لم أفقد يومًا عزيزًا.. واليوم أفقدتني الحرب أكثر من 40 ألف عزيز

فلسطين ناجي العلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هبة الله شاهين

يقولون إن من يختبر شعور فقد شخص عزيز عليه، هو من يتألم كلما رأى أحدهم قد فقد حبيبا أو صديقا أو أخا بالموت أو الهجر أو السفر والاغتراب، لكني أؤكد لكم اليوم أنني لم أفقد يومًا عزيزًا عليّ، حتى عندما مات والدي، وهو لم يكن يومًا عزيزًا ولا حبيبًا ولا صديق، لم أحزن ولم اختبر معنى الفقد حينها، فالله برحمته لم يُرد أن يختبرني فيمن أحب وأتمنى دائمًا ألا أفقد أي منهم، بل أدعوه باستمرار أن أكون أول المفقودين بينهم، وبالرغم من ذلك وخلال عام واحد فقط، أتت حرب غزة لُتفقدني أكثر من 40 ألف عزيز!  فأحزن، أغضب، ألعن عروبتي، ثم أبكي وأنا أسير وحدي في الشارع ليلاً، وأقول لنفسي ربما هذا المعنى الأكبر للفقد، أن تحزن على شخص لم تلتق به مرة في حياتك، فصادفك رقمًا في شريط الأخبار العاجلة على شاشة التلفاز.

قلوب من حجارة وعيون زجاجية

يقول الكاتب والأديب الفلسطيني إبراهيم نصر الله “كان يلزمنا قلوب أكبر، كي تتسع لكل هذا الأسى”، ربما كان يتحدث عن قلب إنسان عصره هو، أما إنسان العصر الحالي، فيحتاج إلى قلوب من حجارة وعين زجاجية، كي لا يرى ولا يشعر ولا يبكي، حينما يُمسك بهاتفه الذكي، يفتح حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، فيقف أمام مقطع فيديو لخمسيني يُمسك بصندوق خشبي صغير، جمع فيه أشلاء ابنه الأكبر بعد أن تفحمت بفعل القنبلة الموجهة أمريكية الصُنع من نوع جي بي يو 39.

ربما هذا ما دفعني لكتابة هذه الكلمات الآن، لا أعلم ماذا أقول وهل لكلماتي معنى بالأساس أم لا، كنت أتصفح حسابي الشخصي على فيس بوك لمتابعة آخر أخبار المجزرة الإسرائيلية التي ارتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلية على مسجد في منطقة دير البلح بوسط قطاع غزة، فاستوقفني هذا الفيديو، لم أتبين للوهلة الأولى أن ما يُمسك به هذا الرجل الخمسيني هي أشلاء شاب، كان قبل دقائق يضحك ويبكي يتحدث عن أحلامه وعما يريد أن يفعله بمجرد أن تنتهي الحرب التي لم تتوقف رحاها عن دهس أرواحهم وأراوحنا لعام كامل، وصُدت أكثر حين علمت من عنوان الفيديو أنه والده، يتحدث للصحفيين بأنه لم يتبق من ابنه الأكبر إلا بقايا اللحم المحترق وقطع من ثيابه، فبكيت وغضبت ولعنت عروبتي، واختبرت من جديد شعور الفقد للمرة الـ41 ألف!

كل ضحايا الحروب جسد واحد

يصف الفيلسوف والروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس الإنسانية بكتلة طين كبيرة، تمثل هذه الكتلة كل واحد منا، ما يعني أننا جميعًا شخص واحد وهذا هو جوهر الإنسانية الحقيقي، الذي لم نختبره إلا بعد أن وقعت منطقتنا في حروب وصراعات قد تستمر لسنوات قادمة، فأصبحت أم الشهيد أمي وأخت الشهيدة أختي، وصديق الشهيد صديقي، دون شعور مني أصبحت جزءً من الحكاية ولكي موقعي من الصورة، كل هذه العائلات التي محتها إسرائيل بالكامل من السجل المدني أقاربي، لتأتي الحرب على لبنان لتُكمل على ما تبقى، فتتسع رقعة الحزن أكثر، ويتحول كل شخص منا جسد بلا روح يبحث عن معنى لما يدور حوله، يبحث عن طريقة مناسبة ولائقة للحزن والقهر والفقدان التدريجي لقيمة الحياة والنفس البشرية.

كيف يعيش الإنسان في زمن الحرب؟

قبل عدة أيام شاهدت مقطع فيديو مُسجلا للفنان المصري الراحل محمود ياسين، يطرح على نفسه هذا السؤال، كيف يعيش الإنسان في زمن الحرب والصراعات السياسية والأزمات الاقتصادية، وهل بات للحب والسلام بيننًا موطأ قدم، بعد أن نجحت الرأسمالية في نزع رداء الإنسانية عنا رويدًا رويدًا؟ هل أصبح أحد منا قادرًا على قراءة قصة حب أو رواية رومانسية، بدلاً من البحث عن عدد المفقودين تحت ركام منزل في خانيونس أو أنقاض بناية في شارع الليلكي بالضاحية الجنوبية لبيروت؟ أو تفقد أسعار الطماطم والبطاطس، وإلى أين ذهب سعر لتر البنزين اليوم؟ أظننا نفقد مع ما فقدنا إنسانيتنا وكرامتنا وما ميزنا به الله عن سائر المخلوقات.

أحاول البحث عن إنسانيتي التائهة في لحظة بكاء أو كتابة بعض الكلمات المُبعثرة غير المفهومة، أعلن فيها عن غضبي وغضب جيل بكامله، ذاق مرارة الخذلان والخزي لسنوات، داخل بلاده وخارجها، كره كونه عربيًا ولعن حظه الذي جعله يوُلد حنطي اللون بعيون بُنية يتحدث اللغة العربية، ولم يصطفيه الله بين خلقه ويخلقه بعيون زرقاء وشعر أصفر، يتحدث الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية فتقوم الدنيا ولا تقعد إلا اصطدم إصبع قدمه الصغير في كرسي الأنتريه، أو ذهب للسوبر ماركت فلم يجد ما يكفيه من لفائف مناديل التواليت!

بعد الحرب سأفعل وأفعل

أقولها بصدق وعن ثقة كاملة، غيرتنا الحرب جميعًا، فأنا التي لم تترك مصر قط، ولا تريد مصر أن تتركها، آلمتني الحرب وصدعت رأسي أصوات القنابل والمدفعيات وصوت طائرات الاستطلاع “الزنانة”، أنام في الليل وأحاول أو أضع نفسي في ركن من سرير طفل فلسطيني أو طفلة لبنانية أو سورية، استمع لأصوات القصف وأعد أنفاسي، لعل الصاروخ أو القنبلة القادمة هي من نصيب بيتي وسريري وعائلتي.

 لا أخفيكم سرًا، أنا بنت العالم الثالث مُتحدثة العربية، أكتب هذه الكلمات من داخل إحدى المدن المصرية، الآمنة مؤقتًا،  لا تحلق طائرات الاستطلاع فوق رأسي ولم أجرب أبدًا أن استيقظ وركام بيتي عالقًا فوق صدري، فقط صوت بائع الأنابيب يخترق زجاج نافذة الغرفة بين الحين والآخر، لكنني معكم أنتظر يوم تنتهي الحرب ويسكت صوت المدافع والطائرات، أنتظر أن تعود الحياة لما قبل السابع من أكتوبر، حتى وإن كانت غير وردية ولم تكن يومًا وردية على أرض عربية.

 

مقالات من نفس القسم