أسما عواد
لن تشعر بفارق كبير لو أنك قرأت أعماله ثم تعرفت إليه أو حدث العكس.. في كلتا الحالتين ستشعر بأنك قريب من ذلك البطل .. الذي قد يصادف أن يكون ذلك الكاتب، أو أن تكون قريبا من ذلك الكاتب الذي يصادف أن يكون ذلك البطل …عن الذي يربي حجرا في بيته أكتب هنا بدون مواراة .. أو لف ودوران.
عندما تلتقي به تشعر بأنه أقرب ما يكون لك، في الوقت الذي يشعرك فيه بأنك أبعد ما تكون عنه، إنها نفس الثنائية في سرد يمزج ما بين الجمع والمنع في نفس الوقت .. الكتابة / الرصد بعيدا عن سذاجة الكتابة /البوح، أو بمعنى آخر السرد الذي يحمل في طياته حياة الكاتب ولكنه في نفس الوقت ليس سيرته الذاتية.. يقربه من ذلك كونه بكل بساطة جزءا لا يتجزأ من صفات الكاتب الشخصية.. وذلك لا يعيب العمل بل يضيف إليه صفة الصدق الذي لا يدخله في نطاق السيرة بسبب تكوينه اللغوي حيث يتكون السرد من جمل قصيرة متتالية تحمل من احتماليات ممكنة لمفردات خيالية.. مثل أن يصادف حجرا يناديه فيفكر: ” إنه يعيش في الشارع منذ شهور عديدة، لا أعرف تحديدًا الظروف التي أدت به للقدوم إلى شارعي، واختياره الإقامة بالقرب من العمارة التي أسكنها، ربما أحضره أحدهم من مكان قريب، أو سقط من سيارة نقل مارة، أو كان مدفونًا في الأرض وعثر عليه العيال أثناء لعبهم، تعاملوا معه باعتباره كنزًا، فأخرجوه بحماس ومتعة، قبل أن يكتشفوا فائدته كقائم للمرمى” يدفع بك من خلال السرد الممكن لنسيان كونه حجرا، ثم يبدأ بخبث طفولي إلى جرك للتعاطف معه والتفكير به، وبعدما يضمن ذلك يبدأ في سرد حكاياته الغير معقولة عنه وأنت لا تفكر مطلقا أثناء القراءة بأنك تقرأ أحداثا خيالية.
الحقائق في السرد لدى الطاهر هي الصور التي تلقطها عينه والتي لا تزال بدورها تحافظ على نقائها وعدم تأثرها بالقبح المجاور.. العين التي تلتقط الصور هي البطل الي يلتقط الأحجار. أما الخيال في لغة السرد لديه فيمثل الاستقبال الحسي لهذه الصور وتعامله معها.
أتحرى الدقه وأنا أكتب شهادتي عن الذي يربي حجرا في بيته، روائي ورواية توحدا معا حتى لا تستطيع أن تفصل أحدهما عن الآخر. كلاهما سرد يستحق التأمل .. سرد يتسم بوضوح شديد البساطة، سرد لا يعرف اللف والدوران .. لا تحتمل جمله التأويل والتفسير، إنه يوحي بالضبط بما يرغب في قوله.. وقد يتساءل شخص: ولكن أين الإبداع هنا ؟
الإبداع لدى الطاهر شرقاوي يشبه قطعة العجين الصغيرة قد تكفي بالكاد لصنع فطيرة واحدة سميكة لكنها بين يده تصبح شيئا آخرا إنه يبسطها حتى يجعلها في منتهى الرقة ثم يصنع منها فطيرته المبتكرة المكونة من عدة طوابق تختلف كل منها عن الأخرى.. هذه هي الفطائر الصغيرة التي تتكون منها روايته وهنا يكمن الإبداع ، إنه ماهر في صنع أشكال جديدة من قطع صغيرة من العجين يفردها إلى أكبر قدر ممكن بل إلى قدر يتميز به وحده، ثم يجمعها معا في عمل واحد متسق ومتناسق أفقيا ورأسيا.. إنها عين الطفل التي ترصد الجديد وروحه التي لا تزال تنتشي بالأشياء وتندهش لها والأمثلة لذلك كثيرة في الرواية مثل مكالمة هاتفية يسرد تفاصيلها في ست صفحات وبالرغم من ذلك تجدها خالية من الحشو أو التكلف فقط عين كاتب طفل، وعين بطل طفل يلتقط من العالم ما يدهشه فقط.
ولأنه طفل يتعامل بأحادية مع الحياة، لا يستطيع أن يعتني بنفسه فيتجنب عبء العناية بآخر حي سواء كان صبارا أو قطة أو حتى سيرين نفسها والتي يعتقد بأنه ليس أهلا لها.. وبديلا للأحياء يعتني بجمادات يشكل منها حياته يربي حجرا في بيته… يسقط عليه حزنه وفرحه فهو الوحيد الذي لن يحمله مسئولية التبادلية في الأخذ والعطاء .. بطل يتتبع حيوات الآخرين يرصدها لتكون بديلا له عما لا يستطيع أن يحياه.. يستعير منها مفردات البهجة في حياته، يجمعها مثلما يجمع الأحجار التي يعشقها حتى يوشك على أكلها وقرمشتها بين أسنانه.
يستمد طاقته ذلك الذي يربي حجرا في بيته من تفاصيل حياته التي جمعها كي تكون حصنا يحتمي به “ما أفعله هو أنني أجمع حياتي كلها في مكان واحد” يستمد طاقته ويجدد نشاطه كي يحقق الاكتفاء الذاتي معتقدا بأنه قد تحكم في حياته بعيدا عن مصاصي الدماء الذين يمتصون طاقته. إنه عالم الوحدة التي أراد الكاتب أن يعبر عنه ففعل ذلك بقدرة واقتدار فمن ذا يمكن أن يصف الجمر أفضل من واطئه؟ الرواية والراوي .. كلاهما يستحق القراءة والصداقة معا.