ماذا يتبقى من البوكر؟!

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 32
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. يسري عبد الله

خلقت جائزة البوكر العالمية للرواية العربية سياقا من الجدل حولها، وحراكا حيويا حول مشهد سائل وموّار يعبر عن تحولات متواترة فى بنية الرواية العربية التى بدأت تُشكل خصوصيتها الجمالية اللافتة فى ظل غياب نظرية المركز والأطراف، والمتون والهوامش، عن المشهد الثقافى العالمى، وبما يعد نتاجا أصيلا من نتاجات ما بعد الحداثة فى سعيها المستمر صوب إعادة الاعتبار لقيم التنوع والتجاور وليس الصراع والتقابل المؤسس عبر عقود من تسييد المنهج البنيوى فى النظر إلى العالم من منطق أحادى، يرتكز على مبدأ الثنائيات المتعارضة.

لكن هل حقا تفعل البوكر ذلك؟ أم أن مآلاتها كانت أقل من طموحها. إن الحكم على أى تجربة يقتضى أولا الحكم على سياقها، ولا شك أن البوكر منحت الرواية مقروئية ووهجا لا يمكن تجاهلهما، لكنها فى اللحظة التى كانت تعزز من قيمة هذا النوع الأدبى المركب بطبيعته والمنفتح على اقتراحات جمالية متجددة كانت تتمترس حول مفاهيم كلاسيكية تتصل بفن الرواية وآفاق التلقى لها، حتى رأينا فى أعوام سابقة روايات تتسم بالخفة تغزو قوائمها الطويلة والقصيرة، لكن الأدهى حقا كان متمثلا فى سيطرة جيتوهات بعينها على مقدرات الجائزة من جهة، ومحاولة تعزيز سطوة مراكز ثقافية على حساب أخرى، من جهة ثانية. وقد عبر عدد من الروائيين المصريين عن دهشتهم من هذا المعنى المهيمن الآن على أجواء البوكر وسياقاتها، وحينما أتأمل تلك التصورات التى طرحها روائيون فاعلون الآن فى المشهد السردى المصرى والعربى عن إقصاء الإبداع المصرى، فإننى أعود بالأمر جميعه إلى القاعدة المركزية الحاكمة لأى جائزة وأعنى أن النص الأدبى يجب أن يكون هو السيد والحكم والفيصل.

وهذا ما غاب عن البوكر فى أحيان كثيرة، وبدت التقسيمات الجغرافية والاعتبارات السياسية مؤثرة فى سير الجائزة، أما التحول الأخطر فيتمثل فيما يمكن تسميته تنميط الذائقة لمصلحة كتابة كلاسيكية ومستقرة، بينما قطعت الرواية أشواطا هائلة فى مسار تحولاتها الفنية اللانهائية فى العشرين عاما الأخيرة.

إن أى جائزة تقوم فى مستواها الظاهرى على إثابة المجيدين، لكن فى مستواها العميق تشكل سياقا من التكريس للجمال والانتصار لجدارة الفن، والانحياز للإبداع بمعناه الطليعى أى مزاوجة الأصيل والفريد، حيث الإنشاء على غير مثال سابق، ومحاولة تقديم اقتراحات فنية جديدة ومغايرة، ابنة خيال سردى مختلف ولغة نافذة صوب سيكولوجية متلقيها، تدرك معنى التعدد، والأداء اللغوى المتغير تبعا لمسار السرد، ووعى الشخوص داخل الرواية.

منذ فترة أثار بعض الأصدقاء فى المغرب نقاشا عن غياب الرواية المغربية عن منصات التتويج فى البوكر، وهى حقا تعبير عن مشهد روائى حيوى وخلاق، واليوم يثير روائيون مصريون القضية ذاتها، عن غياب المبدعين المصريين، وفى الحالين، ومثل تصورات عديدة يجب النظر إليها بعمق أشد وموضوعية أكثر دقة، فإننا ونحن نرفض التصورات التراتبية حول أن فضاء جغرافيا بعينه يستأثر بالإنجاز الجمالى والمعرفى فى أى سياق إبداعى، ونؤكد أن التلاقح الفكرى والانفتاح على هويات محلية متعددة والجدل مع الثقافة الأم علامات فى سبيل التعبيد لثقافة عربية حقيقية تعرف التنوع الخلاق، ونحن وإذ نعى ذلك كله فإننا فى سياق رصدنا وتحليلنا المستمر لتحولات الرواية العربية فإن الرواية المصرية تحيا بالفعل لحظتها الإبداعية الخاصة، من حيث تنوع صيغ السرد وأساليبه وتيماته وجدله مع الواقع، اتصالا وانفصالا، لكن يبدو أن ثمة فوبيا مجانية لدى بعض المثقفين من الروح المصرية فى الكتابة، ومحاولة إزاحة المركز المصرى فى إنتاج المعرفة لصالح مراكز بديلة، ومحاولة خندقة الثقافة الوطنية بحيويتها المتجددة، إبداعا وفكرا، تلك الحيوية التى أعاينها كل صباح عبر عشرات النصوص التى تكتب وتطبع وتنشر يوميا.

يمكن للبوكر أن تستكشف موضع الرواية العربية وموقعها جيدا، فى عالم أزيلت فيه الحواجز الحديدية بين الفنون الأدبية المختلفة، وشكّل التراسل بين فنون الكتابة أحد أهم ملامحها الراهنة، وأصبح سؤال البيئات المحلية المقرون بصبغة إنسانية تبدأ من الهوياتى الضيق وتتجاوزه إلى الإنسانى الوسيع، عبر منطق المغامرة الجمالية وليس عبر استحضار التيمات الجاهزة، والسير فى نفس الدروب الداجنة.

إن القيمة المعنوية التى حملتها جائزة البوكر عبر تماسها مع الجائزة الأدبية الرفيعة (بوكر البريطانية)، وانبثاقها عنها ممثلة للرواية العربية، على غرار إنشاء جوائز أخرى لآداب تخص مناطق مختلفة من العالم، مثل البوكر الروسية وجائزة كاين للأدب الإفريقى، تمثل قيمة حقيقية فى مشهدنا الثقافى الراهن، لكنها ليست قيمة مطلقة، وإنما مشروطة بالمسئولية الواعية حول ضرورة النظر الموضوعى لكل السياقات والملابسات التى أحاطت بالبوكر فى السنوات الماضية، أما الأهم حقا فضرورة وعى الجائزة ذاتها برهانها على التجديد، والمغامرة الجمالية، والابتعاد عن النمطى والسائد والمألوف، حيث تصبح الرواية عنوانا على الجمال المبتكر، ويصبح نقدها علامة على النزاهة والمعرفة الناضجة بالعالم والواقع والأشياء.

 

مقالات من نفس القسم