محمد محمد مستجاب
أحراش من الأحزان تسحبنا فيها الشاعرة “هبة عصام”، أثناء تجولنا داخل ديوانها الرهيف والبديع من القصائد النثرية “ما يبقي من الوزن الزائد”.
وبين تلك الأحراش، لم أعثر على شجرة أجلس أسفلها كي استريح من كل تلك الأحزان، التي حاصرت الجسد داخل غرفة هي أشبه بصندوق أسود، وتلك الأحزان أيضاً التي ضغطت على القلب، ليبدأ في الانفجار رويدًا رويدًا، وكأن الشاعرة مصمصة على أن تؤرخ لتاريخنا وتاريخها الشخصي بتلك الأحزان، لكنها في نفس الوقت، تنأى بنفسها عن هذا الحزن، وتجاهد كي تبدده، حيث يبدو في فواصل بعض الأبيات بعض السخرية منه، بل والتهكم عليه، حتى لو حاصرتها كل أحزان العالم، فهي شاعرة، وتستطيع بقصائدها أن تتجاوزه. حتى لو حاصرها الضيق وأقدمت على الانتحار وصاحبتها – دائمًا – الرغبة في الموت.
بهذا الحزن الغامض نسير خلف القصائد في الجزء الأول من الديوان، والذي يحمل هذا العنوان الرئيسي “كنوم يفتح عينيه” والتي جاءت به القصائد تحت هذه العناويين “ميكانيزم، سحابة حول قلب، نوستالجيا، سحر قديم، مزاج النخلة، رسائل، جنازة هندية، أقراص منومة، أضغاث أحلام، رهان بين سماءين، إبريل، أنساك، قوية كالموت؟، قل اكتفيت”، إلى أن نأتي لهذا المقطع بقصيدة “علامات طريق” حيث تقول: “سيقولون في المطار: ما يبقي من الوزن الزائد، لن يكون كافيًا لاصطحاب قلبك، دون نقصان”.
هنا فقط تبدأ الموازين في الاعتدال، وتبدأ أول شجرة في الظهور ونستطيع الجلوس أسفلها للراحة بعض الشيء، وتبدأ الرؤية لداخل – ذكريات وذات الشاعرة- وبالأخص – قلبها- الذي يريد الهجرة، السفر، الرحيل، ذلك القلب الذي يخبئ الأسرار أسفل الوسائد، وبجوار تلك الأسرار تدفن ذكريات، ووجوه، ولحظات، وتواريخ، وتدفن أيضًا أمنيات، وأحلام، فتقول كي نفهم أكثر ما تمر به في قصيدتها “أضغاث أحلام”: “الراقدون هناك هادئون، كوسائد بيضاء، لماذا انتفضت فجأة، تصنع حفرتين في يدي؟، هل مهدت طرقًا للـ “كانيولا” ، دون ألم البحث عن أورده، لا يهرب منها الدم؟”.
تتمزق روح الشاعرة وأضلاعها خلال قصائد الديوان بين الحنين للوطن والعائلة والأب الذي رحل، وبين السفر أو الهجرة، ولكن كل ذلك لا يأتي من العقل الذي يقود الجسد، بل من القلب الذي يقود الروح، ويبدو أن روحها الشفيفة هي ما تقلقها، وهي ما تتسبب لها من أوجاع، وهي التي تجعلها تقيم الجنائز لنفسها، وتجعلها تغلف نفسها في لفائف الكفن العصري الذي نعيش فيها، وتستمر في إضاءة الشموع لعودة روحها التائهة، وهي التي أيضاً تجعلها تنزف الدماء مثلما تنزف هذا الشعر الرائق والجديد على القصيدة النثرية لدينا، رغم عمقها في جذور الإبداع الشعري العالمي والمصري، لكنها هنا تأتي من التجربة الذاتية للشاعرة، فتقول في أولى قصائد الديوان “ميكانيزم”: “اليومَ أيضًا، أرصُّ الكلماتِ الحادّةَ خلفَ الأبوابِ، وأُثبِّتُ الميكروفون، في فروةِ الجروِ الصغير. اليومَ يزيدُ وزني، كيلو جرامًا آخرَ مِن سوءِ الظن، وأَرشُّ القسوةَ فوقَ رؤوسِ المارةِ. اليومَ أيضًا أبدو كوحشٍ بَريٍّ، وغدًا.. سأُلوِّنُ زجاجَ المنزلِ، كي لا يلمحَ العابرونَ، هشاشةَ الجدران”.
هذه هي هشاشة القلب الذي تريد أن تدفنه ولا تعرف، وتريد أن تخلصه من الأحزان فتفشل، وتريد أن تداريه عن الجميع خوفًا من الغارات الهمجية المتوحشة التي تداهمها، فالكثير من المداهمين يرتدون زي حمل، ثم نراه قد تحول إلى مصاص دماء أو ذئب بشري حقيقي، حتى العصا التي أحيانا نتعكز عليها في طريق أيامنا، أو نهش بها على أحزاننا، استطاعت أن تتحول إلى أفعي ينهش قلوبنا ويتلذذ بأكل لحمنا ونهش سيرتنا والسخرية من أفكارنا وأوجاعنا واحلامنا البريئة، لذا ف‘ن قصائد الديوان تدور في هذا الفلك، ولكن بين هذا الحنين الذي تبحث به عن مع بعض الأشخاص أو الذكريات، يوجد ابتسامات وتوجد نقاط من النور.
