محمد فرحات
لم يكن كتاب المتنبي الذي انفردت بنشره المقتطف عام 1936 مجرد ترجمة لشاعر العرب الأعظم المتنبى؛ بل كان بداية لمنهج نقدي انفرد به مولاي أبو فهر محمود شاكر، رضي الله عنه، لم يسبقه إليه أحد؛ هو المنهج النفسي القائم على تذوق النص، ومن خلاله اكتشف أربع قضايا عن المتنبي، وكان أول من قال بها وهى
1ـنسبته العلوية الشريفة التى أجبر على كتمانها وعدم الجهر بها، بخلاف ما اشتهر من كونه ابن سقاء بالكوفة، كما روج الدكتور طه حسين بكتابه “مع المتنبي” ولهذا الكتاب قصة تناولها سيدنا بالتفصيل في آخر مقدمة كتابه المتنبي طبعة 1977، وكان مختصرها تفنيد ما روجه الدكتور طه حسين على خلاف ماكتبه شاكر، وأخذ منه، بدون تنويه، وكذا الدكتور عبد الوهاب عزام، وفند مقولات المستشرق لاشير. ادعى طه حسين كون المتنبى لقيطا لا يعرف نسبه…ثم أخذ من لاشير كونه قرمطيا متعصبا، وكثير من هذا التخليط، ولكن سيدي محمود شاكر لم يسكت فنشر اثنتي عشرة مقالة فى البلاغ عام 1937 بعنوان (بيني وبين طه)، وفضح استيلاء طه حسين على كتابه…ثم توقف إكمال نشر المقالات حين وفاة أستاذه مصطفى صادق الرافعى…وفرض على نفسه عزلة قاسية حتى عام 1964، وعاود الكتابة بمقالاته الشهيرة في مجلة الرسالة والتى جمعت فى كتاب “أباطيل وأسمار”…والتى سلق فيها الدكتور لويس عوض، وغيره من المستغربين، في هجاء أدبي، ونقدي بديع.
2ـ نفيه وتفنيده لما اشتهر بأنه ادعى النبوة، وكون ذلك لا يخرج عن فرية نحلها منافسوه.
3ـ حبه لخولة أخت سيف الدولة الحمدانى، ووعد الأخير بأن يزوجها له، وعلى إثر خلفه وعده، هجره المتنبي، يلعق جراحات فؤاده المصاب.
4ـ مذهبه السياسي الهادف إلى استعادة العرب لدولتهم التي انتهبها العجم من ترك، وديلم، وفرس.
****
مقتل أبى الطيب فى 27 رمضان سنة 354.
“أشرنا قبل أن الرجلين (أبا الطيب وعضد الدولة)، كانا يتخدعان، وأنهما كانا في الباطن عدوين لا يأمن أحدهما جانب صاحبه ولا غدرته ولا سوء المنقلب. ويبين لك عن هذا أن أبا الطيب مع إكرام عضد الدولة له، كما رأيت، لم يستطع القرار بأرض فارس أكثر من ثلاثة أشهر، ولولا ما أشرنا إليه لاستطاب أبو الطيب المكان الذى وجد فيه غاية الإكرام، والمال المبذول، والعطايا السابقة الكريمة، وهو مع ذلك دليل على أن أبا الطيب ليس من الطمع والحرص على المال بالمنزلة التي يذكرونها بها، وتابعهم عليها الكثير من الذين نصبوا أنفسهم للكتابة عن الرجل والترجمة له من المحدثين..
وقضية هذه العداوة بين أبى الطيب وبني بويه الديلميين قضية معقدة طويلة، ولها فى التاريخ الإسلامي والعربى أسباب ممتدة ونحن نختصرها هنا ونجعلها على وجهين قريبين:
أولاهما: – ما عرف عن أبى الطيب من بغضاء الأعاجم على ما فصلناه فى مواضع.
والآخر:- هو المسألة السياسة المتصلة بالخلافة العباسية، والدعوة العلوية، والدعوة الفاطمية والدعوة القرمطية…وهذه هى أكبر مشاكل التاريخ الإسلامى، وخاصة فى هذا العصر الذي كان المتنبي أحد رجاله الأفذاذ.
