قيس مجيد المولى
كنت أداعب التمثال الصغير، مرة أعبث بذقنه ومرة بقبعته وكانت على مقربة مني السيدة فوندري جارتي القديمة في بودابست، حينَ تصورتُ ما سأكون عليه بعدَ أن أتقدم نحوها بباقةٍ من الورود وهي ماضية في قراءة منتصف رلكه، وما قاله في رسالة للسيدة فايننغر في العام 1916 ،
وقد هزت نظارتها وأسمعتني أن الأميرة تاكسس سافرت صباح هذا اليوم ، وكنت قد علمت أنها كانت تعاني من التهابٍ في القصبة الهوائية، شعرت أن الجو سيكون مكفهراً وماطراً.
فاخترتُ مائدةً أخرى عليها تمثالٌ آخر وقدحان ، وعندما هَمت بالجلوس وعلى غير عادتها ابتسمت لي فوندري وكان لابد أن أدعوها بابتسامتي.
في ذلك التوقيت من الَسنة التي سبقتها سافرتُ إلى ترستا عبر بلغراد، وكنتُ أتيتها من صوفيا في قطار الشرق السريع، وقرأت هناك رسائل من موسليني، وعرفت ما معنى الحد الأدنى من الحرية.
وهو الحق الأولي الذي توفره الحضارات لأبنائها،
طلبت شرابين ساخنين.. وقبل أن أدير الملعقة في قدح الشاي قالت فوندري:
كما فعل في وصيّته،
أوصيك،
لا يجوز إحضار قسيس عند وفاتي،
ولا داعٍ لشاهدة قبر ولا داعٍ لوليمة،
بَعدَ لحظاتٍ انشطرت الأشجار بفعل الريح، وانشطرت ثم علّت الأمواجُ ودلقت حد المقهى في حين ظلت فوندري تتابع انشطاراتِ لسانَها عبر ما تهب الطبيعةُ من أشرار وما تكيده من دسائس إلى أسنانها التي توا أصابها البردُ ومعرفتها لأول مرة بصديقها أدمون غالو…
وأنا أنتظر علَّ لسانها ينشطرُ صوبَ تاكسس فاعلم عنها المزيد، أريد أن أعلمَ عن تاكسس المزيد ، دارت في قدحها الشّاي دورة واحدة ونفذ من خلال ثلاث جرعات ، تيقنت أني لن أصل لمبتغاي كونها وقطعا ستهم بالمغادرة أذ قالت إنها لن تأتي لهذه المقهى وستذهب لمقهى الأزهار الخادعة؛ لأنها لا تحب أن يتجاوز البحر شاطئه ويخدع ساقيها اللتين حرَمَتهُما على آخرين منذ رحيل غالو.
وهكذا كانت ترتعد من كل شيء وتزمجر وتحادث السماء وتلعن خيبتها بفقدانها لأدمون غالو الذي جعل غيابَه عنها كل شيء تافها وحقيرا وظللت أستمع ،
أستمع إلى أن جرى الماءُ بهدوء.
ورويداً تحكمتها مظاهر الخجل وجالت عيناها برقة بين شرائح اللحم وطلبت نبيذاً أحمراً وولدّت لدي شعورا من أن نفَسها تنقبض من نفسِها، لكن تقاوم ذلك بإضافة شيء من الإغراء، شيءٌ يجعلها تنظر لمرآة الماضي بجدارة:
شأنه ذلك
شأنُه،
سافر لقرطبة وطليطلة ولمدريد،
ولم يكن لدي شعور بالمتابعة لأنها مضت بعد ذلك لفنادق أوروبا ومحطات قطاراتها لأن ذلك حتما سيجعلها تقص عليَّ شيئا من رواية رومان رولان أو ما الذي فعله ريلكه بضواحي منشن وستصافحني على سبيل التوديع،
عليَّ إذن كي أعرف أخبار تاكسس، أن أنظر لكل شيء تقوله بنظرة صافية، وإلا سأبقى أداعب ذقن التمثال وقبعته ولن أجد في المرات القادمة قربي حتى فوندري ولا أحد يتأملني وأنا أثرثر عن تاكسس لقدحين فارغين وليل داكن في السواد والحموضة.
……………..
* بودابست- بتهياني تير