هيثم الورداني
هل القراءة فعل فردي؟ قراءة حدث مثلًا، أو قراءة مصير، أو قراءة أرشيف. لكن أيضا قراءة كتاب، أو قراءة قصيدة، أو قراءة رواية.
هل من يقوم بكل هذه الأشكال المختلفة من القراءة هو الفرد؟ قد يمكن صياغة أحد شعارات التسعينيات غير المكتوبة آنذاك على النحو التالي: إما الفردية وإما الأيدولوجيا. أي أن التمسك بالحس الفردي هو وحده ما ظننا أنه يعصمنا من الإيدولوجيا. وفي اللحظة التي ينفلت خيط الفردية من بين أيدينا ستتخطفنا الأيدولوجيات والهويات. فعل القراءة وفقا لهذا الارتياب التسعيني الأصيل يعني ضرورة الانطلاق من أسئلة فردية، وإلا تحوّل إلى قراءة أيدولوجية تَعمَى عن ما تحاول قراءته. لم يكن هذا الشعار غنائيا، بل كان يرد على متطلبات لحظة تاريخية معينة، لكن الزمن قد تجاوزه بالتأكيد، وأضحى بحاجة ماسة إلى مراجعة جذرية. فالفردية نفسها يمكن أن تصبح أيدولوجيا، بل هي أيدولوجية الليبرالية الجديدة بامتياز. هي نوع خبيث من الأيدولوجيا يتمثل في تحوّر اللا أيدولوجيا نفسها إلى أيدولوجيا شفافة، لتصبح أكثر أنواع الأيدولوجيات ضررًا.
لكن لنعد إلى فعل القراءة. هناك ذاتية تتشكل بلا جدال في فعل القراءة، مثلما أن هناك ذاتية تتشكل في فعل الكتابة، لكن الأكيد أن لا القراءة ولا الكتابة هي أعمال فردية، ولا حتى جماعية. الذاتية الفاعلة في فعل القراءة هي نتيجة وليست نقطة بداية. تنمو وتتشكل عبر تعقيدات وانكسارات موضوعها، وليس خارجه. نحن لا نبدأ القراءة بذوات مكتملة، ونسير معها ومع تقلباتها مطمئنين إلى أننا لن نسقط في فخ الأيدولوجيا، ما دامت اهتماماتنا وأسئلتنا تنطلق من المنظور الفردي. بل نحن نصل إلى هذه الذاتية عبر فعل القراءة، أو بالأحرى ننتجها عبره إنتاجًا. غير أن ما نصل إليه ليس ذاتًا فردية يمكن أن تخص شخصًا أو حتى جماعة، ما نصل إليه هو ذات غير فردية، وغير منطبقة على نفسها. القراءة ليست تأويلًا حرًا للواقع، ولا توثيقًا لسيرة المعرفة في طريق إحكام قبضتها على مادة بحثها.
القراءة هي عملية أشد راديكالية لأنها عملية إنتاج لذاتية متناقضة، غير فردية، وغير جماعية، بل وغير إنسانية أصلًا، لأنها لا تنفصم البتّة عن الموضوعية التي تسري فيها. هي تحديدًا مواطن خلل هذه الموضوعية، ونقاط تصدعاتها الجدلية، أي النقاط التي يمكن فيها أن تنكسر وتتغير. ما قد يحمي إذن من الأيدولوجيا ليس إعادة تنظيم الواقع وفقًا لمبدأ آخر مهيمن، الفردية على سبيل المثال، وإنما العمل الشاق لتلمّس شقوق هذا الواقع. والقراءة ما هي إلا برنامج عمل لتفعيل أو إنتاج مثل هذه الشقوق والتصدعات.
علم النسيان
تأتي الكتابة دوما ومعها أكثر مما وُضِع فيها. فهي تفيض عن نفسها، وتحمل معها شيئا آخر غير ما كان يصبو إليه من كتبوها. هذا الفائض الذي تُنتجه الكتابة، يجعلها لا تستقر في أي تعريف محدد لوظيفتها. فهي تنتج ما يفيض عن كونها توصيلًا لمعنى، أو تحقيقًا لفكرة، أو توثيقًا لسيرة، أو غيرها من الوظائف الممكنة. حتى الكتابة التي تفهم نفسها بوصفها كتابة حُرة ومُنزهة عن أية أغراض تُنتج هي الأخرى ما يفيض عن تلك الحرية المجردة. الكتابة بهذا المعنى تمتص أي غاية خارجية، أو أي فكرة مسبقة عنها، حدَّ تجاوزها.
بكلمات أخرى، الكتابة الحقيقية هي ما يحدث من وراء ظهر الكتابة. وهذا الفائض الذي يحدث من وراء ظهر الكتابة هو ما تنتجه وهي تظن أنها تحقق ما تصبو إليه، بينما هي في الحقيقة تقع في تناقضات غايتها، لكنها لا تعرف ذلك بعد. وعندما تعرف ذلك ستفهم أن ما نكتبه لا يمكن أن يظهر حقًا سوى في ثنايا تناقضات الكتابة، وليس في الصورة الكلية التي تسعى الكتابة لرسمها له. لنأخذ على سبيل المثال حالة مؤرخ يسرد أحداثًا ووقائع وهو يظن أنه بذلك يرسم ملامح مكتملة لروح العصر الذي يبحث فيه، لكن هذا الروح لا يختبأ تحت طبقات الأحداث التاريخية في انتظار أن تكشفه كتابة المؤرخ فتكتمل مهمتها، وإنما هو مبثوث في تناقضات كتابة تلك الأحداث التي لا يمكن حلها نهائيًا. روح العصر الذي يريد المؤرخ معرفته لا يتجلى عبر الكتابة، كأنه منفصل عنها، وإنما هو شقوق تلك الكتابة نفسها، وهو ما لا يعرفه المؤرخ بعد.
لذلك لا يمكن لكتابة حقيقية أن تقترب من موضوعها، إلا عندما تنسى نفسها، وتترك نفسها تغرق في تفاصيل ما تسرده، وتناقضاته التي لا تنتهي، على أمل أن تعود وتتذكر نفسها، فترى أنقاضها، وتدرك أن المعرفة التي تبحث عنها لا توجد سوى في التناقضات التي تنتجها. روح العصر الماضي، الذي تبحث عنه كتابة المؤرخ، لا يوجد سوى في تلك المسافة التي شقتها الكتابة، عبر تناقضاتها، في روح عصرها هيّ، أو بالأحرى هو بالضبط تلك المسافة. لكي تفيض الكتابة عن نفسها إذن لابد أن تنسى نفسها قليلًا، حتى يمكنها فيما بعد أن تتذكر نفسها. ولأن النسيان هيهات أن يخضع للإرادة الواعية، فإنه يستحيل تقريره مسبقًا قبل الشروع في عملية الكتابة. هو قد يحدث، أو لا يحدث.
