فالخوف من الطائرة هو أحدث أشكال الخوف، وجد منذ اختراع الطيران فقط، أي قبل نحو سبع وسبعين سنة. وأنا أعانيه ـ بكل فخر ـ كما لا يعانيه أحد، وأشعر بامتنان كبير نحوه لأني استطعت بفضله أن أدور حول العالم في اثنتين وثمانين ساعة، على متن جميع أنواع الطائرات ولعشر مرات على الأقل’.
يجب أن نضع هذه الفقرة في سياقها التاريخي، طبعا الخوف من ركوب الطائرة شائع ومعروف حتى هذا الوقت، ولكنني أعتقد أن حدة هذا الخوف باتت تخف باستمرار، ولسبب واحد فقط ربما، وهو أن وسيلة التنقل بواسطة الطائرة أصبحت أحد أكثر الوسائل شيوعا وانتشارا في عالم بات يشهد سرعة مفرطة في كل المجالات. أما الحديث الذي ساقه ماركيز، فهو يخص فترة ما قد نسميه بالبدايات الأولى أو الإرهاصات الأولى لثورة النقل الجوي. وبالتالي فكلام ماركيز لن نجده، من خلال هذا المنظور، خارجا عن منطق الفترة التي يتحدث عنها. حتى أنه يقول بأنه يشعر بالامتنان الكبير نحو ‘الخوف من ركوب الطائرة’ لأنه استطاع بفضله أن يدور حول العالم في اثنتين وثمانين ساعة، على متن جميع أنواع الطائرات ولعشر مرات على الأقل. ألا تذكرنا المدة التي حددها ماركيز باثنتين وثمانين ساعة التي دار بفضلها حول العالم، والدوران نفسه حول العالم، برواية من وحي الخيال العلمي للكاتب الفرنسي جون فيرن، وعنوان الرواية هو: ‘حول العالم في ثمانين يوماً’ التي نشرت سنة 1873 م، ولكن ماركيز أضاف ساعتين حول دورانه المزعوم حول العالم. أفهم بالطبع أنه حين يتحدث ماركيز عن الدوران حول العالم، فهو يعني بلدانا بعينها لا أكثر. وعلينا أن نكون أيضا رجالا بدورنا لنتحدث عن خوف حقيقي ينتاب كل من يركب الطائرة لأول مرة في حياته، ولكن هذا الخوف سرعان ما يتلاشى شيئا فشيئا بعد تكرار التجارب. وعلينا أن نعترف بأن هناك فعلا حالات مرضية، لا شفاء لها، حول الخوف من الطيران، غير أن غابرييل غارسيا ماركيز له رؤية خاصة حول الخوف من ركوب الطائرة، فهاهو يقول لنا بمزحة لطيفة وأنيقة جدا:
‘وعلى النقيض من مخاوف أخرى متوارثة وخلقية، فان الخوف من الطائرة يمكن تعلمه. إنني أذكر بحنين رحلات الطيران الغنائية حين كنت في مرحلة الدراسة الثانوية، بتلك الطائرات ذات المحركين التي كانت تطير بين العصافير، مخيفة الأبقار، ومفزعة بريح مراوحها الأزاهير الصغيرة الصفراء في المراعي، والتي كانت تضيع أحيانا والى الأبد بين الغيوم، وتتحول إلى عجة، فيصبح لا بد من الخروج في منتصف الليل للبحث عن رمادها بأكثر الأساليب طبيعية ومنطقية: على متن بغلة’.
