وهو اتجاه بدأه ” الماغوط ” وتلقفه جيل التسعينيات ، وأصبح مشروعهم الأثير داخل منجز القصيدة ، أما الاتجاه الثاني فهو ما أطلق عليه ” توفيق ” قصيدة الوعي ، وعرفها على أنها ” تحاول أن تسمعنا صوت الإنسان الذي لا يسمعه أحد غيره ، لأن حديثه يدور داخله بينه وبين نفسه . ولما كان هذا الحديث الداخلي لا يخلو من الاستطرادات أو الحذف أو شطط الخيال ، فإن القصيدة تحاول أن تخفي عمليات التنظيم التي تجريها على معطيات الحديث الداخلي ، وتحاول أن تبدو طليقة ، متموجة ، حية ، مثله .. ” ( السريون القدماء ، ص 101-102 )
لقد ميز بذلك ” مجدي أحمد توفيق ” بين أهم اتجاهين داخل منجز القصيدة ، وهما أيضا أهم اتجاهين داخل منجز الشاعر ” مؤمن سمير ” الذي نحن بصدد الوقوف عند أهم الملامح الجمالية في ديوانه ” عالق في الغمر .. كالغابة كالأسلاف ” الصادر عن سلسلة تجليات أدبية بالهيئة العامة لقصور الثقافة 2013 . والحقيقة أن تاريخ ” مؤمن سمير ” الإبداعي هو تاريخ التأرجح بين هذين الاتجاهين بدءا من ديوانه الأول ” كونشرتو العتمة ” وصولا إلى الديوان الذي نحن بصدده ، والذي انحاز بشكل كامل إلى الاتجاه الثاني في الكتابة ، أقصد ” كتابة الوعي ” التي ترتبط بشكل ما ب” اللاوعي ” داخل الإنسان ، والتي تنطوي على مجموعة غير محدودة من الغرائز والمحرمات والمكبوتات ، كما ذهب ” فرويد” ، إن الشعر في ديوان ” عالق في الغمر ” يخرج من تلك المنطقة الغائرة بين الوعي واللا وعي ، ليصور حديث النفس الإنسانية بما يعمل داخلها من خبرات حياتية معاشة وعوالم غرائبية ودوافع وغرائز وأفكار .
من ناحية أخرى يفرق الناقد المغربي ” محمد جمال باروت ” بين اتجاهين آخرين داخل قصيدة النثر ، الأول ما أطلق عليه ” القصيدة – الرؤيا ” وهو اتجاه صاحب مجلة شعر في صياغتها الأولى للحداثة الشعرية ، حيث كان المثال الجمالي للقصيدة – الرؤيا يكمن في الكلي أو الرؤيوي ، بينما يكمن المثال الجمالي للقصيدة اليومية – والتي تمثل الاتجاه الثاني – في النثري أو اليومي ، فالشعر في الاتجاه الأول يخرج من القضايا الكبرى من خلال رؤيا كلية تنظر للعالم في كليته ووحدانيته وجموده ، بينما يخرج الشعر في الاتجاه الثاني من تفاصيل الحياة اليومية من خلالة رؤية أقرب ما تكون إلى وجهة النظر لإنسان عادي ، أو أقل من العادي ، ليس نبيا أو عرافا أو حتى ملهم ، كائن بسيط ، نسبي ، هش ، لا ينظر أبعد من حدود حواسه الفيزيقية .
يمكننا القول بأقل ما يمكن من الاحتراز إن القصيدة – الرؤيا ، التي أسس لها أدونيس وتوفيق صايغ ، ويوسف الخال ، وجبرا ابراهيم .. الخ ، قد تم تجاوزها لصالح القصيدة- اليومية التي أسس لها الماغوط كتيار مغاير داخل جماعة شعر ، وإن هذا التجاوز لم يكن نابعا فقط من طموحات جمالية لدى شعراء القصيدة ، وإنما ساهم في انجازه وعي كوني فرض نفسه – نتيجة العديد من العوامل – على نظرة الإنسان للعالم ، حيث سقطت الفلسفة الهيومانية ، ومعها مركزية الإنسان ، بل وسقطت فكرة المركز ذاتها ، وأصبحنا في عالم سائل بلا نقاط ارتكاز هو عالم ما بعد الحداثة .