وبالتالي لا يمكن للكتابة أن تتنبأ أبدًا بفائضها. عليها فحسب أن تكتب وتكتب وتكتب، حتى يحدث، وقد لا يحدث، أن تتذكر نفسها، فتنتبه متأخرة إلى التناقض الجوهري بين ما تكتبه، وبين ما كانت تظن نفسها أنها تكتبه، لتدرك ضرورته بأثر رجعي. الكتابة بهذا المعنى لا تصوغ معرفة مسبقة في كلمات وجمل مناسبة، وإنما هي تمارس ما لا تعرفه بعد، لأن كل ما سبق لها معرفته لا يكفي أبدًا، ولابد أن تنساه لكي تكون كتابة حقيقية. هذا الذي لا تعرفه الكتابة بعد، بينما هي تمارسه بالفعل، هو فائضها، هو استحالتها، هو عدم انصياع موضوعها لها، هو تناقضها مع نفسها. الكتابة هي معرفة مؤجلة دومًا، ولا يمكن مراكمتها. تنسى نفسها، ثم تعود وتتذكر، لتعرف نفسها بأثر رجعي. ولا يمكنها أن تعرف نفسها سوى هناك حيث تفيض عن نفسها.
ضدّ
قصيدة ضدّ من لـأمل دنقل هي إحدى قصائده المتأخرة، التي ضمها ديوانه الأخير أوراق الغرفة رقم 8. والغرفة المعنية هي، كما هو معروف، غرفة معهد الأورام التي انتقل إليها بعد إصابته بالسرطان، وتوفي فيها عام 1983. القصيدة قصيرة، من ثلاثة مقاطع. تبدأ بمقطع عن هيمنة اللون الأبيض على كل تفاصيل المستشفى، واختناق الشاعر تحت وطأته، ثم تساؤله إذا ما كان سبب ارتداء المعزين للون الأسود يرجع لكونه هو لون النجاة من الموت. وتنتهي القصيدة بمقطع عن توزّع حياة الشاعر بين اللونين الأبيض والأسود، ولون ثالث، هو لون الحقيقة الذي يراه في عيون أصدقائه العميقة، ويصفه بأنه لون تراب الوطن. وبين المقطعين يأتي المقطع القصير التالي، والذي يستحق التوقف عنده قليلا:
ضِدُّ منْ؟
ومتى القلبُ – في الخَفَقَانِ – اطمأَنْ؟
تُرى ما المقصود بالسؤال الأول؟ وهل يعود على طرف بعينه أم على علاقة تضاد؟ ربما يكون من المفيد النظر في الأسطر الأخيرة من المقطع السابق. سنجدها تتساءل عن سبب اتشاح المعزين باللون الأسود، وتقول:
هل لأن السواد،
هو لون النجاة من الموت،
لون التميمة ضدّ الزمن؟
هل يتصل التضاد في المقطع الثاني إذن بالتضاد الذي ينتهي به المقطع الأول؟ بمعنى، هل يتقدم الشاعر هنا بسؤاله خطوة تالية وكأنه يقول: ضد من يحتجّ السواد؟ ضد الزمن أم ضد اللون الأبيض المتجانس أم ضد المرض؟ هل سؤال “ضد من؟” بهذا المعنى هو سؤال بلاغي، أقرب إلى كونه كناية عن الكثرة أو عن تعدد الأطراف التي يجب الاحتجاج ضدها؟ أي: ضد من أم من أم من؟ أم لعل السؤال هو سؤال استفهامي، يستعلم عن علاقة تضاد أخرى غير تضاد السواد مع البياض؟ علاقة تضاد لها أطراف أخرى ينبغي الاحتجاج عليها غير الموت؟ لكن ما هي علاقة التضاد الأخرى هذه؟ لا يخبرنا الشاعر.
كل ما يمكننا التفكير فيه، هو أن السؤال الآن لم يعد يقتصر على تحديد الطرف الذي تحتجّ القصيدة عليه فحسب، بل أضحى يشير أيضًا إلى علاقة التضاد نفسها التي تُنتج المواقفَ المتصارعة والمتضادة. أي أن تسمية طرف بعينه لم يعد الهدف الوحيد للسؤال، فهناك ما هو أهم، ألا وهو الشرط الاجتماعي؟ الذي يُنتج الأطراف التي تحتج القصيدة عليها.
لا يمكن ترجيح أحد الاحتمالين، ولا يمكن حتى الاطمئنان إلى غياب احتمالات أخرى ممكنة للسؤال، فالشاعر يكتفي بصيغته المقتضبة والمكثفة للغاية، إلى أن يكاد السؤال يتوقف عن أن يكون سؤالًا، ويستحيل إلى صرخة قوية، تظل تتردد في جنبات القصيدة. صرخة يختلط فيها الاحتجاج ضد الموت بالاحتجاج ضد الشرط الاجتماعي المهيمن. صرخة تفيض عن كل المعاني التي نحاول تسكينها فيها.
لم يفهم دنقل القصيدة السياسية أبدًا بوصفها جنسًا أدبيًا خالصًا. فبالنسبة له لا توجد سوى قصيدة واحدة. هذه القصيدة قد تحمل رؤية اجتماعية، وسياسية، وطبقية، وشخصية. وقد تسكنها لحظات وجودية، وأخرى تاريخية، وثالثة شخصية. لكن لا يمكن الفصل ما بين كل هذه اللحظات والمستويات. القصيدة التي بين أيدينا هي مثال جيد على تلك الوحدة الشعرية المقترحة. فهي تبدأ بمقطع شخصي وجودي، وتنتهي بما يمكن وصفه بموقف اجتماعي سياسي متمثل بفكرة الوطن وترابه. ولنترك جانبًا الآن الغنائية التي يجلبها ربط السياسة بتراب الوطن، ولنبقى مع ملاحظتنا الأساسية حول القصيدة، وهي أن علاقة التضاد المبثوثة فيها هي علاقة يتحد فيها الجمالي بالسياسي. علاقة التضاد هذه تتصل أيضًا بالطريقة التي يفهم بها دنقل عمل الشاعر.
فهو يرى أن عمل الشاعر يتمثل في الأساس في الرفض. لكن الرفض هنا له معنى أكثر جذرية من المعارضة السياسية التقليدية. فالشاعر ليس معارضًا سياسيًا بالمعنى البسيط والمتمثل في تدبيج الشعارات، فهذا هو الشاعر الذي يُنكره دنقل، والذي يكتب قصائد سياسية. وإنما الشاعر الذي يبحث عنه دنقل هو من يرفض الواقع بوضعه القائم، بكل سياساته وجمالياته المهيمنة، ويكتب قصيدة لا ينفصل فيها السياسي عن الجمالي.
