ما تفعله الندوب

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد عبد العاطي

هكذا ظللتُ أفند الدنيا وأدفع اللحظة كي تقرر بدلًا عني. قال لي:
- لك عندي عمل.
- مستورة ولله الحمد.
- لو كانت فعلًا؛ لما عملتَ بورديتين متتابعتين. هذا من أجلك ومن أجل وفاء.
تمسكتُ بموقفي:
- حرام، هذا العمل حرام! 

رحل بعد مناوشات، ملّ من ادعاءات التحريم. فاقدًا الأمل طوح يديه، صفقهما مرتين، ولم يلقِ السلام. السلام الذي ردده الباب باصطكاك مرعب.
لن أكذب؛ ليلِي غفوته متقلبًا فوق جمر، لا يهدأ الطائر الذي عشش، وكل خمس دقائق يضرب بجناحيه داخل جدران جمجمتي، وحين لاح الفجر بعد يومين، اتصلتُ به، وبارتعاش:
– على بركة المولى، قبلتُ بالعمل. 
قبل إغلاق الخط، وبلهجة آمرة كأنه يحذِّرني:
– أنتظرك بعد ساعتين.
صليتُ الفجر، عبرتُ الجسر، وسرتُ بمحاذاة النيل فأصبحت عنده، أمي التي كانت تلم بساط الصلاة قبيل الشروق، سألتني فقلتُ: عمل جديد في مدينة سياحية. “هكذا فجأة؟” سألتْ باندهاش جَزِع، أومأت متحسرًا. دعت بالبركة، أرهقتني كثرة الدعوات والتقبيل ولم يكلّ فمها. زاحمني الندم، وبالمثل فعل الفزع. اكتمل غيابي لما وجدتُ “الباص” ينهب الأرض، صحاري تمتد يتلقفها البصر مغلوبًا. الأماكن الجديدة غير داعية للرهبة في حد ذاتها، ولكن بما ينتظرنا فيها، حتى كأنها لتبدو بقعة الأسى الأبدية التي ستلازمنا. مرات عدة أنظر فأجده يشخر بجانبي، يحزم كل الصمت من حولي ويلقيه في حلقهِ الرنان. دار الحديث بيني وبين نفسي هذه المرة حتى غفوت.
فوصلنا.
 على بوابتها المهيبة تسمرتُ: “
 honey beach” أو شاطيء العسل. كُتبت عريضة بلون البحر يقفز من حافتها السميكة دولفين يضحك باستهزاء. كاد حمدي يهشم معصمي وهو يشدني لما أبطأتُ. في الاستقبال قيل: اقرأ التعليمات جيدًا. قرأتُ. أهمها إراحة النزلاء بخدمة جيدة. كما أنه محظور على العُمّال أن تربطهم أي علاقة بالنزلاء -صداقة كانت أو غير ذلك- وإلا فجزاؤهم الطرد. هذا بالداخل فقط، أما بالخارج علمتُ أنها أرض الله واسعة أدب فيها قدمي أينما أحببتُ، وأفعل أيما رغبتُ. أرى العمال يمرقون ويطرقون في الأرض كأنهم يستعيدون مراوغات يتمنون لو لم تُخلق، يتلهفون لتعبئة الكاسات. والمعطِّر ينفث شذرات لا تفنى أبدًا، خُيِّل لي دوامه إلى يوم الدين. 
ما إن تمر بخفة إحداهن يقف الاستقبال كله على قدم وأعضاء أخرى، نترقب انهداد الأرض. هذا المكان لا حصن فيه إلا الصلاة بميعاد، والصيام قدر الإمكان. والله إنهما المنجيان.

