السيد شحتة
كان العمل يجرى سريعا فى تلك البناية المطلة على النيل مباشرة حيث يقع مقر إحدى شركات التقنية، كان المدير يتوسد مقعده متململا وهو يقلب نظره فى شاشة تنقل إليه كل صغيرة وكبيرة تجرى فى مختلف أرجاء المكان المزروع بالعشرات من الكاميرات وفجأة وقعت عينه على مشهد أثار امتعاضه فأمر على الفور بجمع رؤساء الأقسام فهبوا إليه والخوف ينهش أحشاءهم من الداخل فهم يعلمون أن بطشه شديد وأنه لايتورع عن قطع الأرزاق لأتفه الأسباب.
وقفوا أمامه جميعا صفا واحد ترتعد مفاصلهم وترتجف قلوبهم خوفا بينما كان يعبث بهاتفه، لقد بعثت له زوجته لتوها على الواتس أحدث إطلاله لها مع كلبها الذى أرسل فى شرائه خصيصا لها من فرنسا ، لابد أن يرد عليها بقلوب وقبلات كثيرة ليعبر لها عن حجم إعجابه بها خاصة أنها كلمة السر فى النعيم الذى يرفل فيه الآن بعد أن أجبرت أباها رجل الأعمال الشهير على أن يقبل به زوجا لابنته الوحيدة ومن يومها عرف الحظ الذى خاصمه كثيرا طريقه إليه وخلال بضعة سنوات أصبح يمتلك هذه الشركة الكبيرة التى يعمل فيها عشرات الموظفين .
رغبته فى أن يقنع نفسه بأنه صار من علية القوم دفعته إلى الإصرار على استقدام عدد كبير من زملائه ممن رافقوه المعاناة فى طلب العيش فى شركات أخرى كثيرة تعرض للفصل من بعضها لأكثر من سبب ، منحهم فى بداية الأمر رواتب ضخمة مقارنة بما كانوا يتقاضونه من قبل فتوهموا أنه الأصل الطيب الذى ربما أعيتهم الظروف على أن يلمسوا أثرا له فيه من قبل ،ولكنهم أدركوا الحقيقة بعد فترة لم تطل كثيرا ،لم يكن ذلك سوى نوع من البدل المادى لأمتهان كرامتهم كل صباح من أجل أن يثبت شاكر بيه لنفسه أن قد صار رئيسا لمجلس إدارة شركة كبرى وبكلمة واحدة يستطيع أن يوظف العشرات وبحرف واحد يمكن أن يحول حياتهم إلى جحيم عندما يقرر الاستغناء عن خدماتهم.
كانت نقطة ضعفه هى النساء وكان يلقى بشباك غوايته حول كل أمرأة تمر من أمام باب مكتبه وكان يقدم بسخاء ذهب المعز ويلوح باليد الأخرى بسيفه ، ولم يكن هذا كله بعيدا عن أعين زوجته الحسناء نورهان هانم الكثيرة المزروعة فى المكان و كان هذا بالنسبة لها أفضل كثيرا من أن يقع فى غرام أمرأة أخرى ويتزوجها كما فعل أباها منذ عدة سنوات وكانت تردد دوما ” الرجال كائنات لاتعرف الوفاء والخيانة تجرى فى دمائهم”
تسابق موظفو الشركة فى كسب رضائه وتفادى نقمته وسخطه وكان مضمار المسابقة مفتوحا على أشهده بينهم وكان كلا منهم يطرق باب مكتبه متطوعا بتقديم تقرير مفصل عن كل ما يفعله قرنائه فى المكان.
كان شاكر ينتفخ فخرا وهو يسمع ولكنه كان فى داخله ينظر إليهم جميعا بإحتقار شديد وكان يرى أن بإمكانه أن يسحقهم تحت أقدامه إذا قرر ذلك يوما ما ،ولم يدر بخلده أنه السبب فى استدعاء أسوأ ما فيهم عندما ظل يتهددهم بقطع أرزاقهم إذا ما لم يرتموا تحت أقدامه كالنعاج، ولكن شخصا واحدا كان يغرد خارج السرب إنه مطاوع فلم يقرع بابه ولو مرة واحدة ولم يبعث له برسالة على الواتس تحوى معلومة أو صورة تتضمن وشاية بزميل أو زميله.