لنعد الآن إلى المقطع الثاني في قصيدتنا، ونقرأ السطر الأخير المدهش في هذا المقطع: ومتى القلب – في الخفقان – اطمأن؟ مرة أخرى نقف أمام سؤال. لكنه هذه المرة سؤال استنكاري واضح. فالمعنى المقصود هو نفي أن يكون القلب قد اطمأن يومًا وتوقف عن الاحتجاج. أي أن كل نبضة، وكل خفقة هي صرخة احتجاج، أو تعبير عن احتجاج لا تنتهي أسبابه. الحياة بهذا المعنى هي الخفقان الذي يكسر الاطمئنان، ويعكر صفو اللون الأبيض القاتل. لا يوجد وصف أبلغ من هذا السؤال لعمل النفي. فالنفي وفقًا له موجود حتى في خفقة القلب. كل نبضة هي نبضة تضاد، هي خفقة تنفي وتحتج وتسعى إلى التغيير. وهنا لا يسعنا سوى أن نستعيد أصداء السؤال الأول، “ضدّ من؟”، فنسمع في خفقان القلب صرخة احتجاج ضد كل الشروط المهيمنة وما تفرزه. السؤال الثاني يلد السؤال الأول من جديد. فتصبح كل خفقة، كل نفَس، كل نبضة صرخة احتجاج لا يمكن تسكينها في خبر متعين. تصبح ضدًّا خالصًا. نفيًا خالصًا.
قصيدة دنقل هي قصيدة عن التضاد، لكن شتان بين التضاد الذي تتحدث عنه القصيدة، وذلك التضاد الميت والمحايد. الأبيض والأسود هنا، وهما المثال التقليدي للتضاد المحايد، المنعدم التبعات، أصبحا الآن جزءًا من تضاد أبلغ، وله تبعات. الأبيض والأسود لم يعودا مجرد لونان متضادان من الخارج، وإنما أضحيا مجالًا مغناطيسيًا متوترًا، تقدح فيه شرارة الرفض، ويقود إلى سؤال الحقيقة. قد يكون ما تقوله لنا القصيدة هو أن علاقة التضاد سابقة على الأطراف المتضادة، بل وقد تكون مؤسِّسَة لها. قد يكون ما تقوله لنا هو أن علاقة التضاد لا تحتاج إلى سبب خارجي لكي تتوجه بالاحتجاج ضده. فالحياة هي احتجاج متواصل ضد نفسها، هي مراجعة مستمرة لعلاقاتها الحاكمة، ورفض موجه ضد وضعها القائم. حتى الحياة العارية، المحفوظة في غرف المستشفيات، والمدارة من قبل الأطقم الطبية، لا تقع خارج علاقات التضاد والنفي. فهي تستند إلى قلق أو تناقض أساسي، لا يمكن تسكينه، ولا يمكن حله حلًا نهائيا. القلب الذي يخفق بالحياة العارية هو لا طمأنينة أولية وليس مجرد إشارة تثبت الحياة. ما تقوله لنا القصيدة هو أن خفقان القلب لا يقبل الحياة كما هي، بل يحتج ضدها، يثبتها وينفيها معا، يكسر استمراريتها المتجانسة بلاطمأنينته الضرورية. ولعل التقاط هذه الخفقان الساري في الأشياء هو عمل الشاعر كما فهمه دنقل.
الحقيقة
كنت جالسًا في غرفتي، أقلّب الجمل يمينًا ويسارًا، ثم أعيدها إلى ما كانت عليه، عندما دخل عليّ وليد طه. وقف في وسط الغرفة ينظر إليّ، ولم ينبس بحرف. ثم انهارت فجأة قوائمه، وأقعى على الأرض. كنت قد توقفت عن الكلام مع البشر الفانين في ذلك الوقت، وأصبحت أتكلم فقط مع الموتى، ومع من لم يولدوا بعد. أذهب كل يوم إلى العالم السفلي، وأعود والدماء تعلو ملابسي، ثم أجلس لأكتب ما رأيته. لكن مهمتي لم تكن سهلة. إذ كيف يمكن منح صوت لمن لم يعد له لسان؟ كيف يمكن استعادة كل رهانات الماضي الخاسرة؟ كيف يمكن تعويض الأثمان الباهظة التي دُفعت من أجلها؟ وكيف يمكن تمرير كل تلك الخبرة لمن سيرثون جراح الماضي التي لا تلتئم، دون أن يعرفوا أسبابها؟ يومًا وراء يوم يتأكد حدسي أن الفانين حولي ليسوا سوى أرواح ميتة، أسيرة لحظتها الراهنة، ولا تبصر ما هو خارجها.
ويومًا وراء يوم يزداد شقائي تحت وطأة مهمتي الصعبة. فأراوح مكاني. أغضب تارة، وأعظ في الناس تارة أخرى. إلى أن دخل غرفتي وليد طه في ذلك اليوم، فوجدت نفسي أترك كل ما بيدي جانبًا. في تلك الأيام التي تشاركنا فيها الغرفة لم أكن أستطيع الكتابة. كنا نتبادل النظرات الجانبية الخاطفة، ونتحاشى النظرات المباشرة. وأضحت غرفتي جُحرًا غارقًا في الصمت، نتبادل الاستلقاء في أركانه دون أن يقترب أحدنا من الآخر. حتى نهض وليد طه ذات يوم فتبعته. وفي رحلتنا تلك بقي هو على حاله صامتًا، في حين بدأت أنا أتعلم الكلام من جديد. ما تعلمته منه هو أن أكف عن الصدق، وأن أقول الحقيقة.
الكتابة الصادقة هي كتابة تظن أن بإمكانها أن تمسك بالواقع وتصوّره كما هو عليه. كتابة مرت بخبرة فارقة، وتريد كتابتها كما وقعت. لكن ما تتعلمه الكتابة عبر أكثر الطرق وعورة هو أن الخبرة لا تنفصل عن كتابتها. الخبرة لا تحدث أولا، ثم تأتي الكتابة لكي تصورها كما حدثت. بل الكتابة هي ما يجعل تلك الخبرة المُعاشة خبرة بالأساس، لأنها تخلق ضرورتها بعد أن كانت حدثًا طارئًا. الكتابة تريد أن تقول شيئًا عن خبرة متفردة، فتقع في تناقض بين خصوصية الخبرة وعمومية اللغة، وما أن تتجاوز هذا التناقض، حتى تقع في تناقض بين حاضر الخبرة وتاريخها. وهكذا، تسير الكتابة من تناقض إلى تناقض، وما بينهما توسّط. لتكتشف أن الخبرة التي تسعى إلى الإمساك بها لا تعيش سوى في لحظات تناقضها مع نفسها تلك، وتوسّط اللغة فيما بينها، وهذه حقيقة الخبرة التي لا يمكن معرفتها من دون اللغة.