 يربت حمدي على كتفي، يوجهني نحو شاب يقف مائلًا على عامود. لن أحتاج لبديهة عظمى كي أدرك أنه سعد ابن جارالله شيخ حارتنا الطيب، بعدما تقدَّم متواطئًا مع الحذر كأنه لا يعرفني، ويدندن.
جابني وجهه متفرسًا وهو يقودني عبر ردهة كأنها في قصر، أنوار في الجنبين مضاءة في مسافات متقطعة، لا أظن أنه كان هناك شيء على غير العادة في حديثي معه:
– عمل أم زيارة؟
– عمل.
– معك ربنا!
يومان و هيأني العمال لكل خبراتهم. العالم هنا غير العالم، النساء غير النساء،  الرقص غير الرقص. كلهن يرتدين في السهرات التنانير القصيرة جدًا، فتظهر أفخاذهن الرشيقة، سيصبح معتادًا أن تسمع فرقعة على مؤخرة إحداهن وهن يهززن خصورهن، رفاقهن يقومون بذلك باستمرار، لا أقول في الأوقات كلها، لكن الداعي للفزع هو التعود الذي يخضعني يومًا عن يوم.
 يلمزن بالأعين لكل الشباب العاملين للانضمام إليهن، على الرغم بعلمهن جيدًا عن التعليمات. ثم لا يسعك في كل الأوقات إلا أن تنظر فحسب، وسيكون لك في بعض الأوقات متسعٌ للاستغفار. يقولون أن أكثر الحوادث هنا تنبتُ من نظرة زائغة، كوب ينفلت، أو صينية تطيح في الفضاء. تحت الكلوبات ووسط صخب الروك والميتال على الشاطيء. بعد فترة وجيزة كنتُ قد تعودتُ العمل هنا، رغم النظرات، ومطاردات العيون.. عيونهن. الله وكيل، لقد كنت أتعمد أن أرتدي تحت البنطال قماطًا محكمًا وقابضًا، قضاء أخف من قضاء. والقرش هنا نهر يجري بلا حساب، بقشيش هنا وإكرامية هناك. كله يحدث وأنت تربض عند السيدات فيما ترى الجامحات منهن، تتذكر هذه، وتلك تشبه عليها، أفي الأحلام حتى يتحقق هذا؟ تصطدم بإحداهن سهوًا فتنصهر. وتراقبهن وهن يسبحن المايوه البكيني فيتراكم داخلك ألف حريق. 

