دعاء إبراهيم
صدرت قبل أيام الرواية الأحدث لطارق إمام “ماكيت القاهرة” عن “منشورات المتوسط” بميلانو. ومن خلال نظرة متفحصة لعوالم طارق إمام سنجد أن الحديث عن القاهرة وضواحيها قد أتى من قبل بصورة واضحة في رواية سابقة، هي “هدوء القتلة”، حيث كانت القاهرة شاهدة على القتلة الحالمين الحافظين لدروب المدينة وشوارعها. وقد وصف إمام إحدى ضواحي القاهرة “بماكيت متقن لحلم يقظة آمن “، وقال أيضا عن المدينة: “حجر سحيق يشد القاهرة كلها.. يبقيها.. يرسيها.. يرسخ فوق الأنفاس الهشة المؤقتة. المدينة ماريونيت مشدودة بخيوط واهنة إلى صخر مطعون”. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تتداخل فيها عوالم الكاتب حيث يستخدام عناوين أعماله داخل أعمال أخرى. وكأن عالمه كامل ومتصل ومتشابك وربما يصعب فصله. فهل ستكون الرواية الأحدث “ماكيت القاهرة” حلم يقظة آخر؟!
من الأفكار التي تناولتها عوالم طارق إمام فكرة الكتابة بعد الموت، أو الحكاية التي من الممكن أن تبدأ بعد الموت كما في “رواية ضريح أبي”. الموت هنا يشبه النوم. واليقظة تشبه الحلم. الحلم هو الكتابة. والكتابة تبدو حلمًا مستحيلا. آخر ورقة تُكتب في الكتاب هي نفسها آخر لحظة في الحياة. في ضريح أبي جعل طارق إمام الميت يحلم بمدائن ويموت فيها ليصبح موته مجرد نوم متقطع قلق. وفي طعم النوم هناك فتاة تكتب وهي نائمة. النوم مرادف للموت. والموت مرادف للنوم. الميت نائم والنائم ميت، والفعل واحد دوما: البحث عن حكاية يمكن أن تُحكى. تُحكى بشكل مخادع. فهناك دوما حلم يسحب الميت النائم بعيدا عن حكايته. فالأحلام تأتي مرة واحدة أو تنقطع تماما! وفي هدوء القتلة هناك شاعر يعرف طريقه إلى الله أو إلى الكتابة بالدم. وحين ينتهي من السطر الأخير يموت أو يُقتل أو ربما يترك نفسه للموت برغبة دفينة. وكأن هدفه من الحياة هو أن يكتب فحسب. حتى لو كان طريقه للكتابة طريقا للموت. حتى لو كانت الكتابة “طلوع روح!” وكأن أسمى ما يمكن للإنسان فعله هو أن يصبح كاتبا يوما ما. ونجد في “الأرملة تكتب الخطابات سرا” أن المرأة وجدت مرادفا آخر للحياة حين كتبت الخطابات للفتيات الصغيرات. كل ما قامت بفعله هو إعادة صياغة وتدوير للغة الخطاب الركيكة لتصبح لغة شاعرية. لتبدو مهمة الكاتب هي إعادة تدوير الحكايات العادية لتصبح بشكل ما ساحرة وفنية. كأن الفن الذي يبدو عصيا، ما هو إلا عملية بسيطة. غاية في البساطة كأن تكتب خطابا بين عشيقين. فتشعر لوهلة أن إعادة تدوير اللغة هي إعادة تدوير للحب وللحياة. يصير للأرملة آلاف العشاق في كل مكان بعدد الخطابات اللانهائية. ويصبح لها مع كل عاشق عدو. أعداؤها يقفون عند النواصي ليستبيحوا سمعتها فقط لأنها أتت بالحب على هيئة لغة شاعرية. أو لأنها اقترفت الفن كذنب أخير وأبدي. بقيت الأرملة طوال حياتها تخاف الموت بينما أعداؤها يخافون الكتابة. الكتابة الكاشفة التي تجعلنا أكثر استقبالا للحياة/ للموت. فتصبح الأرملة في النهاية قادرة على مضاجعة الموت كقدرتها الاحترافية على صياغة الخطابات.
طارق إمام مهموم بالكتابة. ليس مهموما بموضوع الكتابة أو شخوصها ولكن همه الكتابة نفسها. الكتابة التي حين تحمل بعضا من الخيال تصبح مقدسة. لكنها رغم ذلك مخادعة. تفلت دائما من بين يدي صاحبها. تُحرف. وتُؤول. وتتغير .وتتلون. يبتكرها رجل ربما ليس لديه حكاية. ربما لم يتزوج. لم يحزن. لم يخض حربا. لكنه ماهر في اختلاق الحكايات التي تجعل منه رجلا لا يموت. وإن مات لا يكف عن الحكي. عن ممارسة الكتابة كالموت.