على الكتابة إذن أن تجرب أن تقول ذلك عن الخبرة، أي أن تقول حقيقتها، باختصار أن تقول الحقيقة. لكن الحقيقة هنا ليست مضمونًا، وليست موجودة سلفًا، والأهم أنها لا يمكن أن تنفصل عن فعل قولها، ولا مكان لها خارجه. الحقيقة هي تحديدًا عمل اللغة المضني، وليست ما يمكن تمريره عبر اللغة. عملها الذي يسير بها من تناقض إلى آخر.
أن نقول يعني أن نخرج عن ذواتنا ونضع أنفسنا قيد تصرف وفهم الآخر لما نقوله. وأن نقول الحقيقة يعني أن نلجأ إلى الحيوان، إلى الجماد، إلى الآخر، إلى كل ما هو غير إنساني. نلجأ إلى المجاز، إلى عمل اللغة. إذ لا يمكننا أن نقول الحقيقة وحدنا، اعتمادًا على أنفسنا. لا يمكننا قول الحقيقة سوى في جماعة. جماعة من الأحياء والموتى، من البشر والحيوان. جماعة تتحدث بلسان مقطوع. أما الصدق فهو مفرط في إنسانيته. لا يحتاج إلا إلى قوة العزيمة. الصادق لا يحتاج إلى أحد لكي يصدق. لا يحتاج إلا إلى نفسه، ولا يعتمد إلا على قوته، وصلابة إيمانه بنفسه. لكي نقول الحقيقة لا بد من أن ينطق الحجر، وليس ذلك مجرد “مجاز”.
الحجر الناطق ليس خيالًا، وليد طه الذي أصبح حمار وحش بحجم تيس ليس كذبة، بل كلاهما جزء من جماعة تقول الحقيقة، لأن قول الحقيقة يغرّب الواقع عن نفسه على أمل أن يخلصه من اغترابه. هذا هو الواقع الذي يقف الصادق أمامه ويظن أن باستطاعته أن يمسك بحقيقته من دون مجاز. فالحقيقة بالنسبة له نقية طاهرة، لا تشوبها شائبة، يظن أنه سيصل إليها مباشرة بضربة واحدة، دون المرور عبر عمل اللغة المضني. أما من يقول الحقيقة فيعرف أنها مشوهة حد الجمال، مليئة بالندوب، لأنها جماعية، ومجال تفاوض دائم. يعرف أن الحقيقة هي نقيض الصدق، وليست صنوه.
قول الحقيقة هو عمل الحِداد الذي يستلزمه كل ذلك الخراب الذي يتراكم يوما وراء يوم. لذلك من الأنزه دائمًا قول الحقيقة بدلًا من الصدق. فالصادق لا يقول إلا نفسه. الصادق يختال بقدرته على الصدق، وعدم الكذب. عندما يصدُق يقول لسان حاله مزهوًا: انظروا إليّ، انظروا إليّ، لقد استطعت ألا أكذب. كلكم تكذبون، أما أنا فلا أكذب. هؤلاء من يصدقون أنفسهم، ويصدقون ما يفعلون، ويصدقون ما يقولون، هؤلاء المتماهون مع الحقيقة، هؤلاء المثاليون، هؤلاء الأرواح الجميلة، هؤلاء الشهداء، هؤلاء الذين لا يتحدثون إلا مع أنفسهم، هؤلاء الذوات النقية، هؤلاء الطهرانيون، هؤلاء الناجون من الدنس، هؤلاء الذين لا آخر لهم، هؤلاء الذين لا يحتاجون آخر لكي يقولوا شيئًا، هؤلاء الذين يحلون تناقضات واقعهم بسكنى مدن فاضلة مغلقة عليهم، كل هؤلاء لا يقولون الحقيقة أبدًا. الكتابة التي تنكر قول الحقيقة هي كتابة صادقة، والكتابة الصادقة هي كتابة مثالية، مزهوة بنفسها، لا تريد سوى أن تثير إعجاب من يقرأها. وهناك الكثير من الكتابات الصادقة حولنا اليوم، وقليل من الكتابات التي تريد قول الحقيقة.
أنا مدين بالكثير لرحلتي مع وليد طه التي لم تنته بعد. مدين للقاء لا أعرف من خططه. مدين للغة سمحت بعودتي إلى الكلام مع الفانين، مع هؤلاء الذين ولدوا، ولم يموتوا بعد. لأن الكفّ عن الكلام معهم جعلني بلا أصدقاء أو حلفاء. الكفّ عن الكلام مع الفانين جعلني مجرد صادق آخر. لكن العودة للكلام مع الفانين لا تعني أني توقفت عن الكلام مع الموتى ومن لم يولدوا بعد، بل تعني أن اللغة الوحيدة الممكنة للكلام مع أقراني الفانين هي لغة يجب أن تمر عبر طبقات الخسارة والفقد اللانهائية، لتعود مشوهة حدّ الجمال.
شَكَلَ
الأَشْكَل في اللغة هو ما اختلط شكلُه بآخر. ماءٌ أشكَلٌ على سبيل المثال هو ماء اختلط بسائل آخر. ورجل أشكل هو رجل خالط بياضَ عينيه الاحمرارُ. ومن جذر شَكَلَ نفسه نمت المشكلة والشاكلة. هناك إذن صلة قرابة مثيرة للانتباه في العربية بين مفهومي المشكلة والشكل. كيف يمكن فهم هذه القرابة؟ إذا كان الشكل يعني الظهور، أو على نحو أدق، يعني وجود علاقة ناظمة للحظات الظهور المتعددة، أي الشاكلة، فإن المشكلة هي التباس شكل الظهور، وبالتالي فهي أزمة تطرأ على هذه العلاقة. لون العين مثلًا هو شكل استقر على بياض يحيط بسواد، ثم طرأ عليه اختلاط باحمرار، فأشكَل، ولم يعد على شاكلة نفسه. المشكلة تعني إذن أن العلاقة الناظمة للشكل قد تعطّلت، وأننا نجد أنفسنا أمام استثناء لا يندرج في هذا الظهور العام. الرجل الذي يخالط بياض عينيه الاحمرار هو حالة فردية تعطّلُ عمومية شكل بياض العين. يمكن القول إذن أن المشكلة هي لحظة اصطدام كليّة الشكل بصخرة الفردية، أو لحظة مقاومة الفردية لابتلاعها من قبل الكليّة، بعد أن أضحت الأخيرة مجرد شكلانية فارغة.