كان العلويون يريدون إخراج سلطان الخلافة من يد العباسيين إلى أيديهم، وقد تمكنوا بالدعوة التى قام بها دعاة العلويين أن يحزموا أمرهم، ويجمعوا إليهم رؤوس الدولة فيكونوا من شيعتهم وكان من شيعة العلويين، ممن نذكرهم هنا، بنو بويه الديلميون، وبنو حمدان العرب التغلبيون، ثم غلبت على بنى بويه الدعوة الفاطمية فصاروا من العاملين عليها فى المشرق، واستعصى على هذه الدعوة بنو حمدان. وكانت سياسة بنى بويه علوية أعجمية، وكانت سياسة بنى حمدان علوية عربية. فاشتعلت البغضاء بينهما، ثم زاد العداوة وضراها وضرمها ما كان من استجابة بنى بويه للدعوة الفاطمية، واستعصاء بنى حمدان عليها ومناوأتهم إياها في الشام والموصل. وكان بنو بويه يعلمون أن بنى حمدان قد أدركوا خفايا السياسة الديلمية الأعجمية المظاهرة للدعوة الفاطمية، وأنهم يعملون على نقضها.
وكان دليل ذلك عندهم مناصرة بنى حمدان الدولة العباسية (السنية العربية والمسيطر عليها الأعاجم (الديلم والترك والفرس))، مع أنهم من رؤوس شيعة العلويين مذهبا وعملا، وقد علم بنو بويه بأن هذه المناصرة إنما يراد بها إزاحة بنى بويه عن مواضعهم من العراق، وإبعادهم عن مقر الخلافة.
فلما كان ما كان من أمر سيف الدولة وظهور سلطانه بالشام، ووقوفهم على نيته فى اتخاذ العدة واستجلاب العدد، وتهيئة أمره لفتح العراق، على ما ذكرناه، استحرت العداوة بين هؤلاء وهؤلاء، وخاصة سيف الدولة، وهو رأس بنى حمدان وأصلبهم عودا، وأشدهم مراسا، واقدرهم رأيا، وأخرمهم دهاء، وأبعدهم نظرا، وأمضاهم عزيمة وهما، وكان من آثار ذلك ما أشرنا إليه قبل فى سبب حروب الروم وسيف الدولة.
وكان أبو الطيب من المقربين لدى سيف الدولة، ولم يكن بنو بويه ليضلوا عن مذهب المتنبى فى السياسة، وأن هذا المذهب هو مذهب سيف الدولة، فلذلك حذره عضد الدولة-على ما رأيت-،وبقي له (عدوا مداجيا) وقد كان أبو الطيب،فيما ذهبنا إليه، علويا منكوبا فى نسبه، فليس بمستنكر أن يراد به، من قبل العلويين، ما أريد به من قبل وهو بطبرية سنة 336، حين أرصد له العلويون عبيدهم السودان ليقتلوه فيكون من ذلك أن يسعى هؤلاء العلويون لدى عضد الدولة فى إيذاء الرجل والنيل منه وأيضا ما كان من الدعاة الفاطميين يريدونه به لما يعلمون من أمره أولا، وإنكاره نسبهم، وقوله إنهم من نسل اليهود إذ قال :-
فَلا تَسْمَعَنّ مِنَ الكَاشِحِينَ
وَلا تَعْبَأنّ بِعِجْلِ اليَهُودِ
يريد (بعجل اليهود) أحد الدعاة الفاطميين.
