ماذا كان فرناندو بيسوا يفعل قبل مائة عام؟

بيسوا
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نزار آغري

ولد فرناندو بيسوا في لشبونة عام 1888. ولأن زوج والدته الثاني كان قنصل ديربان، فقد عاش في جنوب أفريقيا بين عامي 1896 و1905 وتلقى تعليمًا كاملاً باللغة الإنجليزية هناك. نشر بيسوا، قصائده الأولى في مجلة أجويا، وهي منشورات حركة النهضة البرتغالية، في عام 1912. وفي نفس السنوات كتب نصوصًا نثرية ونقدًا ومقالات. في عام 1913، شارك في الحركة المستقبلية وبدأ مع سا كارنيرو الأدب البرتغالي الطليعي وأنشأ حركة “باوليسمو”. هؤلاء الشعراء والكتاب المتطرفون، الذين يمثلون انعكاسًا لهويات بيسوا الكتابية المختلفة، هم ألبرتو كاييرو، وألفارو دي كامبوس، وريكاردو ريس، وبرناردو سواريس، وفرناندو بيسوا نفسه، وهؤلاء، كلهم، هم فرناندو بيسوا نفسه. نُشرت قصائد بيسوا الخاصة والقصائد التي كتبها من خلال شعرائه المشابهين في مجلات مثل أورفيو، وبرتغال فوتوريستا، وكونتومبورانيا،و…أثينا.

ماذا كان يفعل بيسوا في مثل هذا الوقت بالذات، قبل مائة عام، أي في 1924، وكان في السادسة والثلاثين من العمر؟

كان يجلس، بالطبع، في مقهاه المفضل في ليشبونة: يراقب العالم من خلف الزجاج. كان يرى ويعاين ويفكر ويتأمل، ولكنه لم يكن ينام. لم يغمض عينيه ليغرق في الأحلام. كان يمضي ليدون ما فكر فيه وتأمله.

لم يشغله المقهى إلا لللحديث مع أقرانه، شخصياته المتخيلة. من بعد ذلك كان ينهض وينخرط في الكتابة والترجمة والنشر.

 في مثل هذا الوقت، أي بداية شهر أكتوبر، كان منخرطاً في تأسيس ونشر مجلة أثينا، الأدبية والفنية الرصينة. هذا في الواقع هو أهم حدث بيسوي في تلك الفترة، سواء من وجهة نظر سيرة ذاتية أو فكرية أو جمالية.

كان يسكن في شقة في شارع كويلو دا روشا رقم 16، وكان يعمل، في الوقت نفسه، على إنشاء وتطوير دار نشر أوليسيبو.

وهو تعاون مع الفنان الغرافيكي لويز فاز، كمدير فني.

صدرت المجلة بين عامي 1924 و1925، ونشرت خمسة أعداد منها. وكانت المجلة الثانية التي أدارها بيسوا (أو شارك في إدارتها)، بعد مجلة أورفيو في عام 1915. وكلتا المجلتين ساهمتا في تكريس الحداثة الفنية والأدبية في البرتغال، وكان بيسوا رائداً في هذا الميدان. وحملت المجلتان اسمين من الأساطير اليونانية، حيث أثينا “إلهة” الحكمة والاستراتيجية (ولهذا السبب، أيضًا الحرب)، وأورفيوس هو البطل الأسطوري الذي نشر الغناء والموسيقا. لا شك أن المعنى الأول هو الذي جذب بيسوا، الذي ظل طيلة حياته يعتبر الثقافة اليونانية الجوهر الحقيقي ومهد الثقافة العليا على المستوى العالمي.

نشر بيسوا، لأول مرة، بالاسم المستعار لاثنين من شخصياته الثلاث المستعارة، ريكاردو ريس وألبرتو كاييرو. حدث هذا بعد حوالي تسع سنوات من نشر أولى قصائد ألفارو دي كامبوس، في مجلة أورفيو. ولم يظهر برناردو سواريس، الذي كان شبه اسم مستعار، كمؤلف لكتاب اللاطمأنينة“ في مجلة ريفيستا إلا في عام 1929، أي بعد خمس سنوات أخرى. ولهذا السبب وحده، من بين أسباب أخرى، تستحق مجلة أثينا اهتماماً خاصاً. لقد لعبت دوراً حاسماً في التطوير العام لما أسماه بيسوا ”هيتيرونيم“، أي “الاختلاف الإسمي”. العديد من كتابات بيسوا الأخرى نشرها باسمه الحقيقي.