إذا كانت المشكلة هي صدع في العلاقة الناظمة للشكل، فمالذي يتعين علينا فعله عندما نقف أمام مشكلة؟ أمامنا فيما يبدو حلّ من اثنين. إما أن نعيد للشكل المهيمن نقاءه، ونخلص الشاكلة من شائبة الشوب التي شابتها، فنصبح نحن والفاشيون في ضفة واحدة من التاريخ. وإما أن ننحاز إلى الصدع ونسعى إلى تجذير مقاومته للكلية الفارغة. لكن كيف يمكن لهذا الانحياز أن يتجسد؟ يشيع اليوم استخدام فعل أَشكَل، وأحيانا مَشكَل، بقصد التوقف عند ما يبدو أنه عادي، ومحاولة تحويله إلى مشكلة. نقول مثلا أننا نريد أن نؤشكل (وأحيانا نمشكل) أمرًا ما، ونقصد أننا نريد مساءلته، لإظهار أبعاد أخرى متوارية وإشكالية لما نقف أمامه. ونظن أننا بذلك انحزنا إلى الفردية التي تَسبَبَ ظهورُها في المشكلة، لكننا لا ننتبه إلى أننا نستخدم فعل أشكل هنا على نحو غير دقيق. فمن يقف أمام مشكلة في الجملة العربية يكون موقعه هو اسم مجرور وليس فاعلًا. نقول: أشكل عليّ الأمرُ، أي التبس علي. من يُشكِل ليس نحن، بل الشيء. نحن وظيفتنا أن نتلقى تعقيدات والتباسات أمر ما، أما تصور أننا بإمكاننا إضافة تعقيد من الخارج فهو مبالغة في تقدير دورنا كبشر. فوفقًا لمنطق العربية، المشكلة في جذرها ليست تعقيدًا رأسيًا، يضيفه بشر إلى شيء خارجهم، وإنما هي تعقيد أفقي، أي التباس في الشكل ومن ثمّ تعقيدٌ للعلاقة الناظمة له.
لنعد إلى وصف المشكلة بأنها سؤال يتعلق بالشكل، وتحديدًا بوصفها الصدع الذي تحدثه مقاومة الفردية للاندراج في شكل مهيمن. أمام فاشية الكليّة الشمولية يجدر بنا أن ننحاز إلى الصدع الذي تمثله المشكلة، ونستقبل تعقيدات التباسها، مصرّين على اختلافها. لكن ما هي هذه التعقيدات والالتباسات؟ أليس كل التباس هو انزلاق ينبهنا إلى أن الشكل الكلي الحالي لم يعد كافيًا، وأن موضوع بحثنا بحاجة إلى إعادة التفكير فيه من خلال ربطه بما انزلق إليه؟ أي من خلال ربطه بعلاقات جديدة؟ أليست التعقيدات التي تحدد الحالة الفردية المسببة للمشكلة، والتي تصر على فرديتها واختلافها، هي في الواقع توسيع للعلاقات التي تربطها بما هو خارج شكلها المستقر؟ مشكلة الرجل الذي اختلط بياض عينيه بالاحمرار مثلًا تجعل من لون العين شكلا يتحدد بمحددات أخرى غائبة، ألا هي الشرايين المنسية، التي تغذي هذا البياض. مما يجعل لون العين شكلًا حيّا، وليس شكلا قياسيًا فارغًا. يجعل لون العين طرفًا في كلية أكبر هي صيرورة الجسد. أي أن الانحياز إلى الصدع الذي تمثله المشكلة يعيدنا إلى الشكل بوصفه علاقة داخلية بين لحظات مختلفة، وبالتالي يعيدنا إلى الكلية، أو بشكل أدق يدفعنا إلى مراجعة الكليّة التي أضحت مجرد كليّة شكلية فارغة، وإعادة التفكير فيها لنخلق شكلًا جديدًا، ونسعى إلى كليّة أخرى لا تقوم على الاستبعاد.
لكن متى أضحت الكليّة شكلانية فارغة؟ على الأرجح عندما توقفت عن أن تكون ظهورًا للمضمون. أي عندما جَرّدت المضمون من تعقيداته، وحولته إلى شكل مستقر ورتيب. والمشكلة بهذا المعنى ما هي سوى ظهور مضمون جديد يقاوم الشكل المستقر، ويُظهِر تناقضاته، سواءً كان هذا الشكل المستقر هو شكل أدبي، أو شكل اجتماعي، أو شكل سياسي. وبالتالي فالمشكلة هي لحظة تاريخية أفرزتها حركة الشكل. لكن الأهم هو ملاحظة أن فهم المشكلة بوصفها سؤالًا يتعلق أساسًا بالشكل واختلالاته أو التباساته، كما تقترح العربية، يعني عدم الاكتفاء بلحظة الفردية، بل المضي قدمًا إلى الشكل الجديد الذي فجرته هذه الفردية. المشكلة بما أنها التباس في الشكل، فهي تبحث عن شكل جديد يستوعب الصدع الذي حدث. بكلمات أخرى، المشكلة ليست بحاجة إلى حلّ، وإنما المشكلة بحاجة إلى إعادة تشكّل. مهمتها ليست ترميم الشكل القديم، وإنما إيجاد شكل لما كان منسيًا ومستبعدًا من الشكل القديم. وعندما نعمل على مشكلة، فإن ما نفعله هو استخراج شكل جديد، يلبّي حركة تناقضاتها. باختصار مفهوم المشكلة في العربية قد يتيح لنا الإصرار على الشكل، من دون الوقوع في شكلانية فارغة.
هناك مفاجأة أخيرة ينطوي عليها فعل شَكَلَ، جذر كل ما سبق. وهي أن شَكَلَ يعني ببساطة اشتبه والتبس. أي أن أساس معنى الفعل هو المشكلة، أو أن المشكلة سابقة على الشكل لغويًا. إذ لكي نصل إلى الشكل نحن بحاجة إلى تضعيف فاء الفعل مثلا، شكَّل، أو إضافة تاء بعد التضعيف، تشكّل. تَقدُّم المشكلة على الشكل لغويًا يفتح الطريق لإمكانية تقدمها عليه منطقيًا أيضًا. فزمن اللغة يقترب من زمن المنطق، ويختلف عن زمن التاريخ. بكلمات أخرى، قد يكون الشكل نفسه مُؤسّسًا على مشكلة، ويحمل معه إمكانية، بل وضرورة، الالتباس. الشكل إذن ليس مجرد انتظام العلاقة بين لحظات الظهور، بل هو ضرورة أزمتها. أي شكل حيّ هو شكل هش ومتصدع دوما، وسيقود لا محالة إلى مشكلة، لإنه إعادة تشكّل دائمة. ومن ثم لا يجدر تصور وجود شكل أولي أو أصلي تنبع المشاكل من اختلاطه والتباسه، وإنما العكس قد يكون هو الأدق. في البدء كانت المشكلة أو التناقض، سواءً أكان تناقضًا جماليًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا، ومن هناك ينبع الشكل.