يعرفه شاكر بيه جيدا فهو يبلغ الخامسة والأربعين من العمر تخرجا معا من كلية التجارة فى نفس الدفعة وكان يعملان من قبل فى عدة شركات أيام سنوات الفقر وحينها كان يتخذ الباشا الكبير من شقة لاتتجاوز مساحتها الستين مترا فى حى بولاق الدكرور الشعبى المكتظ مأوا له وهى المنطقة التى مازال مطاوع يعيش فيها حتى اليوم .
لايجيد مطاوع موظف “الأى تى” سوى العمل ولا شىء آخر وهى مؤهلات لاتمنحه الفرصة فى الترقى فى شركة شاكر بيه لذا تجاوزه كل من جاؤا بعده وأصبح أحدهم رئيسا للقسم الذى يعمل به الموظف المجد والذى لم يعرف حتى اليوم أن الطريق لكسب ثقة مدير الشركة هى أذنيه.
فكر شاكر بيه أكثر من مرة فى طرده خارج الشركة فهو يمقت تلك النوعيات من البشر التى لاتمل من الحديث عن الشرف والقيم والمثل ولكن شيئا فى أعماقه كان يدفعه فى اللحظات الأخيرة إلى التراجع عن هذه الفكرة ، حاول أكثر من مرة أن يخضعه.. أن يكسر شوكته ليجبره على أن يضع رأسه فى وحل الوشاية كما فعل مع الآخرين ولكنه فشل فى ذلك فشلا ذريعا ، ومع الوقت بدا يميل إلى اجتناب مطاوع ،كان يرى فى عينيه بريقا يشعره بالخوف من الداخل حتى أصبحت لديه قناعة أنه قد يكون واحدا من أولياء الله ورغم أنه كان يبغضه من كل قلبه لكنه كان يخشى أن يقوم بإيذائه بأى صورة من الصور.
كانت مجالس الوشاية داخل الشركة عامرة على مدار الساعة بكل الموبقات حتى أدق أسرار حياة الموظفين الشخصية كان شاكر بيه على دراية كاملة بها ورغم ذلك كان العمل يتواصل على أشده فقد كان الرجل مخلصا للأمرين أيما إخلاص.
وفى إحدى الليالى سهر شاكر بيه وشرب فى حفل لمطرب شهير فى الساحل والتقطت له عدسات المصورين مشاهد فى أوضاع لاتليق بشخصية عامة مثله ،وانتشرت الصور كالنار فى الهشيم وتم تداولها عبر عشرات الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة وحاول أن يدافع عن نفسه زاعما أن ما جرى ليس سوى محاولة لهز صورته بعد النجاح الكبير الذى حققه والقفزات المتتالية لشركته فى ظل إدارته الحكيمة ولم يكن أمام الموظفين الذين يلهثون من أجل تقاضى رواتبهم فى نهاية الشهر سوى التسبيح بحمده مؤكدين أنها سحابة صيف وستمر سريعا.
ولكن علاقة الرجل توترت كثيرا بزوجته وأسرتها الكبيرة ولكنهم أبدا لم يقوموا بالتخلى عنه مخافة أن تهتز صورتهم ومر الأمر وكأنه لم يكن فذاكرة البشر فى ظل اللهاث خلف ضرورات الحياة اليومية لاتختلف كثيرا عن الأسماك سريعة النسيان، ولكن شخصا واحد رفض أن يقف فى صف المدافعين عن الرجل إنه مطاوع الذى ظل على عادته يأتى إلى الشركة مبكرا ويذهب متأخرا ولايفعل شيئا سوى العمل ولم يغفرها له شاكر بيه هذه المرة حيث عقد العزم على أن يطيح به ولكن بعد أن يلوث ثيابه الطاهرة بفضيحة من العيار الثقيل .
كان صدر شاكر بيه يتقد حقدا على مطاوع الذى يتقاضى راتبا زهيدا ويعول أسرة كبيرة ومع ذلك ترتسم تلك الابتسامة البلهاء على وجهه ولا يمل من ترديد تلك العبارات الجوفاء عن الحلال والحرام والحق والباطل والعدل والظلم.
