د. خالد عزب
يردد علماء الأثار في كل جامعات العالم في قاعات الدرس لطلابهم عبارة يجمعون عليها هي (أنفق المصري القديم الكثير من الوقت والجهد والمال للإعداد للموت وتجهيز مقبرته).
وآثار مصر التي يقبل عليها السياح من كل أنحاء العالم ما هي إلا مقابر فالأهرام في الجيزة وسقارة ودهشور مقابر، ووادي الملوك ووادي الملكات في الأقصر مقابر شيدها المصر القديم، وفي العصور الإسلامية مقابر المماليك في القرافة وأشهرها مدرسة السلطان قايتباي ماهي إلا مقبرة للسلطان، الآن مصر تزيل حقب كاملة من تاريخها بإزالة مئات المقابر التي هيحلقة في تاريخ تطور عمارة المقابرمنذ عصور ما قبل التاريخ إلي الآن، لم تكن المقابر في مصر مكان لدفن الموتي بقدر ما هي إلا تعبير عن الرغبة في حياة أبدية سعيدة في العالم الأخر، لذا صار للموت قدسية وحرمة في مخيلة المصريين، لذا صار للموت فلسفة في حياة المصريين، وحين تقوم بإزالة مقابرهم فأنت بذلك تجرح هذه المخيلة وتتعرض للسخط بالدعاء عليك منهم، القضية هنا أيضا ترتبط بأن المشاهير والأعلام من المصريين دفنوا في القرافة القاهرية منذ الفتح العربي إلي الآن، فورش وهو صاحب القراءة القرأنية الشهيرة في العالم مدفون في القرافة، ومن المدهش أن العديد من مقابر مشاهير المصريين صارت تطلب زيارتها منذ عصور قديمة، حتي ألفت مؤلفات في الإرشاد السياحي لزيارة المشاهير من الأولياء والمشاهير فالكندي والقضاعي وغيرهم ألفوا كتب في الزيارة وإرشاد الزائرين لمقابر هؤلاء، ولنذهب معا إلي السيدة نفيسة التي دفن إلي جوارها: أمير الشعراء أحمد شوقي ومدفنه تحفة فنية أزدان بخطوط اثنين من مشاهير الخطاطين في العالمالإسلامي هما يوسف أحمد وسيد ابراهيم، وبالقرب منه قبر حافظ ابراهيم الذي شيد بطريقة معمارية فريدة حيث تعلوه قبة ترتكز علي أربع داعامات دون جدران وهو ذات تصميم قبر حافظ شيرازي الشاعر الايراني الشهير المدفون في شيراز وقد حولت ايران قبره إلي مزار سياحي، وعلي بعد خطوات منهما قبر الشيخ أحمد رفعت أشهر من قرأ القرأن الكريم في القرن 20، بل القضية التراثية هنا أعمق من ذلك فقد تباري المعمارين المصريين في تصميم المدافن وقبابها حتي رأينا استعادة واحياء للعمارة الاسلامية بروح جديدة، بل الدهشة من تصميم معماري لمدفن في السيدة نفيسة علي طراز المعابد الفرعونية.
السؤال المحير هنا امام كل مصري: هل تتحول المقابر إلي عائق أمام أي جهود عمرانية أو تنموية؟ ليطرح عليك سؤال أخر: هل إزالة المقابر حرام في حين أن الرسول صلي الله عليه وسلم حين نزل المدينة المنورة أزال مقابر كانت في موقع مسجده؟
ليطرح عليك سؤال: هل نحن نزيل المقابر التي هي جزء هام يؤرخ لمصر ونفقد للأبد تراث مصري؟ ليطرح عليك سؤال: هل نحن عاجزين عن توظيف مقابر العظماء في ترسيخ الهوية الوطنية وفي جذب المزيد من السياحة لمصر؟
إن الحقيقة إن مثل هذه القرارات المتعلقة بالموتي تحتاج إلي وضوح وإلي اظهار الغاية من ذلك لأن القرار إذا لم يكن له مبرر أو بديل قوي فسيكون محل سخط عام، فمن الصعوبة علي مصري أن يعيد دفن احبائه الابن حين يعيد دفن أبيه أو أمه أمر صعب للغاية علي النفس، الأب من الصعوبة عليه إعادة دفن ابنه أو بنته المتوفاة في ريعان شبابها، أعرف أن هذا طرح صعب علي من يقرأ هذا المقال لكنها الحقيقة المرة التي لا يعيها سوي من مر بهذه التجربة المريرة، فلذا حين لا نشرح للناس ونقنعهم بأنه لا يوجد بديل أخر هذا التجاهل في الايضاح يترك في نفوس الناس جروح نافذة من الصعب علاجها.
الأمر الأخر سيسجل التاريخ لمن اتخذ هذا القرار بإزالة مدافن هي جزء من سيرة الوطن وتريخه وتراثه الفني والمعماري، أنه دمر تراث وتاريخ الوطن، هذا في حد ذاته يتطلب مراجعة هذا بعمق وبتفكير ودراسات اجتماعية وانثربولوجية واقتصادية حتي يكون الأمر في اطار يمكن تقبله الأن وتقبله من الأجيال القادمة التي ستذكر أن من سبقوهم دمروا تاريخ الوطن.
إن الطرح الايجابي يتطلب تأجيل قرارات الازالة وتشكيل لجنة تتخذ قرارات في هذا الشأن يكون أعضائها منخبراء وطنيين في التراث والتخطيط العمراني لمراجعة كل هذا الملف، واقتراحي أن تنشأ مصر متحفا للموت في ذات المنطقة، يتم جمع ما التراث الذي يمكن نقله لهذا المتحف الفريد من نوعه علي مستوي العالم، ثم تجنب ازالة مدافن لها قيمة معمارية وفنية فريدة وتحويل المناطق حولها لحدائق وهو ما كانت عليه قديما حيث كانت تضم متنزهات كانت جاذبة للمصريين، وانا هنا أتحدث مثلا عن مدفن أمير الشعراء أحمد شوقي وضريح الشاعر حافظ ابراهيم علي سبيل المثال لا الحصر، وهو ما انتقل لاوربا من تراثنا فلندن المدافن بها حدائق تجذب مئات الزائرين، بل إن الكثيرين لا يعرفون أن قبة الامام السيوطي المجاروة لميدان السيدة عائشة يوزرها مئات الزوار من خارج مصر ولقرون هي مزار سياحي لكل من يأتي إلي مصر، فما المانع أن نرممها وأن نقيم إلي جوراها متحفا لمخطوطات وحياة السيوطي أليس هذا متحفا جاذبا للألاف من الدول الإسلامية لزيارة ضريح السيوطي أشهر علماء الاسلام، إن ما لا يعرفه الكثيرين أن مناطق القرافة في مصر من مصر القديمة إلي العباسية إلي جوار سفح المقطم لو في بلد أخر لصارت منطقة حفائر أثرية ستقدم لنا الكثير من المعلومات المفقودة من تاريخنا وتكشف عن تراث مفقود، فمثلا مدينة العسكر التي كانت عاصمة مصر في العصر العباسي تقع أسفل مقابر السيدة نفيسة، بل إن مسجد السيدة نفيسة بني فوق المسجد الجامع لمدينة العسكر، وبالتالي ستجد حول هذه المنطقة تلال أثرية أقربها التلال التي بنيت عليها منطقة زينهم، إن هذا المقال هو دعوة للمراجعة والتفكير بل ودعوة لأن نفكر سويا لمصلحة مصر وتراثها ومستقبلها.