فبعيدا عن الابهام و”البزلات ” التي راحت تتسرب لأغلب الكتابات القصصية القصيرة جدا التي تعتمد ذكاء القارئ، لحل الشفرات وتفكيك الكلام المركب العصي على ولوج مغاليقه بدون عين لاقطة متمرسة ، يبقى المتقي حريص على رصد الآني واللحظي، بل بارع في التقاطه بأسلوب ولغة سهلة سلسة ومخففة حقا، لكنها مدهشة في الاختيار، تشد أنفاس القارئ وتدفعه لشحذ الخيال والتحليق بعيدا عن البسيط المبتذل ، بل دالة ، ولكنها لا ترهقه في استجلاء مكامن المعنى العميق ومعادلات التأويل. يعتمد كما في السابق على الإشارة العابرة والتلميح لا التصريح والاختزال لا الحشو والإطناب بعيدا عن لغو الكلام وكلسترول القول(على حد تعبيره) فهو كما عهدناه لا يترك وراءه غبارا ولا زوائد ، وخاصة في مجال القصة القصيرة جدا . ولأن المتقي شاعر، يلجأ للتكثيف والعبارات المضغوطة المشعرنة التي توحي للقارئ بأكثر من صورة وصورة و تعطيه- بقليل من التركيز–فسحة شاسعة لإمكانية التأويل على أكثر من مستوى،إضافة إلى تقنية التقطيع التي ،اعتقد انه لجأ إليها لاقتناص القارئ ودعوته للمشاركة لإعادة التركيب والتشكيل. فقد هندس، في كثير من نصوصه، التركيب البنائي إلى فقرات صدٌرها بحروف أبجدية أو أرقام عددية أو لقطات متتالية أو سلم درجات متساوية . هذه التقنية التي كادت تشارف على ثلث العدد الإجمالي للنصوص ،بل يتعدى التقطيع والتشظي، المقاطع والفقرات ليطال الكلمات كما هو الحال في عبارة: “قط..يبك لم يك..ن من شج…رة الخي …زر…راان” ص 28 وهي ميزة يكاد يتفرد بها المتقي عن غيره من كتاب القصة القصيرة جدا لدرجة وصف قصصه قصائد هايكو، ولعل في الدراسات القيمة التي أنجزت حول شعرية القص عند المتقي في الكرسي الأزرق، ما يؤكد ذلك .وفي النص الأخير الذي يعد أطول النصوص، نلفي نفسا متقطعا على طول القصة، وهذا ليس قصورا في النفس السردي لعبد الله المتقي كما يتبادر لنا من أول وهلة، ولكنها تقنية الارتجاج التي يعتمدها متعمدا ،في خطة ذكية لشد أنفاس القارئ وكذا تحسيسه بالمشاركة، بل توريطه من خلال استدعاء العبارة للمساهمة في إثراء النص وإغناء الكتابة القصصية .
كل قصة قصيرة جدا في قليل من الملائكة، في اعتقادي ، بمثابة رصاصة، قد تصيب القارئ اللبيب، فتكون فارغة وبردا وسلاما، وقد تكون في رأي القارئ العادي رصاصة طائشة غير متوقعة ،تزلزل صدغيه قبل العودة لرشده وإعادة قراءة النص من جديد لإثارة التأويلات المختلفة .وتلك لعمري هي لذة النص وشرارة الدهشة والإبهار التي تستوجبها تقنيات القصة القصيرة جدا. ألفيت قصص المتقي لا تحكي ولا تمثل حكاية بالمعنى المتعارف عليه في الرواية ، وإنما تصف اللحظة، وتقتنص الحدث وتعتقله في كلمات مشحونة، مكتنزة بتعدد دلالات الحدث أو المكان ،في شكل ومضة سريعة الإبهار ، على ضوئها وإشعاعها المنعكس ، يعيد بناء العوالم السفلى، التي تجري أحداثها المتنوعة ،بكل تفاصيلها الموغلة في البساطة في مطاعم ،مقاهي ، حانات، وقطارات محطات البنزين غرف النوم ليس كما هي، ولكن كما يحب هو أن تكون،حيث يزرع فيها الدفء ومتعة الاكتشاف بعين عذراء مغايرة لما هي عليه في الحياة اليومية العادية ، ليجعل من العادي والمتكرر والمألوف شيئا جديدا متجددا ومدهشا ، حيث يغدو عمق الأشياء في بساطتها ،كيف لا وهو المتمرس على فن القصة القصيرة جدا والمفتون بعشقها، ومن اجلها عيونها وفتونها طلق القوافي وهجر القريض.
