأة في المرآة
وأخرى تحتي
من منا الأنثى؟!
من منا الشرفة والعالم؟!
من منا الحبلى بالأخرى؟!
من منا الأصبع والخاتم؟!
من منا الظل اليابس؟!
من منا المرآة؟!
الزفرة واحدة..
والآهة واحدة..
والماء يفرقه الغيم
على الصحراء”
هكذا كأنه يريد أن يبني واقعا أسطوريا (ما كنت أنا قصدت به الحياة اللايقينية عند تفسيري لعنوان الديوان بنظام الدلالة)؛ لذا يحشد له كل ما يمكن أن يعززه، بوسائط الأخيلة والأشواق وصخب الإيقاعات وهدوئها.
المقاطع التي ضمتها القصيدة الأخيرة الأطول “شهقة.. وينزل المطر”، والعنوان عبقري للأمانة، لأنه كما لو كان محصلة لكل ما فات من محاولات بناء الواقع الأسطوري، أو ربما تحويل الأسطورة إلى واقع (أيهما أقرب)، إلا أنهما المعنيان اللذان يفضيان إلى نتيجة واحدة مع اختلافهما: تخفيف الظلال اللايقينة عن اللوحة الحياتية، أو محوها، ولو بالتدريج، فيظهر الظل اليقيني واضحا كالشمس في نهاية المطاف على الرغم من غياب البشارة لاكتظاظ الطريق بالموانع. تبدو هذه المقاطع فلسفية إلى حد كبير، وقد تكون النثرية أدركتها لسبب كهذا:
“ما أصعب الكلمات
ذابحة
ومذبوحة!”
كذلك:
“كم أنت رقيقة..
كفعل فاضح
في الطريق العام”
..
هذا ديوان يعيد الثقة كاملة في قصيدة الشعر الحر التي زوتها القصيدة النثرية زويا، مع اعترافه بالقصيدة النثرية، ورفعها إلى دائرة الجوار القريب، وبالمثل فإنه يعيد الثقة في جيل ينتمي إليه الشاعر، هذا اللاعب الماهر الذي قدم للقراء يقينا بالأشياء من نفس الباب الذي كان أفقد نفسه من خلاله اليقين بكل شيء!
..