لقد تحرك جيل التسعينيات – ومؤمن سمير من ضمن شعرائه – تحت سماء الوعي الكوني الجديد ” وعي ما بعد الحداثة ” ، من خلال رؤى ذاتية لا تطمح في تقديم نظريات كلية تجاه العالم أو التاريخ أو الكون ، مؤسسين لجماليات النثري واليومي في اتجاهين – الاتجاهان اللذان حددهما مجدي أحمد توفيق – الأول توسل بالتفاصيل والثاني أعطى فرصة أكبر للقدرا اللاشعورية لتعبر عن العديد من العوالم التي تعمل داخل وعي الإنسان .
يشي عنوان الديوان ” عالق في الغمر … كالغابة كالأسلاف ” بمنطلقات الشاعر الفكرية وكذلك طموحاته الجمالية ، فهو ذلك الجرم الصغير الذي انطوى فيه العالم العلوي والسفلي ، هو ذلك الشيء الصغير العالق في التدفق اللانهائي العالم ، وكأنه يرسم لنا صورة لتدفق هائل يعلق به شيء ضئيل وتافه ، التدفق الهائل هو التاريخ الإنساني بما يحمله من خبرات متراكمة ، وهكذا يردنا العنوان إلى ثنائية يونج في اللاشعور اللشخصي واللا شعور الجمعي ، حيث يشتمل الأول على الخبرات الحياتية بينما يشمل الثاني على مخزون المعارف المتراكمة والتجارب والصور التي يشترك فيها كل البشر ، أي أن ذكريات الإنسان تقبع في اللاشعور الشخصي بينما تقبع ذكريات الجنس البشري في اللاشعور الجمعي وهو وعي / لاوعي مشترك بين جميع البشر ، وهكذا يصف لنا الشاعر نفسه بأنه ذلك الضئيل العالق في غمر من اللاوعي الجمعي ، فهو يعلن بذلك أنه مجرد كائن ضئيل ، ليس نبيا أو عرافا أو أي شيء متعال ، مجرد كائن ضئيل لا يقوى على الصمود بتاريخه الشخصي أمام تدفق لانهائي من المعارف والتجارب والصور . بعد هذه الجملة ” عالق في الغمر ” يضه الشاعر ثلاث نقاط ثم يكمل كالغابة كالأسلاف وكأنه بالنقطة الثالثة يريد أن يصرف انتباهنا عن ربط التشبيه به وإنما بالغمر فكأنه يقول أنني عالق في غمر يشبه الغابة والأسلاف ، فتشبيه الغمر بالغابة مشروع حيث الاتساع الكبير وكذلك تشبيهه بالأسلاف حيث الامتداد في الزمن
يكتب الشاعر وكأنه يحيلنا مرة أخرى إلى صورة الضئيل العالق في الغمر ” تم قنص النصوص بدءا من 2001 ” وكأن ذلك الضئيل العالق في التدفق اللانهائي للتاريخ لا يقف في موضعه مستسلما وإنما يصارع من أجل وجوده الشخصي ، وهو إذ يفعل ذلك لا يكتب شعرا وإنما يصبح كقناص يقنص ما يمكن اعتباره مبررا لوجوده .
تتشكل الدفقات الشعرية داخل الديوان من خلال لغة مجازية تنقطع فيها الصلة بين الدوال ومدلولاتها المعجمية ، إذ تسبح المعاني في فضاء النص بحرية تامة معبرة عن هواجس الشاعر ومخاوفه وأحلامه وتطلعاته ، …الخ ، من خلال تراكيب غير منطقية وصور غرائبية ولغة أقرب إلى التهويمات. وعلى الرغم من أن اللغة مجازية إلا أنها تختلف عن ذلك المجاز الذي اقترن بقصيدة النثر منذ تدشينها على يد جماعة شعر ، فالمجاز هنا لا ينطلق من أي تصورات كلية أو رؤى ميتافيزيقية ، إن الشاعر هنا هو ذاته الإنسان العادي ، النسبي ، الهش لكنه محمل بأعباء وذكريات ومعارف ورؤى غيره من الأسلاف ، يتكلم مؤمن سمير كأنه ينبش في الوعي الجمعي ، فيقول :
نحن المطاريد
الشياطين المكلفة ..
التي تصنع لهذا الجبل
شرابه الممزوج ..
