مؤتمر سائقي الدراجات النارية

موقع الكتابة الثقافي art 09
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عمرو عاطف

إهداء: إلى ستانلي كوبريك

ضوء القمر ضعيف جداً هذه الليلة، لا تكادُ تجد فيه ما ينير الشوارع وما يسوق الكلاب الضالة إلى مضاجعها. لذا فالشوارع هادئة ومظلمةٌ تماماً إلا من ذلك النباح الضائع في الفراغ، المتواصل بلا توقف. وهناك، عند كوبري القناطر العتيقة، كان الظلام يحيط بكل شيء، ونسائم النهر تعبر في قوة فتترك أصواتاً خافتة عندما تصطدم بجسد الكوبري. وفي قلب هذا الظلام نبتت أضواءُ خافتةٌ تشق أشعتها طريقها في وهن، وإن كانت تبدو لامعة مثل النجوم في هذه الليلة الظلماء! في وسط الظلام كانت تمشي في سرعة وتوجس، تضطرب في ملابسها الواسعة التي لا تكاد تظهر ملامحها في الظلام، وتتلفت حولها في خوفٍ شديد يزداد داخلها تدريجياً كلما توغلت دخولاً في الكوبري، وعندما لمعت الأضواء من بعيدٍ انقلبَ كيانها كله إلى كتلة من الرُعب، توقفت في مكانها تهتز من الرعب وتتمتم بكلامٍ غير مفهوم، لا تعرفُ أترجع أم تتابع التقدم، ونقطتا ضوءٍ تقتربان منها في شدة كالموت. عندما دنت النقطتان ظهر شكلهما أوضح كثيراً، كانتا دراجتين ناريتين، من تلك الدراجات الصينية الهزيلة، توقفتا بالقرب منها، ونزل منها شابان في جاكتين أسودين رديئين وبنطالي جينز، كانا يبدوان كأنهما يلبسان مثل بعضهما تماماً فقد كانا بالنسبة إليها ما هما إلا ظلان أسودان مُخيفان في شعر محلوق الجوانب ومتروكٌ أعلاه ليكبر بشكل مخيف، حاولت أن تمضي في طريقها لكنهما وقفا أمامها فسدّا الطريق عليها. ونظر أحدهما للآخر مستريباً، ثم نظر للفتاة وابتسم ابتسامة واسعة وهو يقول:

– هكذا!! لا تدعيننا إلى الحفل! نحن أصحاب واجب لعلمك..

وضحك صاحبه ضحكة مصطنعة ثم اقترب منها، راح يتشمم رقبتها في قوة وهي واقفة تكاد قدماها لا تحملها، تحاول أن تكتم صرخاتها وبكاءها، ولكن الدموع خرجت من عينيها رغماً عنها..

– تبكين؟ لماذا تبكين؟! لماذا تبكين يا حلوتي؟ إننا سنبهجكِ كثيراً.. سنريحكِ آخر راحة..

ونظر لصديقه الذي ما زال يتشمم رقبتها.. يضع اصبعه عليها في قوة، ثم قال:

– كنت أشاهد فيلماً البارحة كانت بطلته تشبه حلوتنا هذه كثيراً..

ثم اقترب منها وراح يقول مع نظرة شهوانية:

– لكنها كانت بلا ملابس!

راح الثاني يعبث برقبتها بيده، يضغط عليها بقوة حتى راحت تسعل من الاختناق، وقال:

– وهل كانت ناعمة هكذا..

– لا أدري.. لكن البلدي يؤكل طبعاً..