ففي الجزء الأول يوجد سبب رئيس يظهر في قصيدتها تحت عنوان “عصام” فتقول: “كان يتحسس التذكرة، التى وضعوها فى جيبه، حين احتضننى بعطش أخير، أبِي!، أنفاسى المحملة بصورتك، صورتك المحملة بعقود من التفاصيل، التفاصيل المحملة بالأغاني، وإذاعة البرنامج العام، بصوتك القادم من آخر غرفة في البيت، ضحكاتك العالية، ضوضاؤك الجميلة توقظه، ذلك النصل المتربص داخل رئتي، حين أتنفسك”.
إن هذا هو سبب الحنين وسبب الألم، لها، ففقدان الأب في لحظة ما، سبب لها عدم اتزان، وقلق، وأربك حياتها، مما سمح لبعض الوحوش بالتسلل لها سواء من بين شقوق الجدران أو الخروج من أسفل الوسائد، لكنها سرعان ما تأتي بالبرد، وكان هذا الرد هو شرفة الحياة الجديدة، والتي جاءت خلف القصيدة السابقة، فتأتي قصيدة بعنوان “أكسجين” فتقول: “الشبابيك الخشبية لن تنس الغابة، فاجتذبت الدهانات الخضراء، والفراغات بين أغصانها، هكذا أتنفس، فيما تظل مغلقة”.
الفقد والحزن والتخفي الذي تمارسه الشاعرة في الجزء الأول من ديوانها، يبدأ في الوضوح في الجزء الثاني والذي يحمل عنواناً رئيساَ “بورتريهات”، حيث تبدأ من خلال تلك الأشياء التي تحبها مثل : فيروز، “أبين زين”، ثم قصيدتها الأخيرة “لوتس” والتى نعلم أنه اسم ابنتها التي تقول فيها “بكفها الصغير، تمسح ما مر من سنوات عجاف، تقفز داخل قلبي، فتنفض عنه وجوها وأمكنة وأسماء”.
إذًا، وخلال أربعين قصيدة تترواح في القصر والطول، تنزف الشاعرة وتعيش المتاهات بين أروقة المستشفيات والوسائد والكفان والوجوه الشريرة وفنجاجين القهوة، حتى يصير قلبها “صندوق الدنيا” الذي يمتليئ بالأشباح والظلال والضباب والمجانين، ودون أن يمدها بأية حكاية حقيقة، لان الحكاية هنا هي حكايتها، حتى لو عثرت على من يدلها ذات يوم أو يقرأ لها “فنجان القهوة” حتي يشعرها ببعض الأمان أو الطمأنينة للأيام القادمة.
ولو افترضنا أن الاربعين قصيدة، جاءت بعمر الشاعرة، وكأنها تؤرخ لحياتها بهذا الحزن، وبهذه المكاشفات التي تبدو فيها هشة وقوية ورقيقة وكاشفة، إلى أن تمتلك زمام حياتها لتصير قوية، وتصبح القصيدة لديها بكل تلك القوة والمغامرة الإبداعية، وهذا الشغف في الكشف، والبوح، في قصائد هي أقرب في لغتها لآيات حياتية يخرجها القارئ الأعظم أو الرب الأعظم لديها وهو القلب. فتقول في قصديتها “قوية كالموت” : “من يدفع الفاتورة عند الله، أن تستيقظ وردة على مشنقة، أن يجر النعوش لطفاء طيبون، أن تختنق زجاجة عطر ملفوفة في هدية؟، المحبة ضعيفة كالحياة”.
لقد غمرني الحزن في البداية، وكدت أغرق فيه، لكن الشاعرة جذبتني وأنقذتني بطوفان من الأبيات الرقيقة الحالمة. مؤكدة أنها تستطيع، أن تجذب القارئ إلى ما تريده، وأن تجلعه يؤرخ لأيامه بالحزن مثلما فعلت، وتجلعه يرى هشاشته وقوته في تلك الحياة.
الشاعرة هبة عصام، تقدم لنا تجربة شعرية هامة وثرية في ديوانها “ما يبقي من الوزن الزائد”، شاعرة تشبه جيلنا، محملة بتراث نثري عظيم، وتقدم هنا قصيدة جديدة، ومغامرة، فهي تخشي الغيب مثلنا، وتبحث عن الأب والحنين لتفاصيله وذكرياته في وجوه المارة أو حتي أصوات خربشات المذياع، وتتمني أن يربت على قلبها حتى لو كان هذا يأتي من مداعبة قطة لأصابع أقدمها، وتضع كل ثقتها في الطفلة الحلم التي تتقافز بجوارها. فهي تكتب الشعر بقلم يرتدي خلخالا مصريا نثريا قديما، كي يصبح لكل كلمة رنين، ولكل جملة إيقاع، ولكل بيت ثقل حقيقي، ولكل قصيدة لحنها الخاص، والموقعة بتوقيع من قلب “هبة عصام” الممتلئ بالشعر الشفيف.