 – ستتعود.
يبلغني حمدي في إحدى فقرات الراحة، وببسمة بشوشة يعطيني أجر أسبوع. “هذا للمحبة والضمان” طارت ألف جنيه دفعة واحدة في رأسي. كنت على الأرجح أطفو فوق السماء، وزايلتني ليالٍ لم أكن أتوقع أن تهل أبدًا.
 عند البار دأبت واحدة منهن أن تنظر وتمعن النظرة، فتاة الفودكا التي تخففه بالمانجو دائمًا، كان جلوسها لشيء أكثر غموضًا من الرقص الذي لا أدري له سببًا سوى الجنون والانفلات. 
 تطلب تلك المتفرجة بحزم ما تريد ولا تتراجع عنه أبدًا.
 راقبتها لأيام إلى أن سمعتهم يتحدثون عن “ماشا رايمكلوفا”.
خلسة صرحوا بهذا: إنها لا ترتدي إلا شيئًا محتشمًا لأنها تخفي ندوبًا عريضة على ذراعيها وبطنها، وتبعتُ هواهم فيما يرمونه بها. ولم يكف لساني الأذى بحكم أنهن عاهرات ومتاحات لكل أفواه العالم. رحتُ أخوض في جسدها خوضًا مريرًا أيضًا.
قيل إنها تعرضتْ لحادث؛ مجموعة ليلية اعترضتْ طريقها فسطت على المال بعد تقاضيها لأجر فيلم جنسي أدتْ فيه دورًا بارعًا. أحمد الله في سري أن وأد الفطرة لا يأتي إلا بالخراب على أصحابه. 
في اليوم التالي، كانت عيوننا فيه مجرد آلات للرصد، وأفواهنا ماكينات لهاث نفاثة. 
نادتني من بعيد:
– صب لي. 
نظرتْ لي مطولًا كأنها نسيت أن تطلب شيئًا آخر، صببتُ لها، وبتعبير مُهمَل أشارت لي أن أمضي.
طويلًا بقيتْ تلك المحادثة في رأسي، أو قل تلك اللحظة التي نظرتْ لي بها كأنها تدعوني لمشاركة شيء، وفي عقلي أدرتُ الخيال بموتور يسع العالم. كأن العالم أنبتْ مُفاعلًا في ذهني.  
كان قد مرّ يومان حتى كررتْ فعلتها. هذه المرة صديقي الذي تقدم لتلبية مطلبها قبلي، أمرتْه بالتراجع فنادتني:
– صب لي أنت.
أفرغت في الكأس حتى حافته، أشارت جانبها.
– اجلس.
بإنجليزية سليمة:
– ممنوع. 
– أنا أدفع المال هنا أيضًا كي تجلس. فاجلس. 
قالتها تطوح الكاس فيكاد النبيذ يهرب.
لم أرى بُدًا من العناد أمام حزمها، ووجهها الهادئ الأجمل على الإطلاق. كي أكون أمينًا فقد رأيته أمرًا محببًا، محببًا وخياليًا أن أجالسها، حتى بعدما خضنا عنها فيما خضنا البارحة. 
– لماذا كل هذا؟ 
– عفوًا؟
– الملاعين زملاؤك، يظنون أن الفضيلة رحمة. 
– أنا لا أفهم.
– و يبدو أنك لن تفهم. قُم.
رغم تكوُّم السُكرِ في عينيها، يبدو عقلها في كامل استفاقته. يراني أحدهم ويبلغ البقية. في المساء يقيمون حفلًا صاخبًا لأن أحدهم بشرني بعدم الصمود لأكثر من أسبوعين. 
استشعرتُ الدماء تغلي فيّ فانصرفت. وفي اليوم التالي تكرر الأمر. 
– اجلس. 
– نحن ملاعين. صح؟ 
– أنتَ لا. اجلس. 
استمعتُ أتوجس من حديثها المخادع.
– ماذا تعنين؟
وكأني لم أسألها أكملتْ.
– أبي قال إني أستغل جمالي. وما العيب في ذلك؟ الشجرة لا يلومها أحد. 
أحسستُ وكأني ألبي نداء الله في توبة إحداهن فاندفعتُ. 
– الله خلق الجمال كي نحفظه. 
– قم يا أحمق!
 وكادتْ عيناها ترسلاني إلى أقصى الأرض. ندمتُ؛ هي لم تكن أجمل نساء المكان، بل أجزم أنها أجمل نساء الدنيا. كلما أرى وجهها آلفُه. ما الخطأ فيما قلتُ؟ نعم الجمال محفوظ برحمة الله. كفرتُ إن ادعيتُ شيئًا مغايرًا. وكلما لفني حديث زملائي في المساءِ، فضلًا عن أني أستشعر الفخر، فإنني أتصببُ عَرقًا، وأمضي محضرًا خطة جيدة للهروب بمساعدة الغضب المزيف. 
 كلما مررتُ أمامها لعدة أيام، تزجرني نظراتها، واستمر الأمر لأسبوع آخر، حتى تلك الليلة التي شربتْ فيها ما شربتْ. ثم أمسكتْ بيدي وهي تكاد تسقط من إعيائها: 
– إلى حجرتي.
خفتُ من قول “ممنوع” فامتثلتُ، وراقبني حمدي غامزًا وهو يومئ برأسه، محذرًا بشأن التعليمات. لا يا حمدي، ليس بعد إدراك أن الأمر يُدار هنا بأموالهن فقط.
– لماذا؟
– إلى حجرتي يا غبي بسرعة. 
تسندتْ بجسدها عليّ، وليعلم الله، أني وجدتُ ما فيها من طراوة ولين، لكني كنتُ أجاهد ألا توقع بي. الحمد لله الذي هيأ لي جهادًا حقيقيًا. وكل خطوتين تتطوح فتكاد تشدني نحو الأرض. 
– أنت قوي كثور، ألا نسرع قليلًا؟ 
غذتني كلماتها بالخجل، فاندفعتُ أشد من عضلات قدمي وأسبح في تيار الأضواء الماجنة. تسمرتُ أمام حجرتها حتى يتسنى لها دفع المفتاح في بابها، ثم دخلنا وأمرتني بالانتظار، كالمختنقة هرولتْ تجاه الحمام، فتردد صوتها تنعبُ كبومة تحتضر، بدا الأمر وكأنها تلفظ أمعاءها. ثم خرجتْ، تملأ رئتيها بالهواء النقي وتلقي بنفسها هامدة على الكرسي وهي تمسح فمها بمنديل: 
– لا زلتُ أراك غبيًا. 
الصراحة لم يسعني إلا أن أضحك. 
– اعتقدتَ أنني سأقع باكية ضارعة عند قدميك يا مبشِّر؟  أنا أفخر بما أفعل. 
– لم أقصد بكل تأكيد. 
– اجلس. 
نفَّذتُ. 
– هل تراني جميلة؟ 
لم أدرك فعلًا ما أقوله، غير أني وجدتُ في نفسي طلاقة في الكلام لم أكن أحدِّث بها أي فتاة أخرى، ولا حتى وفاء: 
– أعتقد ذلك.
أمرتْني بالتوجه وصبَّ كأس لي ولها. اعتذرتُ عن كأسي فتفهمتْ. 
– هل تعلم أني “بورن ستار”؟ 
بحيلة كذبٍ واضحة أضمرتُ الإجابة، ودون رد فضحتني:
– أنت تعرف بكل تأكيد. أيعجبك جسدي؟ 
احمّررتُ كالنبيذ الذي ترتشفه ببطء وحنكة. ثم دخلتْ إلى الحمام وحذرتني من الرحيل. 
– ورائي عمل. 
– أنا سأتكفل بكل جنيه ستخسره. 
بعد خمس دقائق من خرير ماء لم ينقطع، خرجتْ تجفف جسدها بمنشفة، ثم وقفت أمامي بذراعيها المجروحين. وتركتْ ما يلف جسدها يسقط فجأة حتى تتجسد بكامل عريّها أمامي. لاحظتُ طيفًا لامعًا مر بجسدها فأشَحَتُ بعيدًا بوجهي. ندبٌ عظيمٌ في بطنها هو أخر شيء أذكره. لم أفق إلا ووجهي يلطمه فراغ إلى جهة أخرى، وظللتُ أردد الاستغفار بصوتٍ عالٍ، وتذكرتُ يوسف النبي، غير أن الباب أمامي كان مشرعًا عن أخره. كان جسدها لا زال مبللًا لما لمحته مرة أخرى وأنا أهم بالرحيل فتوجهتُ نحو الباب، حتى أوقفني تحذيرها:
– سيطردونك إن فعلتَ
– سأذهب إلى الجحيم إن لم أفعل. 
ثم أمسكتْ بيدي بقوة تبكي: 
– صدقني يا غبي لا أحاول الإيقاع بك. 
ثم أفلتت ساعدي وتركتني أمضي. هما خطوتان ثم سمعتُ نشيجها المتواصل يكلل أروقة الردهة الساطعة الفارغة. نداءٌ  كدبيب عملاق رمى في أذني أن أعود أدراجي. رجعت وهتفت:
– لم أرحل. 
تسندتْ على المقعد وهي تفرد قامتها وتشتمني. 
– ارتدِ ملابسَكِ أرجوكِ. 
– أرتاح هكذا. 
بان على وجهي الضيق، ثم بتحدٍ صفعتني بكلمتها: 
– فيمَ يهم ذلك؟ اللعنة. 
وقبل أن أطاوعها وأجلس. انفجرتْ فيّ:
– أتدري كم قضيبًا الآن على وجه الأرض يخترق المجهول كي ينتج مجهولًا آخر. أمم تتناسل، فتيات يتم إجبارهن. هؤلاء الرجال منهم قساوسة لولا ثقل الصلبان المعدنية على صدورهم لطاروا بما فيهم من هشاشة داخلية. ذلك الجنون الذي يسكن الكون ولا تراه لأن لحظاتك مشغولة بالأمان الزائف. هناك قضايا أهم من جسدي يا أبله! 
انتظرتُ حتى تكفكف دموعها، وأرهفتُ السمع أكثر لأني لم أشأ أن أنظر. 
– لا أفهم؟
– لا تفهمين ماذا؟ 
– جسدي فيمَ سيضرك النظر إليه؟ ألست متأكدًا مما إذا كنتَ حيوانًا أم لا؟ 
– اسمعي لقد تحملتُ بما فيه الكفاية، ولن أحتمل أكثر. 
– أجبني يا.. ما اسمك؟ 
– جمال. 
– أجبني يا جمال، أنا أضمن أنك لو نظرتَ فسيقام بيننا جسرٌ أقوى.
– أنتِ حرة، تتعرين. وأنا حر لا أنظر. قلتِ أن هناك قضايا أهم من جسدك. 
– عندك حق. لكني مُصرَّة. 