لا
أين تقع الكتابة؟ يخبرنا السهروردي أن هناك بلادًا تلي أقاليم الدنيا السبعة وتسبق ملكوت الأرواح. بلاد تقع خلف جبل قاف، آخر حدود العالم المحسوس. هذه البلاد يسميها السهروردي ناكُجا آباد، وهو تعبير غير مألوف في اللغة الفارسية. البادئة “نا” هي أداة النفي “لا”، وكلمة “كُجا” تعني أين، أما “آباد” فهي الحاضرة الغنّاء. يعني تعبير السهروردي إذن “حاضرة اللا أين”. إنها بلاد متخيلة وواقعية في آن، تتوسّط المعقول والمحسوس، وتُداخل فيما بينهما. ليست هذه البلاد مكانًا يمكن السؤال عنه بأداة أين، وإنما هي أقرب إلى الفجوة أو الهوّة. هي حرفيا “لا مكان” يقع حولنا في كل مكان، ويمكن أن تنفتح هوّته في أي لحظة، فتهب رياحه على الحاضر. هواؤه قادم من الماضي السحيق، ويحمل معه رغبات المستبعدين وآمال المنسيين، وكلام من لا لسان لهم. بلاد اللا أين قد تكون أحد المواضع التي تتجاوز فيها غنوصية السهروردي نفسها. فهي تكشف عن حيز ينفي المكان الواقعي، ويواجهه بما استبعده ونسيه. أي أنها بلاد لا تكتفي بأن تكون حيزًا صوفيًا نقيًا وبعيدًا عن العالم الدنيوي، أو عالمًا بديلًا يمكن الهروب إليه، وإنما تريد أن تكون حيزًا أرضيًا، تعمل فيه أداة النفي “لا”، وتسري فيه قواها من أجل إحداث شقوق في ما هو قائم.
لم يسبق لأحد أن استخدم تعبير ناكُجا آباد قبل السهروردي، الذي كتب بالفارسية والعربية، ولم يشع استخدامه من بعده. لكن معظم قصصه الصوفية تنطلق من هذا اللا مكان، وتدور فيه، حتى ولو لم تسمه دائمًا. هو إذن مجاز غير مألوف في اللغة، اشتقه كاتب لكي يجد شكلًا لتناقض لا يمكن حلّه. تناقض يجسّد اختلاف الواقع مع نفسه، واستحالة انطباقه على نفسه. لذلك يمكن القول إن بلاد اللا أين هي بلاد أدبية المنشأ، ظهرت إلى الواقع من خلال الكتابة. بل يمكن المضي قدما والقول إن هذه البلاد هي موطن الأدب الأصلي، تنفتح فقط عندما يلامس الأدب الواقع، وهو لا محالة فاعل. بلاد اللا أين تحمل في طياتها مغامرة الكتابة في محاولة إيجاد شكل للتناقضات التي لا شكل له بعد، وليس حلّها. مغامرة عواقبها غير محددة سلفًا، قد تنجح مرة، وقد تفشل ويطويها النسيان مرات. وفجوة اللا مكان التي تنبثق منها هذه البلاد الأدبية، أو بالأحرى التي تحفرها حفرًا، هي نقطة التقاء الكتابة بالواقع، وفيها تكمن إمكانية مراجعته.
عمل
أين يذهب الكاتب بين عملين؟ أين تذهب العاملة بين ورديتين؟ العمل كما يفهمه ربّ العمل هو بذل لطاقة معينة من أجل تحقيق غاية محددة سلفًا. وظيفة هذه الطاقة تتمثل في أن تقوم بتذليل العقبات في طريق إنجاز الغاية المنشودة أو المنتج المُرام، والذي ما أن يظهر حتى تتم تسوية التبادل بدفع أجر العمل، ويختفي بعدها من قام به. تشغيل الماكينة في مصنع مثلًا هو عمل من أجل إنتاج علبة مناديل ورقية، والكتابة هي عمل من أجل الوصول إلى نص منشور.
رب العمل، الذي لم يعد شخصا، لا يرى العاملة سوى وهي تنجز منتجها، وتأخذ أجرها وفقًا لسعر السوق، وما عدا ذلك فهي تغفو خارج التاريخ. العاملة تبقى بالنسبة له مجرد حياة عارية ما دامت لا تعمل. فالعمل وفقًا لمعادلته الصفرية يساوي منتجه، وينتهي بمجرد دفع الأجر المكافئ، متعاميًا بذلك عن هذا الجزء من قوة العمل الذي لم يدفع أجره، الذي أسماه ماركس فائض القيمة. لكن الحقيقة هي أن العاملة تعمل أيضا وهي تسير عائدة إلى بيتها والريح تدفعها في ظهرها، وتعمل وهي تعدّ وجبة العشاء لأسرتها، وتعمل من أجل أن تستعيد القدرة على تشغيل الماكينة في مصنعها في اليوم التالي. والكاتب يعمل وهو لا يكتب لكي يصبح الكاتب الذي يستطيع كتابة عمله القادم. استعادة القدرة على القيام بعمل الغد، التي يُفترض أن يحققها أجر قوة عمل العاملة أو الكاتب، تبقى غير ممكنة، لأن هذا الأجر، بنيويًا، لا يمكن أن يكفي أبدًا.
العمل الأدبي يصرّ على رفض المعادلة الصفرية البرجوازية، ويصرّ على استحالة حلّ التناقض الجوهري الذي يسكن عملية الإنتاج نفسها. فالعمل الأدبي ليس منتجًا تؤُتي فيه كل ذرة طاقة بُذلت فيه أُكلها، بل هو في الحقيقة ما يفيض عن هذه الطاقة. فائض القيمة الأدبي هو قوة الماضي الذي لم يمض بعد. هذا هو الفائض الذي لم يُسكّن، وهذه هي الأثمان الباهظة التي تُعوض. والعمل الأدبي يكد ويكدح لكي يجد شكلًا لهذا الفائض الذي تم استبعاده ونسيانه. وبالتالي فإن ما يحدد حقل الإنتاج المسمى الأدب هو أن العمل المبذول فيه لا يهدف إلى إخراج منتج محدد إلى النور. العمل المبذول في الأدب هو إصرار على علاقة مع عمل الماضي، أي عمل ما استُبعد، ولا يمكن أن ينتهي بخروج منتج، لأن ذلك يعني وضع نهاية لعمل الماضي المفتوح، ومحاولة تناسيه من جديد. إذا فكرنا في العمل بوصفه تركيبًا للعناصر المختلفة التي تكوّن المنتج، مثلما يفعل رب العمل، أو بوصفه خطوات منطقية تصل بنا إلى المنتج النهائي، فلن نصل سوى لوثن بلا سحر. ولن يكف فائض القيمة عن إرباك معادلاتنا، ليعيد إلينا الماضي الذي لا يريد أن يمضي.