وبعد أن نفث دخان سيجاره الفاخرة قال لنفسه ” لامكان لأحمق مثل هذا فى شركتى ، أنا أريد هنا أوراقا محروقة لا أتورع عندما أبغضها عن إلقائها فى سلة المهملات دون أى عناء فليبحث عن مكان أخر يحصل على راتبه منه إذا ظل محافظا على تلك المبادىء”
كان يرى فى من لايبيعون أنفسهم بثمن بخس مصدرا كامنا للخطر وقنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر فى أية لحظة فكل شىء يباع ويشترى هكذا تعلم فى أول حصة بمدرسة الحياة القاسية والتى لاترحم أحدا.
كان الولاء المطلق هو الشىء الذى يبحث عنه فى كل من يعملون معه ولم يكن هذا الشرط متحققا فى مطاوع الذى كان لايدين بالولاء سوى لأعمال وظيفته فقط وهو ما لم يكن شاكر بيه يراه كافيا .
كان مطاوع يغط فى ثبات عميق عندما سمع صوت انفجار عظيم كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة صباحا وعندما رفع رأسه فى محاولة معرفة ماذا يجرى وجد عشرات الرجال الأشداء الذين يصوبون أسلحتهم إليه ، بينما تشبثت زوجته المفزوعة بالسرير محاولة ستر جسدها عن الأعين بروبها الذى لا تدرى كيف تمكنت من انتزاعه ولفه حول جسدها وسط هذه الرعب الذى لم تشهد مثله من قبل والذى جمد الدم فى عروقها ، وصاح به أحدهم “صدر أمر بالقبض عليك لتورطك فى سرقة أموال الشركة” ألجمه هول المفاجأة فلم ينبس بحرف واحد وبينما كان رجال الشرطة يقتادونه وسط جمع من أهل المنطقة الذين تجمعوا لمعرفة حقيقة ما يجرى كان صوت صراخ صغاره “بابا .. أين أنت ذاهب يا بابا.. اتركوا لنا بابا” يمزق قلبه من الداخل.
مضى كل شىء سريعا بعد ذلك حيث خضع لاستجواب أنكر فيه كل شىء ولكن شاكر بيه كان قد أعد للأمر عدته حيث أدلى أثنين من موظفى الشركة بشهادتهما مؤكدين أن الرجل اختلس مبلغا ماليا من الشركة وصدر قرار بحبسه 15 يوما احتياطيا على أن يراعى التجديد له.
فى الشركة أقام شاكر بيه مواكب الفرح واحس بزهو الانتصار كما لم يشعر به من قبل فجريمة نصار ستصرف ألسنة موظفى الشركة عن فضائحه الأخلاقية التى تزكم الأنوف وهو اليوم أثبت أن الجميع فاسدون وليس هو فحسب بما فيهم ذلك الذى كان يتقمص ثياب الفضيلة التى تمشى على الأرض.
نسى شاكر أو تناسى أنه من زج بالموظف البسيط خلف القضبان وأن القضية بأكملها من تأليفه وإخراجه وأن الرجل لم يقترف ذنبا وظل لعدة أيام يتوعد المفسدين بمصير مطاوع الذى أوغل الجميع فى سيرته وتسابقوا على نعته بأسوأ الصفات وكأنهم لم يعرفونه يوما فى سباق محموم لكسب رضا شاكر بيه .
لم يرحم حتى دموع زوجته التى طرقت يوما باب الشركة طالبة الحصول على راتبه ومستحقاته من أجل الانفاق على صغاره كلف موظفى الأمن أن يبلغوها أن الشركة ليست مكانا لمنح الصدقات وأن علاقة زوجها بالشركة قد انقطعت منذ القبض عليه .
كان مطاوع داخل سجنه يعيش فى ظلمات بعضها فوق بعض فهو لايعرف لماذا رماه شاكر بيه بهذا الاتهام الظالم الذى لا أساس له بعد هذه العشرة الطويلة التى جمعت بينهما ، كان يبكى المصير المظلم لزوجته وصغاره الذين لن يكون لهم عائل من بعده ، وكان قلبه ينفطر غيظا من الداخل بعد أن شهد عليه أثنين من زملائه بالشركة زورا وعدوانا .
امتنع عن تناول الطعام والشراب ،فقط لقيمات يتجرعها كل عدة أيام وكأنها الدواء المر بعد إلحاح شديد من رفاق الزنزانة ،أصفر وجهه ونحل جسده وتحول إلى شبح صغير ينتظر الموت فى أية لحظة كى يتخلص من كأس المرار الذى يشربهٍ ألوانا.