تعجبتُ من ثباتها، وكأن قالبًا من الجليد يجلس أمامي. تراودني الرغبة أن أساير تطلعاتها الجنسية، أو كما هُيء لي رغم موقفها الضبابي. أتريد ممارسة الجنس أم لا؟ فليغثني المعين.

– هذا لن يغيّر من حقيقة أن جسدي، برغم كل تلك الندوب، ما زال شهيًا لك. ولكني لا أرغب في ذلك الآن. 
– ورائي عمل، هل يمكنك أن تسرعي. 
– ليس إن نظرتَ إليَّ وأجبتني: هل يعجبك جسدي؟ 
– لن أنظر. 
بنشيج:
– تظن أنك تخدم الله؟ أنت تخدم الشيطان. الشيطان دائمًا يرتدي لباس الملائكة لكنك لا تكشفه؛ تدري لِمَ؟ لأنه يلعب مع الأطفال بكل حنان ولطف في الشوارع وفي خيالاتهم وخيالاتك. تظن أنك تصنع جميلًا في هذا العالم.. لن يحدث طالما لا تضع صورتي العارية، جنبًا إلى جنب مع مريم العذراء. أنت لا تدرك ما أقدمه حتى من خدمات جليلة للبشرية أكثر منها يا مبشِّر.