يقول الكاتب الإيطالي فابريسيو بوسكاليا، المتخصص في إرث فرناندو بيسوا، أن فكرة أثينا كانت موجودة في مشاريع بيسوا منذ أواخر العقد الأول من القرن العشرين، وكانت هذه المجلة، في خطتها الأولية، تمثل أداة لأحد جوانب فكر بيسوا وعمله الثقافي، أي ما سمي ب”الوثنية الجديدة“ وهي تعني، في نظر بيسوا، مشروعًا ثقافياً لإعادة تأسيس الوثنية اليونانية القديمة (أو بالأحرى، العقلية الوثنية) في العصر الحديث. وشغل هذا المشروع بيسوا لسنوات وتناوله باسم ثلاثة من الشخصيات المستعارة الرئيسية، والمؤلف الخيالي أنطونيو مورا.

بالإضافة إلى القيمة الأدبية العالية جداً، احتوت أثينا على عنصر مهم مرتبط بالفنون البصرية والهندسة المعمارية، تحت إشراف (أو) إدارة روي فاز المذكور آنفًا. ويجب ملاحظة تعاون كاتب وفنان عظيم آخر من أورفيو وهو ألمادا نيجريروس.

في أكتوبر 1924 ظهر ريكاردو ريس، لأول مرة، في العدد الأول من أثينا، حيث نشر مجموعة من عشرين “قصيدة”. كان بيسوا كتب هذه القصائد قبل ذلك بأكثر من عشر سنوات، أي حين كان في السادسة والعشرين من العمر.

“توجوني بالورود،

توجوني بالحق

بالورود،

الورود التي تذبل

على جبين يذبل

عن قرب،

توجوني بالورود

والأوراق الزائلة.

هذا كل شيء. “

في العدد الثاني من المجلة، نشر بيسوا نصاً بإسم  ألفارو دي كامبوس بعنوان “ما هي الميتافيزيقا”. هو نص نموذجي من الأكثر انتقاداً وسخرية وتعددية في الاختلاف بين الأسماء المستعارة لفرناندو بيسوا، وذلك لأن ألفارو دي كامبوس في هذا يناقش بيسوا نفسه:

«في رأي فرناندو بيسوا، المعبر عنه في مقال “أثينا”، فإن الفلسفة ــ أي الميتافيزيقيا ــ ليست علماً، بل فنًا. لا أعتقد ذلك. يبدو لي أن فرناندو بيسوا يخلط بين الفن وما ليس علماً. فما ليس علماً ليس بالضرورة فناً: إنه ببساطة ليس علماً وحسب. من الطبيعي أن يعتقد فرناندو بيسوا أنه بما أن الميتافيزيقيا لا تصل، ولا يبدو أنها تستطيع أن تصل، إلى نتيجة يمكن التحقق منها، فهي ليست علماً وهو ينسى أن ما يحدد النشاط هو غايته، “وأن غاية الميتافيزيقا هي نفس غاية العلم ـ معرفة الحقائق، وليس استبدال الحقائق كما هو الحال في الفن.”

ألفارو دي كامبوس يتحاور مباشرة مع بيسوا الذي كتب في العدد الأول من المجلة، في النص التمهيدي بعنوان أثينا: «إن ما نسميه ثقافة له شكلان أو طريقتان. الثقافة ليست سوى التحسين الذاتي للحياة. وهذا التحسين إما أن يكون مباشراً أو غير مباشر. فالأول يسمى فناً، والثاني علماً. من خلال الفن نكمل أنفسنا. ومن خلال العلم نكمل في أنفسنا مفهومنا للعالم أو وهمنا عنه. […]

إن الفنون التي توفر بطبيعتها مثل هذا التدريب هي الفنون التجريدية العليا، الموسيقى والأدب فضلاً عن الفلسفة التي يتم وضعها بشكل مسيء بين العلوم وكأنها ليست أكثر من تمرين للعقل في تخيل عوالم مستحيلة.»

هكذا  كانت ”أثينا“: مجلة طافحة بالعمق والحيوية والسجال، وكانت تحمل لمسات شاعرية وفكرية وفنية من فرناندوا بيسوا وهو يخوض في مشروعه الحداثي، وحلمه التأمي، في صياغة وجد جديد، أكثر جمالاً للعالم. وهو وضع ذلك على كاهل ”أثينا“ إلهة الحكمة.

مقالات من نفس القسم