رحاب إبراهيم
لابد أن زملائي يعجبون من قدرتي الفائقة على الصمت، أنا أيضا أعجب لذلك، ولا أذكر تماما متى اكتسبت تلك المهارة لكن المؤكد أنني لم أولد بها.
كنت أعجز عن تخيل كيف يمكن لإنسان أن يظل وحيدا وصامتا هكذا مثلما كانت تفعل زميلتي (ن) أخصائية الأمراض الباطنية في أول مكان عملت به بعد سفري والتي كانت تكبرني حينها بعدد لا بأس به من السنوات
بينما كنت أجوب العيادات كلها وغرف التمريض في فضول لأصادق الجميع، كانت هي ترد على تحيتي باقتضاب مهذب ولم أستطع أن أستمر في الحوار معها لأكثر من خمس دقائق بلا سبب واضح – صحيح أنها في نهاية الأمر منحتني الحد الأقصى من الثقة لديها والذي لم يكن كثيرا على أي حال- لكنها لم تخرج أبدا عن صمتها المحايد، هذا الصمت الذي أكسبها مزيجا فريدا من الانتقاد والاحترام.
………
في طفولتي كنت أتسلل لأرى أبي حين يجلس في الشرفة وحيدا يستمع للراديو. ساعات طويلة تمرّ عليه في صمت، حتى شككت مرة أنه يخبئ شخصا ما بالداخل يتحدث معه وحده.. راقبته أحياناً لكن هذا الشخص الخفي لم يظهر أبدا.
كانت أمي قد غادرتنا إلى السماء قريبا، وكنا ثلاثة، أصغرنا لم تتجاوز الثامنة، لكني لم أستطع ربط الحزن بالصمت وقتها.
كنت قد صدقت وعود الكبار بأنها سوف تُشفى وأن كل هذا الوجع سيختفي..مضى وقت بعيد منذ أدركت أن الكبار أيضا يخلفون الوعود، وأن الشخص الذي تخبّئه لتتحدث معه حين تكون وحيدا ليس مسالما أبدا.. إنه أصعب شخص يمكنك مواجهته ولابد أن تمتلك الشجاعة الكافية لتتحدث معه وعنه بصدق.
…………
ربما دون أن أدري قررت مواجهة الحزن بالصخب، فتحولت من طفلة هادئة نسبيا إلى مراهقة اقتحامية ومشاكسة، في إحدى المرات النادرة التي سُمح لي فيها بالخروج مع صديقاتي ذهبنا إلى النادي حيث الحياة تفتح ذراعيها بعيدا عن مراقبة الأهل.
كنت السيدة التي تجلس لمراقبة طفلها وهو يلهو صامتة إلى حد الملل، وقررنا معاقبتها على هذه الجرعة من الهدوء. انتظرنا حتى قامت لسبب ما وتسللنا لاستبدال الكرسي بآخر مكسور، ثبتنا الخشبة مكان الرجل المكسورة كي لا تلاحظ ثم اختبأنا لنراقب سقوطها الوشيك.
لابد أن خطتنا كانت مفضوحة لكل الجالسين الذين اعتبرنا صمتهم تواطؤاً ومشاركة صامتة، بل ربما تباهينا بقدرتنا على التخطيط والتنفيذ وتوقعنا منهم الفرح بالمغامرة بدلاً من جلستهم الرتيبة التي تخلو من أية أحداث.
ولكن في اللحظة التي عادت فيها السيدة وقبل أن تهم بالجلوس اقترب منها رجل وهمس إليها بأدب مشيرا للكرسي، هزت رأسها بابتسامة شاكرة ثم جلست في مكان آخر.. فشلت الخطة وضاعت جرعة الضحك المنتظرة
…………
كان من الضروري أن أجتاز وحدي أياما طوالا قبل أن أدرك أن ادعاء القسوة والأذى لن ينقذني أبدا. ثم تسلل الصمت تدريجيا، مثل نجم محترف عرف كيف يحتل المشهد
ولولا دائرة صغيرة من الأصدقاء رافقوا انتقالاتي المتكررة عبر البيوت والأفكار والتجارب… لولا هذه الدائرة المنتقاة ربما التهمني تماما
وإلى الأبد