الكاتب يعمل دائمًا حتى وهو عاطل عن الكتابة. يراجع ويفند. يودع نفسه ويناقضها. فالكتابة ليست مجرد نشاط يمارس في أوقات معينة. بل الكتابة هي طريقة الكاتب في العمل على تاريخ عمله ومحدداته. هي طريقة الكاتب لكي يكون كائنًا تاريخيًا. وهذه الصفة لا تسقط عنه عندما لا يكتب. الكاتب يسير في صيرورته التاريخية، يموت ويولد من جديد، مثله مثل كل الكائنات التاريخية، سواء أنتج أعمالًا منتهية أم لا. وعمل الكتابة ليس هو الجهد المبذول لكي يصل الكاتب إلى كتابه فحسب، إنما هو أيضا ما يسمح للكاتب أن يرى ويتعلم من تناقضات عمله، وما يتيح له الخروج عن نفسه. لذلك فإن رهن عمل الكتابة بالعمل الأدبي المُنجز يعني حرمان الكاتب من القدرة على التناقض الذاتي، ومن ثم تجميده وإخراجه من التاريخ، حتى يعود بعمل جديد يكمل ما بدأه ولا يختلف معه. وكأن التاريخ يتوقف بين كل عملين. تمامًا مثل العاملة التي يحذفها البرجوازي من التاريخ، ولا تعود إليه سوى في اليوم التالي عندما تبدأ وردية جديدة. تعود إليه كما غادرته، لتبقى دائما عالقة، تبقى دائما ثابتة على حالها.
رهن عمل الكتابة بالمنتج الأدبي هو موت الكتابة. والطريقة المجردة في فهم الكتابة بوصفها عملًا موجهًا نحو منتج ليست فهمًا خاطئًا لطبيعة العمل فحسب، بل هي تنتج أيضا نصوصًا سيئة. إذا عُميت عيون الكتابة عن العلاقة المفتوحة مع الماضي، وعن إيجاد شكل لما استبعد، فإنها تسقط في وهم مفاده أن الماضي قد مضى، وأن صفحة الكتابة تبدأ دائما من الحاضر. النصوص التي تنتجها مثل هذه الكتابة هي نصوص تبدأ من فراغ أبيض معقم، ومهما حاوَلت فإنها لا تستطيع ملء هذا الفراغ، ولا إخفاءه. وسيظل هذا الفضاء المجرد يتلبسها كحكم مسبق بالإعدام.
طِباق
ورقة الكتابة حالكة السواد. مليئة بالحتميات والجرائم. الأمر الوحيد المعقول الذي يمكن فعله بشأنها هو محاولة تحرير مساحات من قلب هذا الظلام. فوق كل ورقة يربض عدد لا ينتهي من الأفكار الجاهزة، ومن مصاصي الدماء الذين يعيشون على عمل ضحاياهم. والكاتب الجدير بهذا الاسم لا يكتب، وإنما يحل وثاق الكتابة. لا يبدأ بحرية أن يكتب ما يشاء، وإنما بضرورة ملحة لتحرير مساحات من الظلام الحالك. ضرورة عمله الداخلية تشتبك مع الحتميات الجاهزة، فينشأ الصراع الأهم الذي يدفع الكتابة إلى الأمام. ومن دون هذا الصراع لن يتحرك العمل خطوة واحدة.
ورقة الكتابة ناصعة البياض. بياضها قاتل، لأنه أصبح عاديًا. هذا البياض أضحى شفافًا، ولم نعد حتى نراه. إنه بياض الحتميات التاريخية والأفكار الجاهزة، التي تقدم نفسها بوصفها الطبيعة التي تسير بها الأمور. بياض ورقة الكتابة هو بياض كولونيالي، جرائمه أصبحت منسية، والوضع الذي تمخض عنه أضحى عاديًا. وضع نظيف ناصع، لا أثر لأي عنف يسري فيه. أن يكون هناك مهاجرون فقراء يسعون للذهاب إلى مهجر ثري أضحى وضعًا عاديًا، لتغيب حقيقة أن هذا الفقر، وذاك الثراء، ليسا عاديين، وإنما نتيجة تاريخ طويل ومستمر من الاستغلال وسلب الموارد. بياض ورقة الكتابة قاتل لأنه يسوّغ ويمُنهِج العنف. إزاء هذا البياض ماذا باستطاعة الكتابة سوى تعكيره ومراجعته. سواد الكتابة هو محاولة لخدش هذا البياض المسيطر. محاولة لجعله على الأقل مرئيًا.
ليس
ورد في باب أيس في مقاييس اللغة لابن فارس القزويني ما يلي:
الهمزة والياء والسين ليس أصلٍا يقاس عليه، ولم يأتِ فيه إلا كلمتان ما أحسَِبهما من كلام العرب، وقد ذكرناهما لذكر الخليل إيّاهما. قال الخليل: أَيْسَ كلمةٌ قد أُمِيتَتْ، غير أن العرب تقول: “ائت به من حيثُ أَيْسَ وليس” لم يُستعمل أَيْسَ إلا في هذه فقط، وإنما معناها كمعنى [حيث] هو في حال الكينونة والوُجْد والجِدَة.
وقال: إنّ “ليس” معناها لا أيْسَ، أي لا وُجْدَ. والكلمة الأخرى قول الخليل إنّ التأييس الاستقلال؛ يقال ما أيّسْنَا فلاناً أي ما استقلَلْنا منه خيرًا. وكلمةٌ أخرى في قول المتلمِّس: قال أبو عبيدة: لا يتأيَّس لا يؤثِّر فيه شيء. وأنشد: أي لا يؤثّر فيه.
ليس، كما علمتنا دروس النحو، من أخوات كان. وهي فعل ماض ناقص يفيد النفي. تدخل على الجملة الإسمية فترفع المبتدأ وتنصب الخبر. لكن ها هي المعاجم تخبرنا أن كلمة ليس تنطوي على تعقيدات غير متوقعة. فعملها، أي النفي، يتكشّف عن نفي مركب، وذلك لأن الكلمة هي نفسها تحمل نفيًا ذاتيًا داخلها. فكما رأينا تتكون كلمة ليس، وفقا للخليل، من لا + أيْسَ، أو بكلمات معاصرة، من لا + وجود، أي أن الكلمة تعني باختصار “لاوجود”. وبذلك فإننا إذا نظرنا إليها بوصفها كلمة واحدة، أي ليس، فإنها تعود على كلمة مُثبتة، بينما إذا نظرنا إليها بوصفها كلمتين، أي لا + أيْسَ، فإننا سنرى ذلك الإثبات منفيًا داخل نفسه، أو متناقضًا مع نفسه. كلمة ليس هي إذن تناقض ذاتي، فهي إثباتٌ منفي.