ولعل الذي جعل الفاطميين يكيدون له، سعاية الأسود الخصى كافور، فإنه كان بذل أموالا فى طلب المتنبى حين مخرجة من مصر قبل هجائه له، فلا عجب أن يبذل أكثر من ذلك بعد أن يبلغه الهجاء المفظع المفزع، وما فيه من السخرية والتمثيل به كقوله:-
لَقَد كُنتُ أَحسِبُ قَبلَ الخَصِيِّ
أَنَّ الرُؤوسَ مَقَرُّ النُهى
فَلَمّا نَظَرتُ إِلى عَقلِهِ
رَأَيتُ النُهى كُلَّها في الخُصى
وَماذا بمِصْرَ مِنَ المُضْحِكاتِ
وَلَكِنّهُ ضَحِكٌ كالبُكَا
بهَا نَبَطيٌّ مِنَ أهْلِ السّوَادِ
يُدَرِّسُ أنْسَابَ أهْلِ الفَلا*1
وَأسْوَدُ مِشْفَرُهُ نِصْفُهُ
يُقَالُ لَهُ أنْتَ بَدْرُ الدّجَى
وَشِعْرٍ مَدَحتُ بهِ الكَرْكَدَنّ
بَينَ القَرِيضِ وَبَينَ الرُّقَى
فَمَا كانَ ذَلِكَ مَدْحاً لَهُ
وَلَكِنّهُ كانَ هَجْوَ الوَرَى
وأبلغ من ذلك تحريضه أهل مصر على قتله والفتك به،كقوله:-
ألا فَتًى يُورِدُ الهِنْدِيَّ هَامَتَهُ
كَيما تزولَ شكوكُ النّاسِ وَالتُّهمُ
فإنّهُ حُجّةٌ يُؤذي القُلُوبَ بهَا
مَنْ دينُهُ الدّهرُ وَالتّعطيلُ وَالقِدمُ
ما أقدَرَ الله أنْ يُخْزِي خَليقَتَهُ
وَلا يُصَدِّقَ قَوْماً في الذي زَعَمُوا
وقد كان كافور، كما قدمنا، على صلة بالفاطميين والعباسيين معا، يخادعهم ويداجيهم معا، فليس بعيدا أن هذا الذى حمل الفاطميين الذين بالعراق على الإرصاد لأبى الطيب، وأن يكون بذل مالا كثيرا للانتقام منه. والظاهر أن عضد الدولة كان على علم بذلك الذي يكاد به أبو الطيب، ففضل أن يرفع يده عن دمه.
وأغرى أتباعه بأن يوقع فى نفس أبى الطيب شيئا من الخوف والرعب. فيخف أبو الطيب للرحلة عن شيراز. ويبتعد عن دياره ليلقى حتفه فى مكان آخر ولذلك استأذنه المتنبي فى المسير عن شيراز ليقضي حوائج فى نفسه ثم يعود إليه وكان هذا من أبى الطيب ضربا من ضروب دهائه ومخادعته،فلم عزم الرحلة، كان من دهاء عضد الدولة أن زاده كرامة ليوقع فى نفسه أنه مصدقا ” فأمر أن تخلع عليه الخلع الخاصة، وتعاد صلته بالمال الكثير ” ويقينا أن أبا الطيب حين وجد ذلك،من إكرام عضد الدولة له، وكان قد بلغه طرفا من أخبار الكيد له، عرف ما يريده عضد الدولة وما يراد به، ولذلك أشار فى قصيدة مدحه بها وهو مفارق له فى أول شعبان سنة 354 إشارات كثيره منها:-
وَمَنْ يَظَّنُّ(نَثْرَ الحَبّ جُودا)
وَيَنصِبُ تحتَ ما نَثَرَ الشِّباكَا
وهذا المثل، هو مثل لما تراه قبل من أمر عضد الدولة ثم أنظر إلى يأس أبى الطيب وقد علم أنه قد أحيط به، وأنه مقتول لامحالة:-
وَأنّى شِئْتِ يا طُرُقي فَكُوني
أذَاةً أوْ نَجَاةً أوْ هَلاكَا
فلما فصل أبو الطيب من شيراز ووصل إلى دير العاقول وهى ضيعة بالعراق اجتمعت عليه بنو أسد وبنو ضبة، فقتلوه وقتلوا غلمانه وولده محسدا، وقد قدمنا لك أن سيف الدولة قد أوقع بعمرو بن حابس من بنى أسد، وببني ضبة، وببنى رياح من بنى تميم، وذلك فى سنة 321، وقد هجاهم أبو الطيب فى مدحه سيف الدولة فى تلك السنة. وكان ذلك المدح والهجاء سببا فى أن أحفظ عليه هؤلاء القوم بجانب كونهم من شيعة العلويين والظاهر أنهم قد انحازوا إلى الأعاجم مخدوعين، وصاروا بعد من شيعة بنى بويه الفاطميين، وليس يبعد أن كافور هو الذي أمدهم بالمال ليقتلوا الرجل. وتوسط له فى ذلك أصحابه من أهل العراق من العباسيين والفاطميين، هذا مختصر القول فى مقتل أبى الطيب فى 27 رمضان 354. أما ما يرددونه من السخف فى حكاية مقتله بسبب القصيدة التي أولها :-
ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّه
وَأُمَّهُ الطُرطُبَّه
رَمَوا بِرَأسِ أَبيهِ
وَناكَوا الأُمَّ غُلبَه
فَلا بِمَن ماتَ فَخرٌ
وَلا بِمَن نيكَ رَغبَه
وَإِنَّما قُلتُ ما قُل
تُ رَحمَةً لا مَحَبَّه
إلى آخر الفحش القبيح الذي ورد بها.