عندما وضع الثاني يده على رقبتها استسلمت لقدرها تماماً وعلمت أن لا جدوى من المقاومة، فانساب جسدها وهرب منه الحول، واستعدت تماماً لما سيواجهها، ولكنها وجدت أيديهما تنسحب من على رقبتها وصدرها، ورأتهما يتجهان راجعين إلى دراجتهما النارية! توقفت لثانية غير مصدقة، ثم مضت في طريقها مسرعة دون أن تخرج نفساً، عبرت من جانبهما وهما ينظران إليها من الخلف في اشتهاء. ومن بعيد، علا عواءُ كلبٍ قوي جداً فأرجع المدى صداه، وكأنما قد أعجب الكلب الصدى وأصابه ببعض الكبرياء، راح يعيدها في قوة وزهو، والمدى يردد صداه أقوى وأقوى. عندما سمع الشابان صوت الكلاب الصادح في العالم المظلم اشتعلت داخلهما رغبة، راحت تفتك بهما وتنبض في دمائهما كسُعار! ألقيا الدراجات على الأرض وأسرعا يركضان في إثر الفتاة، هما الآن يركضان، لا يضحكان ولا يتكلمان ولا ينظران لبعضهما، أحست الفتاة باقترابهما فأسرعت راكضة دون أن تنظر إلى الوراء، ولم تلبث أن جذبتها يدٌ من بلوزتها فسقطت على الأرض في سرعة، حاولت أن تقوم فأمسكا بيديها وقدميها في قوة، حاولت أن تصرخ، صرخت بصوتٍ عالٍ فلم يباليا حتى بإسكات فمها.. فلتصرخ كيف تشاء فإنما يزيد ذلك الأمر تشويقاً وإثارة! مزقا عنها ملابسها، وراحا يتأملان جسدها ويتلمَسانه في ذهول يكاد قلبهما يتوقفُ من شدته، ويعبثان بها، يصرخان بصرخات أعلى من صرخاتها وكأنما نشوة الصراخ تفوق كل ما يحسان به من نشوة جنسية، أغمضت الفتاة عينيها وسكنت عن الحركة تماماً، وأحسا أنهما يغرقان في بحر لا قرار له، غائبين عن الوعي لا يريان سوى مسامٍ بيضاء مُذهلة كأنها مداخل إلى عوالم خرافية، ولا يشمّان إلا رائحة عذبة لا تأتي من هذه الحياة. وعندما أفاقا وجدا أنفسهما ملقيين على أرض الكوبري، وبنطاليهما يكشفان عن الجزء الأعلى من ساقيهما ومؤخرتهما، وكمَس كهربائي، انتفضا سريعاً من مكانهما، واتجها إلى جسد الفتاة العاري الذي سكن عن كل حركةٍ وهمس، راحا يقلبانها يميناً ويساراً، لا حركة، يقربان من فمها، يضعان أيديهما على رسغها وقلبها، لا همس. نظر أحدهم إلى الآخر وهو يقول مصدوماً:

– ماذا فعلنا؟! لقد ماتت؟

– وماذا كنت تتوقع أيها الأبله!!

تقدم إلى الجثة، رفعها من ساقيها وراح يجرها وهو يقول في لامبالاة:

– كنا سنقتلها في النهاية على أي حال..

– نقتلها؟! ولماذا؟!

– أأنتَ غبي؟ أتريدها أن تبلغ عننا كلنا، يذهب كل سائقي الدراجات النارية إلى الجحيم؟!!

– معك حق.. كيف لم نفكر في هذا؟!

أفلت زميله ساقي الفتاة فارتمت على الأرض في قوة، وراح يتقدم في غضب إلى صاحبه، أمسكه من قميصه وصاح غاضباً:

– اسمع.. نحن لم نفكر في أي شيء.. أفهمت؟! ما حدث قد حدث وانتهى.

ثم أفلته وذهب إلى الجثة، حمل ساقيها وراح يتابع الجر وهو يقول:

– والآن كف عن الثرثرة وتعال ساعدني!

– ماذا ستفعل؟!

– وماذا يخيل إليكَ أنني سأفعل، سألقيها في النهر طبعاً..

هز صاحبه كتفيه ولم يعترض، حمل الفتاة من رأسها، وانساب شعرها الناعم على كتفيه فأحس بنغزٍ ما لكنه تجاهله، وقفا بمحاذاة بعضهما على أحد الألسنة، وراحا يجران جسدها على سور اللسانِ حتى تركاها لتسقط في الهواء إلى النهر، ثم يحدث سقوط جسدها صوتاً عالياً جداً، لا يشعر به أحدٌ في هذا الليل البهيم.