وبما أن ما هو منفي داخل كلمة “ليس” هو الوجود، فإن ذلك يعني أنها تحمل معها وجودًا مكسورًا داخل نفسه. ما كسره هو علاقة نفي داخلية، فالأداة “لا” قد ذابت في نسيج ما تنفيه، أي الأيس أو الوجود، فحركته عن مكانه، ونشأت عن ذلك كلمة “ليس”. وبالتالي فهي لا تنفي خبرها عن اسمه من خارجه، وإنما تلاقي جملة الاسم والخبر حاملة معها نفيًا داخليًا آخر، أو بالأحرى تأتي حاملة تناقضًا أساسيًا، وهو تناقض الوجود مع نفسه، وهو الوجود نفسه الذي تتقاسمه موجودات أي جملة كانت. وعندما تلتقي “ليس” بجملتها تنقل إليها أصداء التناقض الذاتي للوجود مع نفسه. فهي لا تنفي “وجود” خبرها، بل تفتح إمكانية وجوده متناقضا مع نفسه، لأن الوجود ذاته وفقا لكلمة “ليس” متناقض داخليًا.
بكلمات أخرى، قد يكون هناك في كلمة “ليس” ما يفتح الطريق أمام فهم مختلف للنفي الذي تقوم به، بخلاف المعنى المباشر والقريب لنفيها وهو نفي الخبر عن الاسم. قد يكون ما تفعله “ليس” هو أنها تتسرب إلى جملتها، تمامًا مثلما تسربت لا إلى أيس، لتذكرها بأن النفي ليس مضمونًا معرفيًا، أو حكمًا نهائيًا، أو مجرد حالة نقيضة، وإنما هو حركة تناقض ذاتي. ومن ثم فإن النفي لا يأتي من الخارج، وإنما ينبع من الداخل. كلمة “ليس” تلتقط بفضل تناقضها الذاتي التناقضات الداخلية لاسمها، فتحدث فيه شقًا، وتحركه عن مكانه، لكي يظهر شكل وجوده المتناقض.
كلمة “ليس” هي وحدة ما لا يتحد، أي وحدة الوجود مع نفيه. وهي حضور لما هو غائب، أي وجود “اللا وجود”. لذا فعندما ننفي خبر ليس فإننا ننفي معه كل مرة تجانس الوجود (لا + أيس/لا + وجود)، وبذلك نؤكد التناقض الضروري المتمثل في حضور ما لا يوجد، حضور ما استُبعد، ونؤكد التناقض الذاتي بوصفه الشكل الوحيد لوجود الاسم مع الخبر. قد تكون كلمة “ليس” إحدى هبات اللغة لنا، لكي تمنحنا شكلٍا لاستحالة تطابق الشيء مع نفسه.
كلمة “ليس” هي كلمة جدلية بامتياز، فهي تحمل معها ما تنفيه، ولا تلفظه جانبا. “ليس” تحمل معها “أيس”، التي اعتبرها الخليل “كلمة قد أُميتت. “ليس” تحمل معها موتاها، أخبارها. وكل خبر جديد تنفيه “ليس” يختلط بها، ويترسب داخلها، لتصبح كلمة مثقلة بكل تلك الشقوق التي أحدثتها. وبالرغم من ذلك تبقى رشيقة وشفافة كحدّ الشفرة.
ورطة
أنا لا أعمل في مجال الأدب. لستُ موظفا في جهاز ثقافي يدعى الأدب. علاقتي بالأدب لا يمكن وصفها سوى بأنها ورطة. أنا وقعت في ورطة اسمها الأدب. لذلك فكل كتاباتي ما هي سوى محاولات للخروج من هذه الورطة. ولدي خطة، لكنها ليست دائمًا ناجحة. خطتي هي أن أتورط أكثر في الكتابة، حتى تأخذ شكل تورطي في العالم. هذه هي الطريقة الوحيدة فيما يبدو لي التي يمكن التعويل عليها للخروج، لأن أي خروج لا يتضمن المرور عبر ما نرغب في الخروج منه هو هروب وليس خروج. الخروج الحقيقي هو خروج عبر التورط حتى النخاع.
أي عمل “منتهٍ” هو رسالة وداع لكاتب لم يعد موجودًا. إذ أن الكاتب بعد انتهاء الكتابة يكون قد مرّ عبر عمله على الكتاب، منتقلًا إلى مكان آخر. من الزاوية المقابلة، لم يعد الكتاب بحاجة إلى ذلك العائل الوسيط الذي يدعى الكاتب، بل ويكتشف رويدًا رويدًا أنه لم يعد هناك أي صلة مشتركة تربطه بالكاتب. لم يعد هناك كاتب، ولم يعد هناك كتاب. هناك فقط لحظة وداع، مفترق طرق، وواقع انتقل إلى نقطة كثافة مختلفة بفضل عمل الكاتب والكتاب المشترك. لذلك من الغريب أن يدافع الكتاب عن كتبهم. فالكتب لأصحابها هي شواهد قبور عزيزة، لأناس رحلوا عنا، لكنهم لا يزالون يعيشون في قلوبنا. هذه الكتب تستطيع أن تدافع عن نفسها بنفسها، لأنها لم تعد ملكنا. الكتب التي نكتبها ليست هي عملنا الذي يتراكم رأسمالًا شخصيًا، بل هي عملنا الدؤوب والمضني لكي نتحرر من أنفسنا، بينما نظن أننا في طريقنا لنقترب من أنفسنا.
الكتابة هي خبرة حقيقية، ومثلها مثل أي خبرة حقيقية هي خبرة لا نمتلكها، لأننا نحن الذين مررنا بها لم نعد موجودين، فالخبرة قد غيرتنا للأبد. المعايشات فقط هي ما يمكننا أن نراكمها بمعزل عن أنفسنا، كأنها معرفة خارجية نضيفها إلى أنفسنا. أما الخبرة فلا تراكم فيها. الخبرة هي الانقطاع الذي يحدث للذات المختبرة. هي الموت والولادة. الخبرة اختبار، والاختبار حدّ، والحدود لا تفصل فحسب، بل تُخترق أيضا. الخبرة الراديكالية ليست ما يُضاف إلى الذات، بل هي ما قد يؤسس لذاتية جديدة. ما قد يؤسس لحقبة جديدة وتاريخ جديد.