وأيضا فقد ورد أن سبب قتله أنه لما ورد عضد الدولة ومدحه، وصله ثلاثة آلاف دينار وثلاثة أفراس مسرجة محلاة بالذهب، ثم دس له من يسأله : أين هذا من عطاء سيف الدولة؟ فقال أبو الطيب ” إن سيف الدولة كان يعطي طبعا، وعضد الدولة يعطى تطبعا!”
فبلغ ذلك إليه فغضب. فلما انصرف من أرضه، جهز إليه قوما من بنى ضبة فقتلوه، بعد أن قاتل قتالا شديدا ثم انهزم، فقال له غلامه أين ذلك من قولك:-
الخَيْـلُ وَاللّيْـلُ وَالبَيْـداءُ تَعرِفُنـي
وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَـمُ
فقال:- قتلتني قتلك الله، ثم قاتل حتى قتل،فمثل هذه الرواية لها تأويل وسياق فيما قدمناه لك.
وأرى ذلك من اختلاق الرواة ومبالغاتهم…
رحم الله أبو الطيب إذ يقول:-
وَقَدْ فارَقَ النّاسَ الأحِبّةُ قَبْلَنَا
وَأعْيَا دَوَاءُ المَوْتِ كُلَّ طَبيبِ
سُبِقْنَا إلى الدّنْيَا فَلَوْ عاشَ أهْلُها
مُنِعْنَا بهَا مِنْ جَيْئَةٍ وَذُهُوبِ
تَمَلّكَهَا الآتي تَمَلُّكَ سَالِبٍ
وَفارَقَهَا المَاضِي فِراقَ سَليبِ
وأنت يا أبا الطيب….
فَدَتْكَ نُفُوسُ الحاسِدينَ فإنّها
مُعَذَّبَةٌ في حَضْرَةٍ ومَغِيبِ
وَفي تَعَبٍ مَن يحسُدُ الشمسَ نورَها
وَيَجْهَدُ أنْ يأتي لهَا بضَرِيبِ.”
أبو فهر
محمود محمد شاكر
3 شوال 1354
29 ديسمبر 1935
كتاب المتنبى ص 392.391.390.389.388.387 ط 1977.
………………………………
* البيت خاص بهجاء ابن الفرات (وزير كافور) وقد طلب من المتنبى مدحه فرفض فاستحكمت بينهما العداوة، وكان عالما
بالأنساب ويعقد درسه وهو بعد بالوزارة.. وباقى الأبيات في هجاء كافور.
النص الكامل لشتم المتنبي لضبة وأمه الطرطبة…
ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّه
وَأُمَّهُ الطُرطُبَّه
رَمَوا بِرَأسِ أَبيهِ
وَباكَوا الأُمَّ غُلبَه
فَلا بِمَن ماتَ فَخرٌ
وَلا بِمَن نيكَ رَغبَه
وَإِنَّما قُلتُ ما قُت
تُ رَحمَةً لا مَحَبَّه
وَحيلَةً لَكَ حَتّى
عُذِرتَ لَو كُنتَ تيبَه
وَما عَلَيكَ مِنَ القَت
لِ إِنَّما هِيَ ضَربَه
وَما عَلَيكَ مِنَ الغَد
رِ إِنَّما هُوَ سُبَّه
وَما عَلَيكَ مِنَ العا
رِ إِنَّ أُمَّكَ قَحبَه
وَما يَشُقُّ عَلى الكَل
بِ أَن يَكونَ اِبنَ كَلبَه
ما ضَرَّها مَن أَتاها
وَإِنَّما ضَرَّ صُلبَه
وَلَم يَنِكها وَلَكِن
عِجانُها ناكَ زُبَّه
يَلومُ ضَبَّةَ قَومٌ
وَلا يَلومونَ قَلبَه
وَقَلبُهُ يَتَشَهّى
وَيُلزِمُ الجِسمَ ذَنبَه
لَو أَبصَرَ الجِذعَ شَيئاً
أَحَبَّ في الجِذعِ صَلبَه
يا أَطيَبَ الناسِ نَفساً
وَأَليَنَ الناسِ رُكبَه