– أحسُّ أنني أحبّكِ اليومَ كما لو أنّها المرة الأولى التي أراكِ فيها، ولعلّه الصّباحُ الأنيق غمرني بوجهك، و ..
تقاطعه بدلال: قبّلني.
يعقدُ حاجبَيه في لؤمٍ مُحبِّب، يقتربُ منها، يلفحُ وجهها الجميل بأنفاسه، فتغمضُ عينَيها مُستسلمة لشفتَيه.
أمسكَ بوجهها بينَ يدَيه، سرَتْ قشعريرةٌ لذيذةٌ في جسدها النحيل، وراح يطبعُ قبلةً حنونةً خفيفةً بينَ عينَيها.
فاجأتها القبلةُ التي غيّرتْ مسارها عن شفتَيها، لكنّها أحسّت أنّها كانت القبلةُ الأجمل، بل القبلةُ الأغلى.
حملتْ قبلتهُ في عينيها ومشَتْ بتثاقلٍ نحوَ الصّفرة المُزدانةِ بصحونِ الإفطار وكاسات الشّاي. حملَ بدورهِ الإبريق، ولحقَ بها حيثُ صغيراهما التوأمُ ينتظران وجبةَ الصّباح. توقفتْ للحظةٍ في الممرّ الضيّق، ثم التفتتْ نحوه، مؤكدة:
ـ عِدني أنّك ستبقى جانبي إلى الأبد.
واختنقَ الدّمعُ في حنجرتها، بينما غرقَ هو في نوبةٍ ساخرةٍ من الضّحك، ثم قال ممازحاً: برأس الشيخ جِبر راحَ ضَلني معك للأبد يا مجنونة. ابتسمتْ لقسمِهِ الغريب، وعادَ هو إلى الضحك مرة أخرى.
حينَ همّ بالخروج، تذكّر أمراً كانَ قد بيّتهُ في نفسهِ ليلةَ أمس، ومن وراءِ البابِ أخرجَ من حقيبتهِ الجلديّة أربعّ جوازاتِ سفرٍ، وبعضَ الأوراقِ الرّسمية الممهورة بأختام ملوّنة، و رزمةً من الدولارات. و أخبرها إنّه باع محلّهُ القديم و إنّه يخطّط للخروج من البلد لإنقاذ طفليه من جحيم الحرب. لم تجبْهِ بشيء، أمسكت بالأوراق، ومرةً أخرى عادَ الدمعَ ليختنقَ في حنجرتها.
أحسّ بانكسار شيءٍ ما في روحها، فقرّب شفتَيه من عنقها لتصلا إلى أذنها، وهمسّ بجملةٍ قديمةٍ طالما سمعتها منهُ أيامَ خطبتهما وبدايات الزواج:
– سأظل أحبك إلى الأبد.
فتحَ بابَ البيت، ثم بابَ سيارته، أدار المحرّك، ولوّح لها بابتسامةٍ عريضة، وانطلقَ إلى صيدليته.
أغلقتِ الباب، ودلفتْ إلى الداخل، مُتوجّهة إلى عملها في المطبخ.
كانَ الصغيرانِ يلعبانِ بكرةٍ مطاطيّة في حديقةِ البيتِ الخلفية، حين ارتجَّ المنزلُ بعنف، مترافقاً بصوتِ انفجارٍ قويّ جداً وسقطتْ عدةُ أواني من فوقِ رفوفِ المطبخ.
صرختْ، صرخَ طفلاها، أسرعتْ إليهما، ارتطمتْ بالباب، سقطتْ على الأرض، بكاءُ الصّغيرين يعلو، نهضتْ و قفزتْ نحوهما، ضمّتهما إلى صدرها بقوة. لحظاتٌ قليلةٌ مرّت قبلَ أنْ تسمعَ الهاتفَ يصرخُ هو الآخر، تماسكتْ و حملتْ توأميها معاً، و أسرعتْ نحو الهاتفِ الذي لم ينقطع رنينه.
انحنتْ ورفعتِ السّماعةَ دونَ أنْ تنزلَ طفليها، شهقتْ، انتفضَ جسدُها، سقطتْ سماعةُ الهاتفِ من يدها، خرجتْ إلى الشارعِ حافيةً، سلّمتِ الطفلين لجارتها السمينة دون أنْ تقولَ لها شيئاً، و راحتْ تركضُ نحوَ الطريقِ العام.
بعد ساعاتٍ أعادوها مُغبرّة الشّعر و الثياب، مُغمَضة العينين إلى البيت المحتشدِ بالأهلِ و الجيرانِ والصراخِ و الحوقلات، بينما لم يجدوا لزوجها أثراً.
……….
*قاص من سوريا