أحمد عبد الحي
بحنين جارف تداول بعض الأصدقاء مقطعا مصورا لحفل عيد ميلاد أقامه مجموعة من مطربي التسعينات لصديقهم علاء عبد الخالق، ذلك المطرب الذي طالما أحببت الكثير من أغنياته كما أحببت لغيره من مطربي التسعينات.
لم أكن شابا في منتصف التسعينات بل بدأت مراهقتي في أواخرها، لكن على الرغم من ذلك فأنا أحمل أغنيات هذا الجيل في ذاكرتي جيدا، بل إنه من النادر أن تقع أمامي أغنية لأحدهم لا أكون على علم بها.. فقد عشت طفولتي بين عمي وخالي اللذين كانا شابين في هذا التوقيت فرأيتهما ورأيت أصدقاءهما يغنون ويبتهجون مع هذه الأغاني التي كان حميد الشاعري مطلق ثورتها وزعيمها الأول.. هذا المشروع الذي وضع للأغنية رتما بسيطا يسهل على الأذن الاعتياد عليه ويسهل على اللسان ترديده بخفة، وأطلق أصحاب هذه الأغنية الجديدة عليها اسم الأغنية الشبابية.. فسطع نجمهم وتنامت شعبيتهم بسرعة لم يحظ بها غيرهم من السابقين أو اللاحقين وكأنهم ولدوا نجوما.. وكأن الأغنية المصرية قد وجدت في حميد ذلك المهدي الذي طال انتظاره.. ظاهرة تدفعك أن تتأملها جيداً وتبحث عن سر هذه الشعبية الكبيرة.. ربما كان شباب الثمانينات والتسعينات يبحثون عن بديل للموسيقى العربية الكلاسيكية.. شيء يستوعب طاقتهم في مرحلة ما بعد الانفتاح خاصة مع بزوغ موسيقى البوب والروك آند رول في العالم.. موسيقى تحمل معها الكثير من المرح حيث لا وقت لدراما الموسيقى العربية والحب الكلاسيكي.. فوجدوا ضالتهم في ما يقدمه حميد وكان مصطلح الأغنية الشبابية.. هذا المصطلح الذي اختص به صناع هذه الأغنية أنفسهم.. مصطلح إقصائي بطبيعته وكأن كل من لم يستمع لأغانيهم لن يكون “شابا”.. في صيغة تشبه تلك الصيغة التى ابتدعها “الإخوان المسلمون” وكأن غيرهم ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين.. لم يكن لذلك المصطلح تأثيرا فقط على صعودهم للقمة بمنطق السوق ومبيعات الكاسيت.. لكن كان له تأثيرا كبيرا
في أفول نجم تجارب كانت قد سبقتهم بسنوات قليلة ولم تستسغ لنفسها هذا الرتم فلم يلبثوا حتى وجدوا أنفسهم خارج هذه المعادلة الشبابية..
فأصبح كل مطرب يريد لنفسه مكانا يبحث عن حميد ويقصد “مقامه”.. وجبات مسبقة التحضير وجاهزة للتقديم تشبه بعضها بعضا لا طعم فيها ورائحة ولا مجهود.. وكيف يكون لها كل ذلك وهي تصل أحيانا لأكثر من عشر ألبومات في الشهر الواحد كلها على نفس الإيقاع الذي لا يتغير.
توارى كل من علي الحجار ومحمد الحلو خلف تترات المسلسلات يحتمون بها من هذا المارد الذي يلتهم كل شيء أمامه.. استسلم آخرون غيرهما وانتصر رتم حميد الجديد ولم يبق إلا محمد منير وحده يسبح في تيار موازٍ.. ولن أقول هنا ضد التيار لأن مشروع منير بالأساس لم يقم على ركائز الأغنية العربية الكلاسيكية..
لم تتوار الأصوات فقط خلف هذا ال “تشك.. تشك.. تشك..” الذي صنعه حميد بل توارت أيضا مشاريع موسيقية أخرى كانت تعد نفسها بمساحة ولو بسيطة في سوق الغناء.. فلجأ ياسر عبد الرحمن أيضاً للتترات والموسيقى التصويرية بعدما لم يجد رواجا لمشروعه الغنائي مع حنان ماضي.. وكذلك عمار الشريعي الذي وجد هذا الرتم الجديد يسحب من تحت يديه أعضاء فرقة الأصدقاء التي أسسها وهم علاء عبد الخالق ومنى عبد الغني وحنان.. فتفرغ للتترات والموسيقى التصويرية أيضا.. صحيح أن كلا من ياسر وعمار قد حققا نجاحا كبيرا فيما لجئا إليه.. إلا أن ذاكرة الكاسيت في هذه الفترة قد كتبت باسم حميد وليس غيره.. ولكن هل يستحق حميد هذا المجد؟
بالطبع قالت الصناديق نعم.. أو قالت مبيعات الكاسيت ذلك.. لكن يبقى السؤال هنا “هل كل ما تسفر عنه الأرقام أصيل؟” أو بصيغة أخرى أقل حدة.. ماذا قدم حميد للموسيقى / الأغنية العربية؟ أعتقد أن الإجابة هنا إن لم تكن “لم يقدم شيئا” فهي على الأقل “لم يضف شيئا”.. بل إنني أتخيل أحياناً أن عبد السلام عازف الأورج الحالي وصاحب المزمار الشهير.. ربما كان في مقدوره أن يصبح “كابو” في زمن آخر دون عناء كبير..
تجد هذا الضعف في مقاومة العديد من الأصوات الحقيقية للخضوع لهذا الرتم الحميدي وتجده أيضاً في عدم تعاون منير مع حميد إلا في أغنية وحيدة لحميد على سبيل المجاملة على الرغم من انفتاح منير على مشاريع موسيقية مختلفة.. وحينما سئل منير في هذه الفترة عن إيهاب توفيق فكان رده “موهبة كبيرة لكن مش عارف ليه مصر يفضل وسط الصفيح”
بالطبح لا صفيح هنا إلا هذا الرتم الجديد.. وهذه إحدى خطايا هذا المشروع أيضاً.. التي لم تكتف بعزل أصحاب المواهب الحقيقية عن الساحة الغنائية.. لكن هذا إيهاب توفيق الذي أثنى عبد الوهاب على صوته دون غيره من مطربي جيله.. لم يترك خلفه إلا منجزا من ال ” تشك.. تشك..” ثم أصابته لعنة الكابو كما أصابت غيره حين عزف الناس عن هذا الرتم بعدما ملوا منه فأصبحوا جميعا “موضة وانتهت”..
هكذا تعامل جمهور مطربي التسعينات معهم.. حين فشلوا في تطوير أنفسهم لملاحقة أجيال أخرى لا من حيث الشكل كما فعل عمرو دياب ولا من حيث المضمون كما فعل منير.. فكان مشروع حميد الموسيقي مشروعا لحظيا لا يستطيع أن يطور من نفسه، فقط بدأ راقصا وانتهى حينما وجد الناس شيئا آخر يتراقصون عليه.. فلم يحمله وجدان الجمهور لأكثر من هذه المرحلة.
ربما مازال جيلي والجيل الذي يسبقه يحفتظ بالكثير من “النوستالجيا” لأغاني هذه الفترة لما يحملونه من ذكريات لكنني أجد الحنين الحقيقي لهم في تترات علي الحجار ومحمد الحلو وموسيقى عمار وياسر عبد الرحمن التي تستحوذ على الآذان أينما حلت.. دون ادعاء “كابوية”..