بولص آدم
منذ أن بدأ الأدب الحديث يعلن نفسه كقوة حية في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان الشباب هم أول من يرفعون الصوت في مواجهة صمت الثقافة السائد. في روسيا، على سبيل المثال، حين كتبت مارينا تسفيتاييفا وهي لم تبلغ العشرين بعد، لم تكن تمارس كتابة عابرة، بل كانت تشق لغة جديدة داخل مجتمع منقسم، يترنح بين الثورات والقمع. لقد تحوّلت قصائدها الأولى إلى فعل تحدٍ وخلق معًا: تحدٍ لقيم سائدة تحاصر الفرد، وخلق لعالم لغوي يفتح للآخرين نافذة نحو ذاتهم. وفي الغرب، حين ظهر جيمس جويس الشاب أو فرجينيا وولف في بداياتها، لم يكونا مجرد أسماء جديدة، بل صوتين يعلنان بجرأة أن الأدب لا يمكن أن يظل صدى باهتًا للتاريخ، وأن مهمة الكاتب الشاب أن يهز القوالب الجامدة. أما في أميركا اللاتينية، فقد فجّر غابرييل غارسيا ماركيز عالم الرواية وهو في منتصف الثلاثينات من عمره، حين كتب مئة عام من العزلة، كاسرًا صمت تاريخ محلي طالما تم تهميشه في الرواية العالمية، وموصلاً أصوات قرى مهملة إلى خرائط الأدب العالمي.
هذا الفعل، فعل التحدث بصوت عالٍ، ليس مجرد اختيار جمالي، بل هو موقف وجودي. فالمؤلف الشاب، حين يقرر الخروج من دائرة التكرار والتقليد، إنما يضع نفسه في مواجهة مباشرة مع المجتمع، مع القراء، وأحيانًا مع السلطة. لذلك فإن تاريخ الأدب الحديث هو في كثير من جوانبه تاريخ الأصوات الشابة التي لم تقبل أن تكون مجرد صدى، بل أصرت على أن تكون نبرة جديدة. من أرتور رامبو الذي أعلن في باريس القرن التاسع عشر أن على الشاعر أن يكون “رائيًا” حتى لو دفع الثمن عزلة وجنونًا، إلى الكتاب الشباب في العالم العربي اليوم الذين يخلطون بين الشعر اليومي والبوح الرقمي في نصوص قصيرة تخرج من هواتفهم المحمولة لتتحول إلى نصوص مطبوعة.
الملامح الأسلوبية لهذا الصوت الشاب تكشف الكثير عن زمنه: التقطيع في الكتابة كأنه يعكس إيقاع شاشة متقطعة، الهجنة بين الأنواع وكأن النص لم يعد يعرف انتماءً صارمًا، الاعترافية المباشرة التي تهدم المسافة بين الكاتب والقارئ، واليوميات الرقمية التي تتحول إلى مادة أدبية. هذه السمات لا تأتي من فراغ، بل من بيئة اجتماعية وفكرية وثقافية تتغير بسرعة، من واقع يشعر فيه الشباب أنهم يعيشون في حاضر ممتد بلا ماضٍ متماسك ولا مستقبل واضح، وهو إحساس جوهري في تجربة جيل الألفية وما بعدها. لذلك فإن التحدث بصوت عالٍ بالنسبة لهم ليس مجرد موقف، بل ضرورة: ضرورة ليُسمع صوتهم في عالم يبتلع الأصوات.