التي تضع الظلام
على كف الوحش ..
ولا ترضى عن نفسها حقا
إلا ساعة تفتح الطريدة عينها
لينط فينا الشفق
هنا تتداخل الضمائر والصفات بشكل لا تستطيع معه أن تميز – بشكل حاسم – من المطارد ( بكسر الراء ) ومن المطارد ( بفتح الراء ) ، هنا تتحلل جميع الروابط والعلاقات المنطقية وتتداخل المفردات في تراكيب وصيغ جديدة تشكل بدورها صورا غريبة ومتلاحقة ، إلى الحد الذي يجعل القارىء يبني تأويلا ما ثم تأتي تركيبة جديدة تجعله يقوم بعملية تعديل أو هدم للتأويل السابق وإعادة بناء تأويل جديد ، إن عملية البناء والهدم تصبح بمثابة المتعة الجمالية التي يقوم بها المتلقي ، وتكشف كذلك عن الدور المحدود للشاعر فيما يكتب وكأنه إذ ” يقنص ” هذه الصور والتراكيب من ذاكرته ويلقي بها أمامنا ، يقوم هو نفسه بنفس عمل القاريء في الهدم والبناء . يصف الشاعر مجموعته أو جماعته بأنهم مجموعة من المطاريد أي المطاردين ، وأنهم الشياطين المكلفة ، وكأنه يردنا إلى ثنائية التتخيير والتصيير ، كأنه يقول لنا إنهم ( هؤلاء المطاريد ) مجبولون على الشر ومكلفون به ، هؤلاء الشياطين يصنعون مشهد الوحشة كاملا بدءا من الشراب الممزوج للجبل وانتهاءا بالظلام الذي يضعونه على كف الوحش . تخيل معي عناصر المشهد : جبل ومطاريد وظلام .. مشهد ينطوي على قدر كبير من الخوف والوحشة ، الغريب في الأمر أن هؤلاء الشياطين ( المطاريد ) لا يرضون عن أنفسهم إلا ساعة تفتح الطريدة عينها ، فهم مطاردون أصلا لكنهم يطاردون أخرين أيضا ، إلا أنهم لطيبة أصيلة فيهم عندما يرون نظرة الخوف في عين الطريدة تظهر داخلهم الشفقة ، الشاعر لم يقل ” الشفقة ” وإنما قال ” الشفق” والشفق هو الشفقة ، ولكن هنا نلمح خصيصة أسلوبية هي ملازمة لإنتاج مؤمن سمير وهي أنه يعول كثيرا على فكرة كسر أفق التوقع لدى القاريء وصرف ذهنه عن أي معنى قريب ، وهي خصيصة تنطوي على فهم معين للشعر بوصفه ذلك الكيان القادر على تذويب كم هائل من المعاني وصهرها وإكسابها دلالات جديدة ، ويصبح دور المتلقي إزاء هذا الفهم محاولة إقامة مجموعة من التأويلات وهدمها وبناء تأويلات جديدة وهكذا يصبح النص الشعري ثريا وطازجا وقادرا على إثارة المتلقي دائما وأبدا لانتاج معان أخرى .
انطلاقا من هذا الفهم للشعر يحاول مؤمن سمير دائما مراوغة القاريء ، ونصب الفخاخ له ، فبمجرد أن يكون المتلقي تأويلا ما يقوم الشاعر بعدها بدحر هذا الفهم ونسفه ، وفي النهاية يجد المتلقي نفسه وحيدا في غابة مظلمة ، ها هو يقول في نص بعنوان الحقيبة :
الرحلة السابقة
مازالت بقايا موسيقاها
ترقد في الجيب السحري …
ساقيك تصفقان ..