نعم على متن بغلة، هكذا يصبح الخروج لا بد منه في منتصف الليل للبحث عن رماد تلك الطائرات التي تخيف الأبقار، وتفزع بريح مراوحها الأزاهير الصفراء في المراعي. انه كلام بارع، وينطوي على جانب كبير من الشاعرية، تلك الشاعرية السحرية التي نجدها دوما في روايات ماركيز على شتى الأنماط والأنساق، حتى وهو يتحدث عن طائرات غريبة لا ندرك في الواقع ماهيتها، وما الذي يجعل ماركيز يتذكرها بكل ذلك الحنين، هل لأنها طائرات من ورق مثلا؟ ولكن لماذا يذكر أن لها محركين، ثم كيف تضيع أحيانا والى الأبد بين الغيوم وتتحول إلى رماد؟ غير أن الحادث الآخر الذي يتحدث عنه ماركيز، والذي يبدو مرعبا حقا، وحقيقيا أيضا، لأنه هذه المرة ذكر مرافقه المصور بالاسم. إذ يقول:
‘في إحدى المرات، وكنت كاتب تحقيقات في واحدة من صحف بوغوتا، في مرحلة لا واقعية كان عمر جميع الناس فيها عشرين سنة، أرسلوني لمتابعة خبر مشؤوم ومعي المصور غيللير موساننتيشيث، في واحدة من تلك الطائرات البرمائية من طراز كاتالينا التي بقيت بعد الحرب. كنا نطير فوق غابات اورابا، جالسين على حزم المكانس، لأنه لم يكن يوجد مقاعد في تلك النعوش الطائرة، ولا مضيفة تبعث العزاء ويمكن لأحدنا أن يطلب منها رقم هاتفها في الجنة. وفجأة دخلت الطائرة حيث ما كان عليها الدخول وتاهت وسط وابل توراتي. لم يكن المطر يهطل في الخارج فقط، وإنما في داخل الطائرة أيضا. جاءنا مساعد الطيار وهو يتمسك بجهد جهيد، حاملا لنا جريدة لنغطي بها رؤوسنا، ولاحظنا ونحن مذهولين انه يكاد يكون عاجزا عن الكلام، وأن يديه ترتعشان.
في ذلك اليوم تعلمت شيئا مشجعا، للغاية: فالطيارون يخافون أيضا، إلا أن خوفهم، مثل مصارعي الثيران، لا يبدو في ارتعاش أيديهم كما هو شأن الخوف من الخرافات. ‘ما يثير فعلا في كتابات غابرييل غارسيا ماركيز، هو ذلك التطويع الجميل للغة ولسحر التعبير المحير والممتع، فهو يقول بطريقة جد مثيرة للإعجاب’ في مرحلة لا واقعية، كان عمر جميع الناس عشرين سنة’ هكذا كان إحساس ماركيز في تلك الفترة وهو في عز شبابه، ويرى بعين شبابه، أن كل العالم في عمر العشرين سنة. قد نفهم العبارة على هذا النحو، ولكننا في كل الأحوال سنشعر بمتعة أدبية نستلذها من خلال تسريب ماركيز لمثل هذه العبارات التي قد لا نجد لها مثيلا إلا في كتاباته. ولكي يصور الموقف في أقصى مأساويته، فهو يقول أيضا: ‘ كنا نطير فوق غابات اورابا، جالسين على حزم المكانس، لأنه لم يكن يوجد مقاعد في تلك النعوش الطائرة’.
يرتعش جسم الإنسان حين يقرأ مثل هذا الكلام الذي يكمله ماركيز بعبارة أكثر مأساوية مع لمسة رومانسية كئيبة لا تناسب المقام، أو ربما تناسبه على نحو ما:
‘ولا مضيفة تبعث العزاء ويمكن لأحدنا أن يطلب منها رقم هاتفها في الجنة.’…هكذا فكل شيء في الموقف ينبئ بكارثة لا يمكنها إلا أن تبعث المرء إلى العالم الآخر، وإذا كان محظوظا فانه سيحصل على الرقم الهاتفي للمضيفة عساه يلتقي بها في الجنة…انها سخرية ماركيز الفاتنة.
ثم يضيف في فقرة جد مثيرة، وباعثة على الاستغراب:
‘لم يكن المطر يهطل في الخارج فقط، وإنما في داخل الطائرة أيضا. جاءنا مساعد الطيار وهو يتمسك بجهد جهيد، حاملا لنا جريدة لنغطي بها رؤوسنا، ولاحظنا ونحن مذهولين انه يكاد يكون عاجزا عن الكلام، وأن يديه ترتعشان’.