عندما انتهيا من إسقاطها في النهر، جلسا متراخيين على أرض الكوبري وقد غابت عنهما الأفكار وأصبحت ضبابية، ولم يفيقا منها إلا على أضواءٍ باهرةٍ قادمة من أول الكوبري. التفتا فإذا بفوج من الدراجات النارية قد اقتحم المكان وغمره بالأضواء، ما يقرب من ثلاثين دراجة نارية وصلت وراء بعضها في وقتٍ واحد، تتقدمها دراجة يابانية من طراز رفيع. كانوا جميعاً يلبسون ملابس مشابهة لملابسهما، وقصات شعورهم تشبههما تماماً عدا ذلك الرجل الذي تقدمهم جميعاً واثنين بجواره كان يبدو أنهم أكبر سناً وأكثر وجاهة في الشكل والمقام. ترجل الجميع عن دراجاتهم، وركنوها بمحاذاة بعضها البعض، بينما ترك الثلاثة الكبار دراجاتهم ليركنها لهم أحد العاديين، وتقدموا بثقة تجاه الشابين الذين تسمرا في مكانهما لا يقدران على شيء. وقف كبيرهم لحظةً صامتاً وهو يتطلع في الشابين، ثم راح يعبث بذقنه الطويل كثيراً، ويحرك خاتمه الضخم بإصبعين يمناً ويساراً، ثم قال في صوت هادئ، مميتٍ في هدوءه:

– خرابة، فتلة. لقد أخبرني البرنس بما فعلتما، رأى كل شيءٍ.. من البداية، وحتى ألقيتم بالجثة من اللسان..

– آسفون يا كبير، كانت شهوة تملكتنا لم نستطع أن نقاومها و….

قاطعهما في حدة:

– شهوة!! وما ذنبي أنا أن كل واحد منكما يعيش حاملاً عضوه على كتفه! ما ذنبنا أن نذهب وراء الشمس بسبب شهوتك التافهة مثلك.. أيها التافه..

– يا كبير.. لم يرنا أحد، ولم يسمع أحدٌ شيئاً..

قال وقد بدأت لهجته تهدأ قليلاً:

– رآكم البرنس، وكان بالإمكان أن يراكم غيره وأنتم لا تشعرون.

صاح خرابة في رجاء:

– من يا كبير؟! من سيأتي ليعبر الكوبري في منتصف الليل؟!

وتابع فتلة كلامه:

– أجل يا كبير، الجميع يعرفون أن سائقي الدراجات النارية يأتون هنا في الليل ليفعلوا ما يحلوا لهم، ولا يجسرٌ أحدٌ أن يعبر الكوبري ليلاً في وجود سائقي الدراجات النارية…

تابع خرابة في لا مبالاة:

– ومن يعبر الكوبري في مثل هذا الوقت فقد جنى على نفسه! لا يستهين أحدٌ بسلطتنا هنا..

وقف الكبير ينظر إليهم لثوانٍ، ثم قال:

– أيها الأوغاد، ستفتحون علينا العيون.

رد فتلة بحماسة بالغة:

– لا تقل هذا يا كبير، كل شيء في السليم، لن يكتشف أحدٌ هذه الجثة في وسط النيل، وحتى لو اكتشفها، كيف سيعرفُ من فعلها؟! ابرةٌ في أكوامٍ من القش!

بدأ الكبير يهدأ ويفكر في كلامهم، بينما تابع خرابة كلام صديقه:

– يا كبيرنا، إنما نحن سائقو الدراجات النارية، نفعل ما يحلو لنا ولا أحد يستطيع أن يفعل بنا شيئاً، نحن لسنا مثل هؤلاء الجبناء الذين يمكثون في منازلهم وهم خائفون من كل شيء. لقد تركوا لنا كل شيء، وقد أصبح كل شيء ملكنا.. ملكنا للأبد.. بوضع اليد.. بالقوة…

أحس الكبير بأن الكلام يدغدغه في أوصاله بشدة فأحس بنشوة كبيرة، وسرح بخاطره فتخيل سمية وقد اعتلاها في وسط الكوبري، وعلت صرخاتها المتوسلة وهو يفعل بها ما يشاء.. ما يشاء. ثم أفاق من خيالاته ولبس لبوس الوقار سريعاً، وقال في صوتٍ غليظٍ مُفتعل وهو ينظر إلى مساعديه:

– سننظرُ في أمركم ونبلغكم بحكمنا غداً..

قالها ثم انفض المجلس سريعاً وأخذ كل واحد منهم جنباً مع أصدقاء له، وما لبثت أن أنيرت أضواء الدراجات وعلا الضجيج، وارتفعت أصوات الأغاني الشعبية الصادحة، ودارت لفائف الحشيش والبانجو عليهم بالتساوي فلم تترك واحداً إلا وصنعت له سماء مليئة بالألوان فوق تلك السماء المعتمة، وأخذ المكان الصخب حتى أن من يراقب تلك الأضواء وتلك الأصوات من بعيد، ليظن أنه ثمة عرس ما يُعقد على ظهر الكوبري!

****

في الليلة التالية كان الليل أهدأ كثيراً. وقف فتلة وخرابة في وسط الجمع أمام لسانٍ عريض في وسط الكوبري، جلس فيه الرجال الثلاثة الكبار وبجانبهم بعض الرجال العاديين المساعدين، بينما التف الباقون في دائرة حول فتلة وخرابة وركنوا دراجاتهم في الخلفية في نظام. كان هذا أول اجتماع عام لأصحاب الدراجات النارية منذ وقت طويل جداً. قديماً كانت تعقد هذه الاجتماعات بشكلٍ منظمٍ ومتكرر لكي يُحكم في أمورهم، فيُفصل بينهم في المنازعات وينظم توزيع المخدرات عليهم، ثم رأى قادتهم عدم جدواها ففكرتها ضد فكرة مجتمعهم في المقام الأول، والمخدرات أصبحت منتشرة حتى أنهم لم يعودوا يحتاجون أن ينتظموا في صفوفٍ طويلة ليحصلوا على حصتهم! فقلت الاجتماعات تدريجياً حتى اندثرت تماماً. والآن.. أمام ما جد من الأحداث قرر الكبير أن يعيد تلك العادة القديمة حتى يضع فيها كلمته، وحتى يفصل في هذا الأمر الذي كان لابد أن يفصل فيه. عم الصمت للحظاتٍ قليلة، والثلاثة الكبار ينظرون إليهما ولا يتكلمون، ثم صاح كبيرهم أخيراً بعد أن سعل سعلةً تردد صداها:

– لا يختلفُ أحدٌ أن ما فعله فتلة وخرابة البارحة خطير جداً.. صحيح أنه لم يؤذنا في شيء ولكنه كان يمكن أن يؤذينا! ونحن لن نسمح لذلك أن يدمر حياتنا. نحن الذين ننتظر هذا الليل لنبدأ حياتنا لا يمكن أن نضيع الليل منا فهو كل ما نملك! إذا أضعناه منا ضاعت حياتنا، بل إن ما فعلوه بوسعه أن يضيعنا للأبد فعلياً!

دار اللغط للحظاتٍ بين الحضور، وراحوا يرمقونهما ويتهامسان حتى تقدم واحدٌ من الجمهور كان واقفاً بجانب فتلة، شاب رفيع الجسد للغاية، قاسي الملامح، يبدو على محياه الذكاء. قال بصوتٍ كله ثقة:

– يا كبير.. اسمح لي بالتكلم نيابة عن خرابة وفتلة.

حرك الكبير يده علامة الموافقة ولم يتحدث، تابع الشاب قائلاً في حماس واثق:

– عندما أترك بيتي وحياتي وآتي هنا إلى الكوبري، إنما آتي لكي أمارس حريتي.. لكي أفعل أي شيء لعينٌ أريده في أي وقتٍ أريده، من دون حكمٍ من المجتمع ومن دون أن ينتقدني أو يعلق عليّ أحد. من دون أن يصيح بي أبي طوال النهار أن أبحث عن عمل أو يصيح بي أن أخفض صوت السماعات وأنا أسمع أغانيّ، من دون أن ترهقني أمي بطلباتها، أو أن تنظر لي تلك النظرة الحزينة التي ألعنها من أجلها كل ليلة. أنا أكره هذه الحياة وهؤلاء الناس، والحقيقة أنني لن أقول أنني أحبكم أنتم أيضاً! أنتم بالنسبة لي سواءٌ جميعاً، كأحجار هذا الجسر العتيق! وأنا لا أهتم بتاتاً بما سيحدث لخرابة وفتلة، فليذهبا إلى الجحيم! ولكنني أتيت إلى هنا لأنكم تدعون أنكم لا تخافون أحداً، وأن هذا المكان هو مكان الحرية المطلقة الذي يستحقه فقط ذوو القلوب الميتة الذين لا يهابون شيئاً ولا يكترثون بشيء.. حتى وإن كنت تمتلك أفخم دراجة نارية، فإنه لا يكفي لكي تكون عضواً منا هنا. هذا ما أفهمه من هذا الكوبري ومن هؤلاء الناس الذين حولي، فإن كنتُ أنا على خطأٍ واتضح أنه ما أنتم إلا جبناء حقيرين كهؤلاء الأوغاد النائمين في بيوتهم الآن، فلا بأس.. لن أعترض.. لكنني سأرحل عن هنا وأبحث عن مكانٍ آخر لا أكون فيه مع جبناء آخرين!

وعندما أنهى كلامه عاد خطوتين إلى الوراء بكل ثقة، وقال في صوتٍ هادئ ثابت وعلى فمه بسمةٌ صغيرة:

– شكراً لإتاحة الفرصة للتحدث يا كبير.

راح الجميع يحدقون فيه بلا كلام وقد شمل الصمت المكان بقوة، حتى الثلاثة الكبار راحوا يحدقون فيه بنظرات محايدة لا تخلو من تفكير، أخيراً همَّ أحد المساعدين بالتكلم ولكن الكبير قاطعه بحركة من يده فأغلق فمه وراح ينظر إليه. قام الكبير من مكانه وتحرك خطوةً إلى الأمام، وقال في صوتٍ جهوري:

– موللر معه حق. إن ما فعله فتلة وخرابة هو خطأٌ طبعاً، لكننا لسنا هنا لنحاسب على الأخطاء، لا أحد منا قد خلا من الأخطاء، وربما لهذا تماماً جئنا إلى هنا في الأساس! علي أن أؤكد أن فتلة وخرابة قد أخطئا، لكنني لست هنا لكي أعاقبكم على ما تفعلون وعلى خياراتكم..

تنفس فتلة وخرابة الصعداء في ارتياحٍ شديد، وراحا يبتسمان لبعضهما وينظران باسمَين إلى موللر الذي راح يحدق فيهما في لامبالاة. والتفتا إلى الأمام فإذا بالكبير أمامهما تماماً، ينظر إليهما نظرة مرعبة حبست الهواء في حلقيهما. أمسك بتلابيبهما معاً وهو يقول بنفس الصوت العال:

– ولكن من يفكر حتى على جلب الضرر أو الأذى لنا، فسوف أحرص على أن ألقي بجثته في النيل بنفسي..

ثم أفلتهما وعاد إلى مقعده في اللسان، وقال في لامبالاة:

– انفض المجلس.. عودوا إلى ما كنتم فيه.

****

في خلال أسبوعين تكرر الحادث مرة أخرى. فتاةً ما كانت تعبر الكوبري في الليل فالتقطها أحد سائقي الدراجات النارية. اعتلاها في وسط الكوبري، وراحت تصرخ وهو يضربها ضرباً شديداً كانت تزيد ضراوته كلما علت صرخاتها، يضرب ويضرب ويضحك في نشوة بالغة جنونية، ولما سكتت عن الصراخ راح يضربها ليستحثها على الصراخ، يضربها أكثر وأكثر وهي لا تصدر أي صوتٍ حتى اغتاظ تماماً وفقد شهيته. راح يقلب وجهها يميناً ويساراً ويضع يده على فمها وأنفها فلم ير أي نفسٍ يخرج، أخذ يزمجر في غضب ويصيح:

– لماذا مُتِ بسرعةٍ هكذا أيتها اللعينة! لم أكتفِ منكِ بعد!!

ولكنه فكر في فكرةٍ عظيمةٍ ملأت قلبه طرباً. حمل الفتاة على كتفه، ومضى بها وقد مد قامته ومشى بفخر حتى تقدم من الجمع الذين كانوا جالسين حول دائرة حشيش واسعة. دخل عليهم بلا سلام وألقى بجسد الفتاة أمامهم، وقال في صوتٍ جنوني كأنه لا يخرج منه:

– ها.. أخبروني من العاجز الآن أيها الأوغاد..

تطلعوا في الجثة المشوهة ثم تطلعوا فيه لثوان، وما لبثوا أن انفجروا جميعاً في موجة من الضحك الصاخب، راح جسده يرتجف من الغضب لكنه لم يتكلم، وصاح أحدهم وهو ينظر إليه مستهيناً:

– واضحً فعلاً أنك لست عاجزاً! أنت فقط لا تعرف أن النساء لا يفقدن عذريتهن بالضرب، سأقول لك الطريقة الصحيحة عندما تكبر.

وأغرق الجميع بالضحك، بينما لم يتمالك هو نفسه فراح جسده يرتجف بشدة، راح يجر الجثة خلفه وهي تترك خَيطان من الدم وراءها على الأرض، ثم رفعها على أحد الألسنة وألقاها في النيل. ثم جلس على الأرض يغطي وجهه بيديه كأنه يحجب نفسه عن المشهد.

وصاح أحد الحاضرين في ضجر:

– أجل لقد سمح لنا الكبير بهذا، ولكننا لن نظل هكذا كالأرض الجدباء تنتظر الندى! ما الفرصة أن تعبر فتاة أخرى الكوبري في خلال الشهر القادم حتى! وما أدرانا أن تعبر ويأخذها تافه مثل “جيصة”، يضربها ويضيع جسداً جميلاً هكذا في الهباء!

نظر له أحدهم في صوت مستهجن وهو يقول:

– وماذا تقول إذن يا عبقري زمانك؟!

– أقول أن نحضرهن نحن إلى هنا! ما الفارق أن يأتين بأنفسهن أو نحضرهن نحن! في كلتا الحالتين مصيرهن واحد.. والعاهرات كثيرات!

راحوا يهمسون في لغط، وقال أحدهم:

– ولكن كيف سنجدهن! من سيحضرهن إلينا!

– لا عليكم.. اتركوا لي هذه المهمة، أريد فقط لاثنين منكم أن يكونا معي ليساعداني على جلب الفتيات إلى هنا، على أن يكون نصيبهما هو الأول فيمن سأجلبه من الفتيات.

ورفع كثيرٌ منهم يده فاختار منهم اثنين، واتفقوا على أن يبدأوا العمل من الغد. وسرعان ما استطاعوا أن يجدوا الشابات المناسبات ويجرونهن إلى الكوبري، ويوماً بعد يومٍ صاروا أكثر توسعاً وأكثر خبرة فضموا إليهم متبرعين آخرين، وصاروا يعرفون طريقة جلب الفتيات والبحث عنهن فصار الموضوع أكثر سهولة، فتيات من كل الأعمار وكل الأذواق، البيضاء والسمراء، الرفيعة والسمينة، الشابة الصغيرة والسيدة، الرقيقة الضعيفة والقوية القاسية، المقاوِمة التي يكون لديها بعض الأمل في النجاة، وتلك التي تستسلم من أول وهلة. هكذا وكل واحدٍ وذوقه!!

ووجدوا جميعاً في الهواية الجديدة أنها أمتع وأكثر شغفاً كثيراً من البانجو والحشيش والأغاني الشعبية وسباقات الدراجات النارية على الكوبري، فتركوا كل ذلك وانصرفوا إليها، وصاروا جميعاً أكثر مواظبة على المجيء إلى الكوبري باكراً ليتسنى لهم حجز الفتيات الجميلات قبل أن يختارهن الآخرون ويتركون لهم القبيحات، واستغل “فوزي”  – ذلك الذي بدأ تلك الفكرة في البداية – الموضوع إلى أقصى حد، فصار يأخذ منهم عرابين باهظة الثمن لكي يحجز لهم الفتيات الأجمل، ثم يدعي بعد ذلك أن فلانا دفع عربوناً أكبر فاستحق تلك الفتاة عن تلك. واستطاع أن يكسب ثقة كبيرة عند الكبير ومعاونيه عندما استطاع أن يعرف أذواقهم بالضبط، ويهديهم في ليلة ما ثلاثَ فتياتٍ جُلودهن كالعاج! ومن يومها صار ذو حظوة ولم يعد يخش أحداً أو يخش شيئاً.

وفي ليلة اعتبرها من أيامه المجيدة، استطاع أن يحضر لكل واحد منهم فتاة! لم يصدق نفسه أن على الكوبري أكثر من ثلاثين فتاة جاهزات وفاقدات الأمل في كل شيء. اهتز قلبه طرباً وحرية لمسمع الملابس وهي تتشقق في قسوة، وأصوات الشباب والفتيات وهم يصرخون صرخات آلام مختلطة بصرخات لذة، مختلطة بصرخات موت، وراح يمر بينهم وكل واحد منهم قد اعتلى فتاة على الأرض أو حَشَرها واقفاً في لسانٍ ما وقد راح يضربها بلا رحمة. وما لبثت أن سكنت الأصوات وراح الصمت العظيم يرجع صداه في الفضاء. وارتمى الجميع على الأرض ساكني الأصوات، لا تدري من الحي فيهم ومن الميت! قليلاً قليلاُ قام الشباب ببطء من أماكنهم، وراح كل منهم يجر جثة رفيقته في وهن ويرفعها ليلقيها في النيل. راحت أصوات الجثث تتابع في مشهد مهيب وهي تلقى في النهر بعضها فوق بعضهم، وهم ينظرون إليها بأعين ميتة. واحد فقط منهم لم يتحرك من مكانه، كان جالساً على الأرض وقد امتلأت ملابسه بالدم، وأمامه فتاة على قيد الحياة، يمسكها من كتفيها وقد راحت تخرج دماً من فمها بلا توقف، ويرتجف هو رعباً وهو يصيح كأنما بلا وعي:

– خطأ.. ما يحدث خطاْ!

ثم ألقى بالفتاة من أمامه بقوة، وقام في حالته وجسده كله يرتجف فاتجه رأساً إلى فوزي، أمسك برقبته يكاد لا يراه وهو يكرر ما يقوله:

– خطأ.. ما يحدث خطأ!

وظل يقولها بلا وعي.. يكررها كثيراً ويداه تقبض على رقبة فوزي بكل قوة وبلا تهاون، راح جسد فوزي يتلوى، يحاول أن يتحرك أو يصدر أي صوت أو اعتراض، لكن قبضة الشاب على رقبته كانت تحجب عنه كل طاقة، فسرعان ما استكان وصمت إلى الأبد، وحتى عندما مات وانتهي ظل قابضاً عليه وهو يصيح بذات الكلمات. وهم يصيحون فيه:

– “حادثة”.. مات يا حادثة مات..

ولم يتوقف “حادثة” عند قولهم.. لم يتوقف إلا حين سقط على الأرض مغشياً عليه.

****

تناهت أخبار ما حدث إلى الكبير ومساعديه فقرروا عقد اجتماع عاجل في الليلة التالية، انقسم فيه الجمع إلى فرقتين، كانت الفرقة الأكبر في صف فوزي الذي لم يكن موجوداً بعد أن ألقيت جثته في النيل وسط أجساد فتياته الجميلات، والفرقة الثانية في صف “حادثة” الذي وقت محمر العين باهت الملامح وكأنه لم ينم لأسابيع. وقف الكبير في وسط الفرقتان وهو يشعر لأول مرة في حياته بالتردد، ثم سعل سعلته ذات الصدى أخيراً وقال ببطء:

– اتفقنا مسبقاً على أننا هنا جميعاً أحرار.. أحرار لفعل ما يحلو لنا وليس لأحدٍ منا التطفل على الآخر أو الاعتراض على ما يفعل..

ثم التفت إلى حادثة وقال:

 – واتفقنا اتفاقاً مشدداً على أن من يفكر حتى أن يضرنا ولو بأقل القليل، سوف ألقيه بنفسي في النيل، هذا سيكون جزاءه العادل..

عاد إلى مكانه، ثم علا صوته وهو يقول:

– ليس لدي اهتمام بمعرفة السبب الذي جعل حادثة يقدم على ما فعل، وليس لي اهتمامٌ بنواياه سواء كانت جيدة أو سيئة، المهم أنه قتل أحد إخوته من سائقي الدراجات النارية، وهذا يقع تحت عقاب أنه أضرنا جميعاً، ففوزي هو جزء منا جميعاً، والكل يعرف مكانته عند الجميع هنا..

ثم بجرأة بالغة:

– وعندي أنا شخصياَ..

نظر الجميع إلى حادثة وقد أدركوا مصيره المحتوم، من ناصر قضيته ومن خالفها، كلهم ذاهلون كأنهم أصبحوا لا يعرفون من يعادون ومن يناصرون بعد الآن! ثم راح صوت الكبير ينساب في سماء الفضاء كالقدر، هادئاً وهادراً في الآذان:

– وقد اضطررنا الآن.. تحقيقاً للعدل.. أن نلقي بجثة حادثة في النهر، ليلقى نفس جزاء زميله.

لم ينبس أحدٌ ببنت شفة، حتى هو نفسه ظل محدقاً في صمت، مستسلماً للشابين اللذين أخذاه من يده ومضيا به إلى حافة اللسان. اعتلى حافة اللسان، وأدرك أنه لا مهرب ولا رجوع فلم يقاوم، بل قال في هدوء عجيب:

– اتركاني.. سأقفز وحدي!

وتركاه فعلاً. ظل محدقاً في المياه ولم يلتفت حوله للحظة، ثم نظر خلفه وصاح بكل ما فيه من طاقة، ناظراً إلى زملائه الذين ناصروه:

– ما يحدثُ خطأ!

ثم ألقى بنفسه سريعاً، وسُمع صوت جسده يصطدم بالماء في قوة..

نظر الكبير إلى مناصري حادثة متوجساً، كان يتوقع أن يحدث شيءٌ ما من جانبهم في أي لحظة، ولكنهم لم يمهلوه، لم يمهلوا أحداً، بل أسرعوا بكل قوتهم يركضون نحو الفرقة الثانية وكأنما كانت صرخة حادثة نداءاً سرياً لهم، يحملونهم في قوة بالغة ويلقون بهم واحداً تلو الآخر في النهر. واشتبك الجميع في صراع دموي رهيب. راح الكبير يشاهد الأجساد حوله وهي تتطاير في الهواء، والدماء وهي تتناثر حتى طالت وجهه وملابسه، نظر إلى مساعديه نظرات خفية، ثم أسرعوا بالتسلل هاربين من حيث لم يدرٍ أحد، وكل واحد في سائقي الدراجات مشغول بمقاتلة خصمه وحمله إلى الماء. أخرجوا جميعاً سكاكينهم ومطاويهم المحفوظة تحت البناطيل، وصاروا يوجهونها مباشرة إلى الرقبة، فالآن لا أصدقاء ولا زملاء، لا ندماء شرب ولا حشيش، ولا شركاء مسابقات دراجات نارية، الآن إما أن تقتل وإما أن تقتل. راحت الآهات تعلو، تعلو ويرتفع صداها عظيماً حتى يكاد يبلغ الأفق، ولا أحد يسمع، لا أحد يرى تلك المذبحة التي تحدث على ظهر ذلك الكوبري.. كوبري القناطر التاريخي العتيق!

 

 

مقالات من نفس القسم