لكن السؤال الأعمق هو: ما علاقة هذا الفعل بالبيئة الأوسع، بالمجتمع، بالتيارات الفكرية والفنية؟ كل جيل شبابي حين يرفع صوته إنما يفعل ذلك في تفاعل مع تيار أكبر. الطليعة لا تظهر من فراغ؛ إنها ابنة زمنها، وابنة المأزق الذي يعيشه مجتمعها. لنأخذ مثالاً معاصرًا: الكاتبة النيجيرية تشيماماندا نغوزي أديتشي، التي كتبت في بداياتها عن تفاصيل يومية في نيجيريا ما بعد الاستعمار. صوتها لم يكن مجرد صوت فردي، بل كان انعكاسًا لتحولات مجتمع يبحث عن هويته بين إرث استعماري ثقيل وعصر عالمي ضاغط. كتابتها هي فعل تحدٍ وخلق: تحدٍ لصورة نمطية عن القارة، وخلق لرواية جديدة تنسج بين المحلي والعالمي. مثال آخر من شمال العالم: كارل أوفه كناوسغارد النرويجي، وقد وصف بأنه «واحد من أعظم الأحاسيس الأدبية في القرن الحادي والعشرين». الذي كتب كفاحي كسلسلة اعترافيه هائلة، جعل من يومياته مادة ملحمية. ما الذي فعله؟ تحدى الحدود بين السيرة والرواية، وخلق أسلوبًا يتيح للذات العادية أن تكون موضوعًا ملحميًا. هذه التجارب، سواء في الجنوب أو الشمال، تقول إن التحدث بصوت عالٍ للشباب يعني دومًا انبثاق طليعة جديدة من قلب تيار اجتماعي وفكري حي.
وإذا عدنا إلى الشرق، نرى أن الأصوات الشابة العربية في العقود الأخيرة لم تكتفِ بأن تكون امتدادًا للجيل السابق، بل طرحت لغتها الخاصة. نصوص تنبني على السخرية، على كسر الشكل الكلاسيكي، على إدخال اليومي والرقمي في قلب النص. من روايات المدونات إلى نصوص “التويتريات” التي أصبحت مجموعات مطبوعة، نكتشف أن الصوت الشاب يكتب في مواجهة ليس فقط مع المؤسسات التقليدية، بل أيضًا مع سرعة زمنه، مع لحظة رقمية لا تمنح فرصة للتأمل الطويل. لكن هذا التوتر ذاته هو ما يصنع جماليات جديدة: تقطيع الجملة، قفزات زمنية، نصوص هجينة تعبر بين المقالة واليوميات والشعر.
وما الذي يحدث بعد أن يُرفع الصوت؟ أولاً، يخلق هذا الفعل فضاءً جديدًا للقراء. القراء الشباب أنفسهم يجدون في هذا الصوت صدى لتجاربهم، فيتضاعف الأثر. ثانيًا، يحرّك المشهد الأدبي كله: ما كان يبدو ثابتًا يتزلزل، ويضطر حتى الأجيال السابقة لإعادة النظر. ثالثًا، يتجاوز هذا الصوت حدود الأدب ليلامس السياسة والمجتمع. الشباب الذين يكتبون اليوم عن الهشاشة والاغتراب والهوية هم ذاتهم الذين يعبرون عن تحولات اجتماعية أعمق. لذلك يصبح التحدث بصوت عالٍ من طرف المؤلفين الشباب فعلاً يساهم في إعادة صياغة الوعي الجمعي.
وليس الأمر بلا ثمن. فالتجارب الشابة كثيرًا ما تواجه الإقصاء أو الاستهزاء أو حتى القمع المباشر. لكن هنا تكمن المفارقة: كل صوت شاب يقمع أو يهمّش يترك فراغًا يصرخ أكثر مما لو تُرك يتكلم. ومن هنا نفهم لماذا كان تاريخ الأدب الحديث كله مشبعًا بأسماء بدأت مهمشة قبل أن تصبح علامات مضيئة. الصوت الشاب هو دومًا مقدمة لعصر جديد.
في النهاية، التحدث بصوت عالٍ للشباب ليس مجرد فعل فردي، بل هو حركة جماعية، فعل تحدٍ وخلق معًا. إنه إعلان أن الأدب لا يمكن أن يُحصر في صمت القوالب، وأن الكتابة الشابة ليست مرحلة انتقالية، بل طاقة دافعة تحرّك النصوص والثقافة والمجتمع. من روسيا تسفيتاييفا إلى نيجيريا أديتشي، من باريس رامبو إلى نيويورك الشعراء المهاجرين، من أوسلو كناوسغارد إلى القاهرة، المشهد واحد: كل جيل يرفع صوته ليصنع لغته الخاصة، ليعيد ترتيب العالم على طريقته. وما يحدث عندما يقرر المؤلفون الشباب التحدث بصوت عالٍ هو ببساطة ولادة عصر جديد، عصر يُكتب من الهامش أولاً، ليصبح بعد حين مركزًا من مراكز الأدب العالمي.