إذا كانت الأمطار تتسرب فعلا إلى داخل الطائرة، وإذا كان الركاب يحتاجون لشيء يغطي رؤوسهم لكي لا يصيبهم البلل، فليس من المستغرب أن يكون مساعد الطيار يكاد يكون عاجزا عن الكلام، وأن يديه ترتعشان. بل السؤال كيف أن رباطة الجأش والشجاعة مكنت ماركيز وزميله المصور، أن يلاحظا ارتباك وخوف مساعد الطيار، وهل كانا حاضرا الذهن بصفاء لدرجة وعيهم بما يجري حولهم وسط تلك الأجواء المرعبة؟ على كل حال لن يكون لمثل هذه الأسئلة من جدوى ما دمنا نقرأ نصا رائعا وممتعا، وبأناقة تعبير ماركيز وقدرته على خلق عوالم غرائبية في تفاصيل الأحداث، كيفما كان نوع هذه الأحداث، أو حجمها.
ويواصل ماركيز في نفس المقال:
‘أما أنا فقد وقعت في تجربة أكثر إيحاء أثناء طيراني بين النجوم، فوق المحيط الأطلسي. كنت أتحدث مع قائد الطائرة حول جميع الأمور، وسألته خلال الحديث عن صديق آخر طيار، كان زميلي في المدرسة، وكنت أجهل بطبيعة الحال انه قد تهشم وقضى نحبه في مطار تينيريفي وهو يحاول الهبوط وسط عاصفة. فأخبرني قائد الطائرة بذلك بطريقة أخرى، لكنها أكثر كشفا: لقد تقاعد عن الشركة منذ ثلاث سنوات، في جزر الكناري’.
في متابعتي لما يكتبه غابرييل غارسيا ماركيز، أكاد أجزم بأن جواب الطيار حول صديق ماركيز الذي كان على النحو التالي: ‘ لقد تقاعد عن الشركة منذ ثلاث سنوات، في جزر الكناري. ‘ مثل هذا الجواب لا يمكن أن يبدعه إلا خيال ماركيز، ليس لأن الأشخاص في حياتهم العادية لا يقولون مثل هذا الكلام، بل قد يقولون ما هو أطرف وأعمق، ولكننا قلما نجد هذا الكلام يتحول إلى أدب وبهذه الطريقة الطريفة لدى العديد من الكتاب. وبهذا، وغيره الكثير، كرس غابرييل غارسيا ماركيز نفسه واحدا من أعظم كتاب الرواية في العالم، وعبر كل العصور.
يستدرك ماركيز ليقول: ‘ومع ذلك، ليست هناك علاقة بين الخوف من الطائرة …والكوارث الجوية. وقد عبر بيكاسو عن ذلك بشكل جيد: ‘أنا لا أخاف الموت، لكنني أخاف الطائرة’. بل وأكثر من ذلك، فهناك كثيرون ممن يخافون الطائرة، تخلصوا من هذا الخوف بعد نجاتهم من كارثة. أما أنا فأصبت بعدوى و كأنها التهاب لا شفاء منه أثناء رحلة في منتصف الليل من ميامي إلى نيويورك، في واحدة من أولى الطائرات النفاثة. كان الجو على ما يرام والطائرة مستقرة في السماء، والى جانبها تلك النجمة المنفردة التي ترافق دوما الطائرات الخيرة، وكنت أتأملها من النافذة بالحنان نفسه الذي كان سانت اكسبيري يرى فيه مواقد النار في الصحراء من طائرته الألمنيوم. وفجأة، في التأمل، وعيت استحالة بقاء الطائرة معلقة في الجيوفيزيائيا، وأقسمت ألا أعود إلى الطيران أبدا. وفيت بقسمي عشر سنوات، إلى أن علمتني الحياة أن الخائف الحقيقي من الطائرة ليس من يرفض الطيران، وإنما من يتعلم الطيران بخوف’.
مقولة بيكاسو (أنا لا أخاف من الموت، لكنني أخاف الطائرة)، هي مقولة أنيقة ومن ذلك النوع من المقولات التي تسترعي انتباهنا لجماليتها وغرابتها، ولنكهة الإبداع فيها. وأعتقد أن ماركيز وجد كل ذلك في هذه العبارة، لذلك احتفظ بها في ذاكرته، بل وكتبها في المقال ليعزز به طرحه حول الخوف من الطائرة. ولكن إذا كان المرء لا يخاف الموت، فلماذا يخاف الطائرة؟ وحوادث الطيران ليست َلعب أطفال..إنها حوادث مميتة، وتكاد تنعدم فيها تماما فرص النجاة، عكس السيارة مثلا. لو أن بيكاسو قال مثل هذا القول حول خوفه من السيارة لكان أكثر قربا من الحقيقة، ولكنه وهو يقصد الطائرة، فإنه من المفروض إدخال هذا الكلام في خانة الفن التشكيلي والمدرسة التكعيبية التي أبدع فيها بيكاسو جماليات خارقة.
يشير ماركيز إلى حقيقة جد ملفتة في العبارة التالية: ‘وفجأة، في التأمل، وعيت استحالة بقاء الطائرة معلقة في الجيوفيزيائيا، وأقسمت ألا أعود إلى الطيران أبدا’. هنا نجد ماركيز يستغرب، لدرجة الرعب، تلك السكينة والهدوء التي يشعرها المرء وهو في الطائرة حين تستقر في الفضاء، ولكن ماركيز يستفزه ذلك الهدوء والاستقرار الذي يجعله يتصور وكأن الطائرة متوقفة في الهواء، وأنها لا تطير، وعكس ما قد نتخيل، فماركيز أقسم بأن لا يعود إلى ركوب الطائرة. والسبب استحالة بقاء الطائرة معلقة في الجيوفزيائيا، في تصوره طبعا الذي يجعلنا نؤمن به.
ويكتب غابرييل غارسيا ماركيز في ذات المقال حول موقف يكاد لا يصدق، وقد يتضمن الكثير من الحقيقة، ولكنه لا يخلو أيضا من الكثير من خيال ماركيز، والمبالغة البارعة التي تتسم بها كتاباته:
‘أمي لم تطر سوى مرتين في حياتها الطويلة. ولم تشعر بالخوف أبدا، لكنها تعرف جيدا خوف أبنائها ـ وهم اثنا عشر ـ، فتحتفظ لذلك بشمعة مشتعلة دوما فوق المذبح البيتي لتحمي بها من يكون في الجو منا. أن إيمانها راسخ لدرجة أن أحد أبنائها ـ وهو مهندس طرق ـ تدهور منه بلدوزر في هوة إلى جانب الطريق منذ وقت قريب، وسمعت أمي أثناء الحديث أن الغرامة قد تصل إلى أكثر من مئة بيزو، فطلبت من أخي ألا ينفق قرشا واحدا، لأنها ستشعل شمعة لإخراج البلدوزر. فقال لها أخي مؤنبا: (لا يمكن أن يخطر لأحد سواك انه يمكن لشمعة أن تخرج بلدوزرا من حفرة).
فردت عليه أمي بثقة:
ـ وكيف لا ُتخرجه! إذا كانت تحمل الطائرات في الجو’.
سنكرر بأننا دائما وأبدا نلتقط أجزاء من نتاجات ماركيز المتسمة بطابع الواقعية السحرية، وفي الفقرة أعلاه، نجد مرة أخرى تلك النفحة الفاتنة من رواية (مئة عام من العزلة) نفس الخيال، ونفس طريقة الكتابة، ونفس الشخصية الغرائبية التي رأينا منها الكثير في رائعته (مئة عام من العزلة). التميز الذي يجعل من ماركيز كاتبا عظيما، هو قدرته الباهرة على التقاط الأحداث الصغيرة من حوله، وجعلها مادة دسمة يصورها بخيال يكاد يبدو وكأنه بلا حدود. بل أكثر من ذلك تلك النزعة الغرائبية الطريفة التي لا نملك معها إلا أن نستمتع ونحن نقرأ نصوصه المدهشة.