للرقصة …
للمخالب …
للوهلة الأولى يجد المتلقي نفسه عاجزا عن تكوين تأويل معين للنص ، وذلك لوجود بعض التركيبات التي تكسر التفكير المنطقي ، مثل : الجيب السحري ، والسيقان التي تصفق للمخالب . بالإضافة إلى العنوان ” الحقيبة ” فأي حقيبة تلك ؟ وما علاقتها بالجيب السحري وتلك السيقان ؟ للوهلة الأولى يصبح الأمر غائما ، ولكن بالتمعن قليلا نجد الشاعر فتح حقيبة ذكرياته ، وبدأ يفتش في جيوبها السرية ” السحرية ” فعثر على ذكرى لحبيبة جمعته بها رحلة قديمة ، حاول الشاعر أن يستدعي بعض أجواء تلك الرحلة من خلال الموسيقى وساقي الحبيبة وهما يصفقان للرقصة ، يبدو أنها ( الحبيبة ) كانت ترقص وساقيها يدبان على الأرض بإيقاع كأنه تصفيق ، فحبيبته تفعل كل شيء ترقص وتصفق للرقصة بينما لم يكن يفعل هو شيئا سوى غرز مخالب رغبته في جسدها .
لعل من أهم ما ميز قصيدة التفاصيل نزوعها إلى تصوير الواقع عبر لقطات مشهدية ، والغريب أن هذه المشهدية لم تغب داخل إنتاج مؤمن في نزوعه نحو اطلاق طاقات اللاشعور – كما أوضحنا – فهو مازال مهموما بنقل مجموعة من المشاهد الحياتية لكنه يقدمها بلغة مجازية ، مراوغة ، قادرة على كسر أفق توقع القاريء وإرهاقه في دوامات من التأويل ، يمكن أن نجد هذه المشهدية في النص التالي المعنون ب ” الحجرة “:
سقطت القبلة
حتى أن ” الصييت”
رقق النغمة ..
لما استند على الجدار
وغاب…….
النص يصف مشهدا لرجل وامرأة بداخل حجرة مغلقة غير أن هناك صوت ” صييت ” يصل إليهما في نغمات رقت حينما قبلها ، الشعر هنا ينهض على محاولة تحفيز المتلقي لتخيل أثر تلك القبلة التي كما لو كانت القبلة الأولى لعاشقين اختلساها من قبضة الزمن ، القبلة سقطت وكأن معجزة حدثت للتو ، حلاوة القبلة جعلت لحن الصييت رقيقا في أذن الرجل ، وجعلت الرجل يستند إلى الجدار ويغيب عن الوعي في حالة تشبه السكر . المشهد هنا يبدو محكما ومصنوعا بأقل ما يمكن من الكلمات التي اكتفت بتكوينه ولم تعمل على نقضه ، كما هي عادة ” مؤمن ” في كسر أفق التوقع وتوجيه المتلقي لإعادة بناء تأويلات جديدة .
في نص بعنوان ” سماعة الأذن ” يبدأ الشاعر النص بصوت أنثى تكلم أناسا مجهولين عن ” بيتهوفن ” فتقول :
ظننتم أني تأخرت عامدة
على ” بيتهوفن”
الذي كانت عظامه تسمع
وبصيلات شعره …….
………..
غرف قلبه كانت تستف العشب
لأعيش قرب غديرك ( بكسر الكاف )
وبعد هذا المقطع تتدفق العديد من المقاطع الشعرية وغير الشعرية لمؤلفين وشعراء ومغنيين أحال إليهم في اخر الديوان ، يبدأ هذا التدفق ” الغمر ” الهادر بمقطع شعري ل ” على منصور ” ، يقول فيه :
هذا صباح جميل :
الشمس ضاحكة
كفستان أنثى
وسمة
موسيقى
تنزل
السلالم.
وينتهي بمقطع شعري ل ” عباس بيضون ” يقول فيه :
ليس كلامنا ولا غناؤنا للبشر
لا لأحد قلت اسمك
لا لأحد .
هذا التدفق الهادر يحيلنا مرة أخرى لصورة الضئيل العالق في غمر الأسلاف وتاريخهم ، إنه غير قادر على التغريد بمفرده ، فالتاريخ يقبع داخله كمحتل خسيس ، لا يقدر الشاعر على طرده أو حتى التطبيع معه . المقطع الأول ل” علي منصور ” يشير إلى ذلك التوحد الذي حدث بين الشاعر والطبيعة ، فالشمس تضحك وضحكتها تحيله إلى فستان أنثى جميلة ، والموسيقى تقفز داخله كأنها تنزل سلالم روحه . يستدعي ” مؤمن سمير هذا التوحد ، فيغرد بأصوات الآخرين ، أو من خلالهم ، أو يذوب فيهم فيتلاشى تماما ولا تبقى غير أصواتهم الخالدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وناقد مصري ـ والديوان صادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة