يقول بعض المُبرْمِجين، إن الذكاء الاصطناعى، الروبوت، سيتمكن من كتابة رواية مع حلول العام 2029، ثم هناك تلك الفكرة أنه فى وقت ما، ربما تسيطر الآليات، الروبوت، على كوكب الأرض.
أتحدث هنا عن الكتابة، وبرأيى، أنه، وبسبب ذكائه الاصطناعى تحديدًا، لا يستطيع الروبوت كتابة الروايات، الكتابة لا تعتمد على الذكاء وحده (خاصة الذكاء المُبرْمَج)، الكتابة تحتاج العقل، عقل به متاهات، ارتفاعات، وانخفاضات، يُخطئ فى حساباته، به مساحات من الغموض، المجهول، الغبار، الضباب، والأمطار، عقل يشقى بعقله أحيانًا، ليس ذلك الذكاء، النقى، المُسَطَّح، ثم هل يعرف الروبوت شيئًا عن ذكاء الروح، ذكاء القلب، فضلاً عن الروح والقلب ذاتهما؟.
يُقال إن الروبوت سيمكنه تأليف الرواية خلال دقائق، أو أقل، يستطيع أن يعرف الرواية التى تناسب كل قارئ، وما يثير حماسه واهتمامه، فيكتبها له، لكن، برأيى أن القارئ لا يريد رواية يتوقعها، يريد ما لا يخطر على باله، شيئًا يساعده فى اكتشاف نفسه، والعالم، فهو حتى عندما يختار لونًا ُيفضَّله من الروايات، سيتمنى وقتها أن يُفاجأ بشىء لا يتوقَّعه داخل اختياره هذا، وأين المتعة فى أن تقرأ لكاتب يكتب لمزاجك الشخصى، أىّ قارئ يرضى بهذا؟.
هل يشعر الروبوت، الذكاء الاصطناعى، بما يكتبه، أم أنه هنا يُقدِّم خدمة تم برْمَجته ليؤديها؟ حسنًا، الكتابة ليست تأدية خدمة للغير.
وبطبيعة الحال، فالكاتب لا يريد أن يكون مُتوَقَعًا، يريد أن يكتب شيئًا لا يتوقعه هو نفسه، أو القارئ، الكاتب لا يكتب لمزاج أحد، هو يتعامل مع روح بشريَّة باتساع الأراضى والسماوات، وفيها من كل ما فى الأراضى والسماوات، وأكثر، ويحاول أن يُقدِّم لهذه الروح، من خلال الكتابة، شيئًا يفوق كل شىء، وليس إعادة صياغة لبرمجيات، معلومات، بيانات، ومعادلات.
تعتمد فكرة الروبوت الكاتب على تزويده ببرامج معينة، وأفكار عن الشخصيات، الأماكن، أساليب السرد، بيانات، ومعلومات، ثم يقوم العقل الاصطناعى للروبوت بتحويل هذا كله، أو استخدامه لكتابة الرواية، لكن، هل البيانات والمعلومات والمعادلات الرياضية يمكنها أن تصنع رواية؟ تحتاج الرواية بدلاً من ذلك، روح وقلب، ومشاعر، طبقات داخل الروح، والقلب.
الذكاء الاصطناعى، الروبوت، يمكنه أن يُميِّز الرائحة، لكنه لا يشمُّها، يميِّز الطعم، لكنه لا يعرف التذوق، يلمس الأشياء لكنه لن يعرف الإحساس بها، الروبوت يمكنه أن يؤدى تعبيرات الوجه، لكن بلا شعور داخلى، يمكنه أن يكتب، ربما، لكن بلا روح.
أحب أن أرى إلى أىّ مدى يمكن أن يصل العالم، لا أضع سقفًا لأىّ شىء، وأثق أن العالم سيتقدَّم ويتطوَّر ويكون أكثر جمالاً، بغير حدود، وليس لدىّ شىء ضد الروبوت، فليعيشوا حياتهم، كاملة، يحصلوا على كل ما يمكنهم الحصول عليه، ليشاركوا البشر تجربتهم، العالم يتِّسع لكل جديد طالما ليس مؤذيًا، لكنى أرى الكتابة لعبة/ عمل/ تجربة/ حالة إنسانية، وليست ذكاءًا مُجرَّدًا، نظامًا مُبرمجًا، أو برنامجًا مُنظمًا، أيًا كان.
أفكر الآن فى روبوت يكتب الشِّعْر، وأبتسم.
ما هو الدافع الذى يجعل الروبوت يكتب رواية، أو قصيدة؟ فى الحقيقة ليس لديه دافع، حتى الآن على الأقل، فقط لديه أمر، برنامج، بيانات، معلومات، ومعادلات، الكتابة تحتاج دافع أقوى من هذا، أو أبسط.
إنه ذكاء تم تصميمه، والذكاء بالأساس ضد التصميم والتحديد، كأنك تُحدِّد لطائر مساحات فى السماء لا يتجاوزها، يكفى أن تعرف أن أذكى روبوت فى العالم لا بد أن يكون من تصميم شركة ما، الروبوت يُقدِّم نفسه للجمهور، بالتعريف عن اسم صانعه، وهذا يجعل الأمور تعود إلى حجمها الطبيعى، يمكنك أن ترى الروبوتات وهى تتفاخر وتتعالى على بعضها بعضًا باسم الشركة التى صنعت كلٍ منها، وعندها.. عندها يبتسم الذكاء البشرى الطبيعى.
تتطوَّر “صناعة” الروبوت، الذكاء الاصطناعى، بدرجة كبيرة، يقال إنه سيصل فى مرحلة ما إلى السيطرة على العالم، وكأن هذا الذكاء يُطوِّر نفسه، والأجيال الجديدة منه تلد بعضها بعضًا، وليست نُسخًا مُعدَّلة يصنعها البشر أنفسهم، وسيتم التخلص لأجلها من الأجيال الأقدم، وكأن العقل البشرى أيضًا سيتوقف عند نقطة ما، بينما يستمر الروبوت فى التقدَّم، رغم أن تطوُّر الذكاء الاصطناعى مرهون بتقدُّم العقل البشرى.
لا تأتى فكرة احتمالية سيطرة الآليين، الذكاء الاصطناعى، على كوكب الأرض، من أنهم قد يُطوِّرون أنفسهم فى اتجاهات تخصُّهم، ويحصلون على إرادتهم الحرة (أتمنى هذا لهم لو كان ممكنًا، وليكن ما يكون)، تأتى الفكرة من إمكانية خروجهم عن البرنامج الذى يتم وضعه بداخلهم، الخوف هو أن تتعطَّلْ تلك الآلة، وبدلاً من أن تتوقف، تقوم بدلاً من ذلك بالعمل فى اتجاه ما (دون إرادتها)، خوفنا لأننا نعرف أن تَعطُّل الآلة، أيَّة آلة، أو خروجها عن برنامجها، له نتائج كارثية، خطأ الآلة جنونى تمامًا، وقاتل.
لكن حتى وإن كانت أخطاء الروبوت مُدمِّرَة إلى أىّ حد، فالإنسان لديه قدرة أكبر على التدمير، يفعل هذا بتعمُّد، وإرادة كاملة، لا يوجد كائن لديه القدرة على التعمير والتدمير مثل الإنسان.
لا أحد لديه القدرة، والرغبة، أحيانًا، فى تدمير نفسه عدا الإنسان، ربما حتى فكرة أن الروبوت قد ينقلب يومًا على الإنسان، نابعة بالأساس من رغبة الإنسان الخفيَّة فى تدمير نفسه.
الروبوت، الذكاء الاصطناعى، ستبقى هذه مشكلته مع الكتابة، وللمفارقة، أنه كلما ازداد ذكاءًا تفاقمَتْ المشكلة، وابتعد أكثر عن فكرة خلق كتابة، “الكتابة بالذكاء المجرَّد”، هذه معلومة خاطئة داخل برنامج الروبوت، المفارقة، أنه لا يستطيع تصحيحها بنفسه لنفسه، تحتاج إلى بشرىّ يُدخلها فى نظامه.
ما هذا؟ برمجة، نظام؟ لا يؤدى هذا إلى كتابة لها روح.
عادةً ما يتم التخلص من الروبوت القديم لصالح الأحدث، الأذكى، وهذا ليس موجودًا فى الإنسان، فالإنسان الأحدث ليس بالضرورة أذكى من القديم، حتى وإن كانت لديه معرفة أكثر، معلومات، بيانات، فالذكاء ليس بيانات، معلومات، وأرقام.
الروبوت يتم تصنيعه بالدرجة الأولى لتفادى الخطأ الإنسانى، والضعف الإنسانى، الروبوت لا يعرفهما، لا يفهمهما، حتى لا يتسامح معهما، وهما أساس فى التجربة الإنسانية، وفى الكتابة.
لا يمكن أن يتساوى التفاعل مع العالم بالروح والقلب، مع الحصول على هذه التفاعلات فى شكل معلومات وبيانات.
الذكاء الاصطناعى، يفهم العدل، والحب، والرحمة والصداقة، باعتبارها كلمات مجردة، دون مساحة لوجهات نظر أخرى، لا يعرف مثلاً روح العدل، لن يعرف أن الخير قد يكون فى ظاهره شرًا، والعكس، حتى لو تمت برْمَجَته بوجهات نظر مختلفة، ستظل محدودة، أحادية، برؤية ما تحمله تلك البرامج، أين الإرادة الحرة هنا؟
الروبوت لا يدرك الأرواح المتعددة للفكرة الواحدة، والأفكار المتعددة للروح الواحدة.
أن يحاول الذكاء الاصطناعى تحويل البيانات والمعادلات والمعلومات إلى رواية، يشبه ذلك محاولة تحويل التكنولوجيا والعقل الإصطناعى إلى إنسان.
لا أحد يعرف إلى أين يمكن أن يصل الروبوت، لكن، لا أتوقَّع أن تكون لديه روح يومًا ما، وهذا لا يعيبه، فليس مطلوبًا منه أن تكون لديه روح، وطالما لم يحصل عليها، فلن تحصل “كتابته” على روح، طالما ليس لديه قلب، فلن يكون لكتابته “قلب”.
يمكنك أن تصنع الضوء، لكنك لن تصنع النهار، يمكنك أن تصنع الظلام، لكنك لن تصنع الليل.
يمكننى، على أيَّة حال، تخيُّل مكتبة عامة، وفيها قسمَين، أحدهما لروايات كتبها بشر، والآخر لروايات كتبها روبوت، يمكننى تَخيُّل كم ستكون الرواية التى كتبها بشرىّ حقيقية، وحيَّة.
أفكر أنه بعد ثلاثين عامًا، ربما أقل، أو أكثر، سيقرأ هذا المقال روبوت يكتب القصص والقصائد، ويتساءل عن الروح التى أتحدث عنها هنا، القلب الذى أتحدث عنه، وعندها ربما يكون الروبوت مستعدًا أن يدفع حياته كلها، أن يُدمِّر العالم كله، أو يُعمِّره لأجل أن يكتب قصيدة واحدة، قصة واحدة، مثل تلك التى يكتبها إنسان “جائع مُتشرِّد حافى”، يراه الروبوت هائمًا فى الشوارع، يظلُّ هذا الروبوت يتساءل عمَّا يملكه هذا البشرى، ما سِرُّ هذا الإنسان؟
وسط هذا كله، أحب أن أنظر إلى العالم من خلال فكرة: “كل شىء ممكن”، رغم قناعاتى الشخصية عن الشىء نفسه، أحب أيضًا أن يحصل كل فرد على فرصته ليُثبتَ ما هو قادر على تحقيقه.