وفي الأخير وفي مقال منفصل بعنوان (تدابير علاجية للطيران)، ولكنه يبدو تتمة لموضوعه حول الخوف من الطائرة، يقدم ماركيز بعض النصائح لتجاوز محنة الخوف من الطيران، التي يبدو أنه شخصيا لا يثق كثيرا في تلك النصائح، ومن تلك النصائح التي يقدمها بدون قناعة ربما:
‘أما المطالعة ـ العلاج النافع لشرور كثيرة على الأرض ـ فهي ليست كذلك في الجو بأي حال من الأحوال. إذ يمكن للمرء أن يبدأ بقراءة أفضل الروايات البوليسية حبكة، وينتهي منها دون أن يعرف من قتل من ولا لماذا قتله. ولقد كنت على قناعة دوما من أنه ليس هناك من هم أكثر خوفا في الطائرات من أولائك السادة الذين ُيظهرون عدم تأثرهم ويقرؤون دون أن يطرف لهم جفن، بل ودون أن يتنفسوا، فيما المركبة تغوص في الأجواء المضطربة. وقد عرفت واحدا من هؤلاء، كان جاري في المقعد، في ليلة طويلة من نيويورك إلى روما، عبر أجواء القطب الشمالي الوعرة، ولم يقطع قراءته في الجريمة والعقاب ولو تناول العشاء كان يقرأ الرواية سطرا سطرا وصفحة صفحة، ولكنه قال وهو يتنهد، في موعد تناول الفطور: (يبدو لي أنه كتاب مهم). ومع ذلك، يؤكد الكاتب الأروغوايي (نسبة إلى الأوروغواي) كارلوس مارتينيث مورينيو أنه لا يوجد ما هو أفضل من الكتاب في الطيران. فقد طار خلال عشرين سنة وهو يحمل معه دوما النسخة شبه المهترئة ذاتها من ‘مدام بوفاري’، متظاهرا بقراءتها رغم أنه صار يعرفها عن ظهر قلب تقريبا، لقناعته في أنها تدبير مؤكد ضد الموت’.
يبدو أن ماركيز لم يستثن من التظاهر بعدم الخوف من الطيران، حتى زميله في الكتابة، الأوروغوايي كارلوس مارتينيث مورينيو. بل ويصبغ عليه صورة لا تخلو من كاريكاتورية حين يصر بأنه كان يصطحب معه دوما النسخة شبه المهترئة ذاتها من رواية ‘مدام بوفاري’، وتركيز ماركيز على أن يقول عبارة ‘النسخة شبه المهترئة ذاتها’، يفعل ذلك لكي يبين أن الكاتب كارلوس مارتينيث مورينيو كان يتظاهر فقط بالقراءة، وكان يتصفح الكتاب وهو شارد الذهن مرعوبا من ركوب الطائرة، تماما كما كان الحال بالنسبة لرفيق رحلة ماركيز من نيويورك إلى روما، بحيث لم ينقطع ذلك الشخص عن القراءة أبدا حتى وهو يتناول الأكل، خصوصا حين يقول عن رواية الجريمة والعقاب: (يبدو لي أنه كتاب جيد)، بمعنى أنه لم يقرأه أبدا، وإنما كان شاردا طيلة الوقت، ملهيا نفسه بتصفح الكتاب بحركة لا واعية ليوهم نفسه بأنه يفعل شيئا، وأنه غير خائف من ركوب الطائرة. وعلى كل حال تبقى هذه الأحداث التي أوردها ماركيز، مجرد أحداث تدخل في مجال أدبه، والطريقة الفريدة والساخرة التي يكتب بها. ليس من حقنا أبدا أن نحاول معرفة مصداقية هذه القصص، وليس ذلك هو الهدف من قراءة الأدب. قد نفهم الأدب على النحو الذي عبر به بيكاسو حول خوفه من الطائرة: ‘أنا لا أخاف من الموت، لكنني أخاف الطائرة’. ونحن بدورنا نقول ‘نحن لا تهمنا مصداقية ماركيز، ولكن تهمنا مصداقية أدب ماركيز′. وهذه المصداقية أثبتت نفسها بجدارة، ولذلك نرى كتب ماركيز تباع بالملايين في كل أصقاع الكرة الأرضية.
( 1 ) مقال ضمن كتاب ‘كيف تكتب الرواية ومقالات اخرى، الصادر عن الأهالي للنشر والتوزيع بدمشق