أما شاكر بيه فإنه كان يزداد انتفاشا وكانت أرصدته تتضخم باستمرار وكان يرجع الفضل فى ذلك دوما إلى ذكائه الخارق وعاد ذات صباح إلى منزله وجسده يترنح بعد أن عب من الخمر الكثير فى أحد الملاهى الليلية التى أدمن السهر فيها وما أن فتح باب غرفة نومه حتى وجد زوجته فى أحضان الخادم فأنهال عليها ضربا وصفعا وأطلق الرصاص على الخادم ولكنه لاذ بالفرار وكان قد تمكن قبل ذلك من تصويرهما فى وضع مخل.
وفى اليوم التالى قام والد زوجته رجل الأعمال الكبير بتهديده بتحويل حياته إلى جحيم إذا لم ينسى ما شاهده بالأمس قائلا” بنات الباشوات يجب أن تظل رؤسهن مرفوعة مهما حدث يجب و عليك أن تتذكر أنها كانت سببا فى كل النعيم الذى تعيش فيه الآن” قرر أن يحنى رأسه للريح ولكن شيطانه وسوس له بعد عدة أيام بأنه لا يجب أن يفوت استغلال هذه الحادثة من أجل أن يضاعف ثروته ويزيد من أرصدته فى البنوك فأرسل مقطع الفيديو الساخن إلى والد زوجته على الواتس طالبا عدة ملايين من الجنيهات من أجل ألا يصل الأمر إلى منافسيه ووعده الرجل بأن يرسل إليه المبلغ المالى الذى يريده فى أسرع وقت ممكن .
ودوت ضحكاته فى المكان فقد صار بمقدوره أن يهزم أبليس نفسه إذا دخل معه معركة الغواية أو الحصول على أموال وثروات طائلة بأكثر الأساليب خسة وحتى لو وصل الأمر إلى الاتجار بجسد زوجته فإنه لايجد فى الأمر مانعا طالما سيضاعف من أرصدته البنكية ” ما تكسب به يجب أن تخوض اللعبة به” هذا هو قانون الكبار الذين أصبح بعد سنوات الفقر اليوم واحدا منهم.
فى المساء ذهب إلى الملهى الليلى ليعب من الخمر كعادته ووصل إلى منزله وهو يترنح يمينا ويسارا فى ساعات الصباح الأولى حيث فوجأ بمجموعة من الوحوش البشرية فى انتظاره تناوبوا على ضربه وإذلاله لعدة ساعات كما تم تصوير فيديو كامل له فى أوضاع شاذة مع الخادم الذى ضبطه من قبل متلبسا فى أحضان زوجته وفى النهاية تم إجباره على أن يوقع على عقود تنازل عن الشركة وكل ما يملك لزوجته وبعد دقائق قليلة تم إعطائه أحد حبوب الهلوسة وإلقائه فى حقيبة السيارة قبل أن توقع زوجته على إقرار بتحمل تكاليف علاجه كاملة فى إحدى المصحات النفسية الخاصة والتى تم إيداعه بها حتى بدأ يفقد عقله بالفعل كان فى كل مرة يعض أصابع الندم ويعرف أن لعنة مطاوع أصابته وتمنى لو فكوا عقاله ليكفر عما أجرم فى حق هذا الإنسان البرىء.
أما مطاوع فقد برأته المحكمة لعدم كفاية الأدلة وعاد إلى أسرته من جديد وهو يرفع أكف الحمد إلى الله بعد أن أنقذه من فخ أعد له بإحكام شديد وعندما علمت زوجة شاكر بيه بحقيقة المؤامرة التى تعرض لها قلدته مهام وظيفته من جديد وضاعفت راتبه لتعويضه عن بعض ما عاناه فقد ذاقت من قبل مرارة أفعال زوجها الشيطانية وبعد فترة وجيزة من مكوثها فى مقعد شاكر بيه أصبحت على دراية كاملة بدبة النملة فى المكان فقد كان الوشاة يتسابقون على تقديم قرابين المعلومات لها كما كانوا يفعلون من قبل ولكن شخصا واحد ظل على حاله إنه الشيخ مطاوع الذين جميعا يقسمون أن سره باتع ويدللون على ذلك بما أصاب شاكر بيه والذى فقد عقله وأودع بمصحة عقلية بعد عصفت به لعنة الرجل الصالح.