ثم سمعتُ صوتها مرتجفًا، وحفيفًا تبين أنه خطوات على الأرض، ثم ارتمتْ بجسدها العاري الطري بين يدي وقالتْ كلامًا قوامه:
– سامحني. افهمني. اسمعني فقط. لا تتركني. 
كانت وادعة تتهدج كحمامة بيضاء مكلومة، حمامة لها عينان خضراوان في وجه مضيء. لم أعر الكلمات انتباهًا بقدر ما أعرتُ لرعشة جسدي. فانتفضتُ واقفًا. ومضيتُ أهرول. 
– لا تذهب. صرختْ بصوت مكتوم يبتعد بابتعادي. 
لم أشعر بقدمي إلا وأنا أخطو فوق أخر عتبة من عتبات الردهة المفضية إلى حجرتي. العرق يخرج مني ينابيع. حمدي الذي كان يتمم على عمله ويمر في الردهات باحثًا أمسكني وطمأنته، ألحَّ فلم أشأ أن أحكي شيئًا فتركني. 
طاردني في الحلم جسدها، ينفلتُ منه جناحان نابضان، وأنا أضاجعها بتلذذ وبوحشية. قالتْ في الحلم: ضمني. وبكتْ. 
حدثتُها في الحلم وأنا أضاجها أني أخاف الله. تركتني. ضحكتْ كثيرًا، وأشارتْ نحو ندبتها التي طافت كل جسدها آنذاك، وصرَّحت: 
– هنا تجد الله. 
 مع الفجر استيقظتُ واغتسلتُ جيدًا. بعد قليل يبدأ العمل وسأحدِّث حمدي بضرورة الرحيل. حدثته فاستفهم: 
– لا أرتاح. 
– بقي أسبوع وتقبض شهرك؟ 
– لا أريد. 
تقلَّب وجهه، وبدون كلمة زائدة رحل. 
 بعد عشر دقائق، جاء يضرب وجه الصرامة:
– ترحل في الغد لأننا اليوم في حاجة. ثم لا أريد أن أعرفك بعدها. فهمتْ؟ 
من المرجح أن كلمته لم تصدمني، وإلا ما الذي يجعلني متبلدًا أمام غضبه؟ جعلتُ أتأنق من جديد. ثم تأكدتْ لدي القطيعة الكاملة بيني وبينه لما كان يشتبك في حديث فاتر مع آخر كلما مررتُ بجانبه. أما هي فرأيتها تضحك ملئ فمها مع أحدهم، تضحك وتتمايع معه، كلما تسنى لي أن أطل بمشروبٍ على المسبح أو كلما مررتُ أمامها. هي حتمًا تخفي شيئًا وراء نظارتها السوداء، وقبعتها الزرقاء الزاهية. صحا مخي من غفوته على فخذين تضمهما إلى بعضهما، وتبدلهما كل حين. كنت أريد أن أسألها: لماذا تبكي معي فقط؟ 
نظرتُ في عقلي بركن عيني، فلم أتحصل على الإجابة المناسبة إلا قرب الليل. نودي عبر الخفاء أن “ماشا رايمكلوفا” قد انتحرتْ.
 وجدوا أن الموت عاين جسدها ودخل من شريان رسغها. 
استنهضتني الصدمة، وأطبق عليّ الليل والبحر. ولولا الشرطة لبكيتُ وقلتُ أني من قتلها، على الأقل هذا ما أحسستُه. كانت تستصرخني صورها المتعددة وهي تضحك، وهي تبكي، وهي تتوسل، وهي تسبني. البارحة كنت أضحك من نفسي لأني أخذتُ المشهد جادًا، وحسبتها ستموت عليّ. حاولتُ التماسك في الليل لما غشت جلسة الأصدقاء المسائية غلالة الحزن، فعزّاني تأثرهم. وفي منتصف المسافة إلى حجرتي.. ركنتُ على حائط خلفي، وبكيتُ.
 على الفراش بكيتُ، وفي الحلم بكيتُ. ظللتُ أتصاغر وأتصاغر ويكسوني العرق. 
في الصباح لما هزّني حمدي كي أمضي، ونفضني شبح النوم، أخبرته بإصرار: 
– سأبقى.
 همستُ لنفسي: لعل إحداهن تحتاج للهداية حقًا!

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري 

مقالات من نفس القسم