ومن أجواء رواية ضريح أبي:” ربما لأنني صدقت، أو لأنني لم أصدق على الإطلاق، فقد حمل لي اليقين، وبنفس قوة الشك، المذاق نفسه للخواء. وأنا الآن أعرف، أعرف الآن، بينما لم تعد ثمة فرصة لإضافة المشهد الذي حلمت به، في الورقة الوحيدة المتبقية، أنني تمنيت، فقط ، في مخطوط حياتي القادم من منام ليتحول إلى ما كان يمكن تسميته ذات يوم واقعا، أن أكتب قصة عن رجل عجوز بلا ذكريات، رجل تجاوز كل سنوات الآخرين إلى أن صار القادم نفسه ذكراه، ولكن حياته رغم ذلك مثل ورقة بيضاء، لم يعش قصة حب، لم يخض حربا، لم يمش في شارع مظلم ولم يخنه صديق، إنه حتى لم يدخن ذات يوم ولم يوقظه صراخ طفل، رجل يفكر في حياته ويحسد أقرانه العجائز أصحاب الذكريات المديدة، فيضطر لتأليف حكايات لم يعشها، وتنتشر حكاياته بعد فترة، تصير مقنعة أكثر من ذكريات الناس الواقعية وأشد إثارة.”وهنا، عندما نتوقف عند نقطة الكتابة عن الكتابة، أو الكتابة عن الفن، دوما يبدو الفن ملغزا ولا يقدم إجابات. حين نسأل أنفسنا عن تعريف الأعمال السيئة، أو الجيدة، حين نتحدث عن الذائقة التي تتغير دائما وأبدا. حين نسأل عن “الفنية” نجد أننا أمام كم هائل من الأسئلة التي بلا إجابة محددة. أو أننا أمام إجابات لا نهائية، لكنها لا تخضع لثنائية الصواب والخطأ. إجابات نسبية تعتمد على الذائقة والوعي والأفكار. السؤال عن ” الفنية” يشبه تماما السؤال عن الحياة. كأن الكاتب حين يكتب عن الفن يكتب من خلاله عن الحياة بأسئلتها التي لا تنتهي. وبقدرتها على الخداع و المراوغة وكسر المسلمات. فالحياة قادرة على كسر “الكليشيه” ربما أكثر من قدرة الكثير من الأعمال الجيدة!
توقفت كثيرا أمام السرد عند طارق إمام. ويمكنني القول عنه إنه “سرد مموه”، ورغم أنه يبحر في السرد إلى التجريب بعيدا عن شاطئ الواقع، لكن يمكنني القول إن سرده أقرب ما يكون للواقع. ربما هو أقرب للواقع من الأعمال الواقعية نفسها. قد يبدو ما أقوله غريبا، لكن عند النظر للسرد أجد أن في كثير من أعماله لا توجد فواصل واضحة بين حكاية وأخرى. تبدو دوما الفصول متداخلة. لا توجد خيوط حاسمة أو قاطعة. لا توجد مقدمات للبدايات أو النهايات. وعندما ننظر للواقع ونتأمل قليلا في الماضي مثلا، لا نجد أننا من الممكن أن نحكي حكاية بشكل قاطع. فلا توجد بدايات حقيقية واضحة للأشياء التي حدثت وتحدث لنا. لكن يمكننا القول أنه دوما هناك مشاهد لا تُنسى. مشاهد قد تبدو بدايتها غير واضحة وقد لا نتذكر كيف انتهت. نحن لا نعيش الواقع على هيئة فصول تبدأ وتنتهي. لكننا نحيا داخل شبكة لا يمكن الفصل فيها. وقد لا يمكن أيضا النجاة منها أو التقاط الأنفاس. نحن نحتاج دوما للنظر إلى الماضي، أو بالأحرى لإعادة النظر.
يملك طارق إمام خيوط البداية قبل الكتابة لكنه قد لا يضطر لصياغتها داخل الرواية. أما خيوط النهاية فهي دوما ممتدة ربما لفضاء شاسع أبعد من انتهاء صفحات الرواية. ربما لذلك السبب يمكنني أن أجيب لماذا ظلت روايات بعينها معي لفترة بعد انتهاء الرواية؟ لماذا تبقى الخيوط ممتدة وممتلئة بالحياة؟ ربما لأنها تشبه الحياة إلى حد كبير. لا أحد يموت بشكل نهائي. فقط الحياة تتحور من طور لآخر. وتبقى في النهاية منتصرة وباقية.
أخيرا وليس آخرا، طارق إمام ليس مولعا بالحكاية وتفاصيلها قدر ولعه بالطريق إلى الحكاية. الطريق المحفوف بالمخاطر، بالمسوخ!، بالرغبة في التجريب. والطريق هو الطريقة كما يقول الشاعرمحمود درويش.
……….
*روائية مصرية