في / وبقليل من الملائكة يدعونا المتقي لإعادة النظر، بعين ثالثة، في مجموعة من الافكار البالية،كما في قصة لوحة ص 55 حينما ترسم البنت الصغيرة بالفحم على الرصيف فتى لتنام فوقه وتتلذذ به ،تصفع الأم فخديها ووجهها وتنزع الطفلة من ضفائرها بوحشية بدائية، تنم عن تكلس في الأفكار وتحجر في الرؤى. أما عن التيمة المهيمنة على نصوص المجموعة ،فكل ما أمكنني القبض عليه هو معرض من اللوحات التشكيلية /المجنونة/ المدهشة حتى الافتتان، لتأبيد وتخليد لقطات الحب والخيانة والتمسرح والضحك الممرد بالبكاء، والفلسفة والمشاهد السريالية إلى غيرها من المواضيع التي طوعها الكاتب فأضحت لوحة فنية ذات أبعاد ودلالات متعددة ،تمتح من الذاكرة والبصر والمشاهد اليومية. كل هذه الفوضى المنظمة داخل المجموعة تؤكد طرح الجنون الجميل وتزكي القولة التي صدّر به الكاتب غرة المجموعة (بقليل من الجنون نغير العالم) لكازانتازكيس وقولة هنري ميلر (إذا ما رأيتم رجلا ذا ميول كلاسيكية ، رجلا لا يصاب بالجنون ولا يمارس الانتهاك اقبضوا عليه وزجوه في السجن) وأضيف قولة لصديقي زوربا :«إن لكل إنسان حماقاته، لكن الحماقة الكبرى في رأيي هي ألا يكون للإنسان حماقات»
ومن بين ابرز ملامح هذا الجنون، المشهد السريالي الذي سيبتر فيه الزبون قضيبه قبل الاستمتاع بلذة طبقه المنتظر، وكذا نص فان غوغ وإيحاءاته. إلا أن المرأة أيضا – وبتصفح بسيط وسريع لنصوص المجموعة سنجدها- تستأثر، كما في الكرسي الأزرق، بالنصيب الأوفر وتمثل في مجموعة من المحطات الزوجة والأخت والحبيبة والمرأة الخائنة والعاهرة ووالجدة وووو.
ورغم الغياب المطلق لضمير المتكلم ، وحضور ضمير المخاطب فان القاص غير محايد في نصوصه بل حاضر ضمنيا في النصوص متخفيا تحت يافطة شخصيات أخرى .لكن عندما يظهر ضمير المتكلم للمرة الوحيدة فقط تأتي في ص 47القصة الضاربة في المتعة والإبهار، ولعلها بدون تحفظ،في اعتقادي، أجمل قصة على الإطلاق حيث لا مجال فيها للصدفة وتنامي الأحداث، بل متوالية هندسية بديعة، تتنقل بلغة ساحرة، من زمان لزمان بتراتبية فنية غاية في الإبداع والتناسق بخلاف قصة ذاتَ (ص)57 التي جاءت هي كذلك بهذا التطابق الزمني في الفصول حيث ذاتَ شتاء قديم …و..ذاتَ ربيع ازرق و …ذاتَ صيف حارق و..ذاتَ خريف حزين، إلا أن قصة طين (ص47)، قصةًً من طين آخر، حيث السنابل الصفراء والأفاعي صيفا، وللدفء والتدفئة شتاء تتزوج أمي( الزواج الذي هو في حقيقة الأمر لدغة ثانية من الأ فعى الثانية ) تتزوج من بائع للمعاطف المستعملة، وفي الخريف تنتزع الصورة وترميها في الزبالة كما أوراق الخريف ، وتنتهي اللعبة بالغضب والغيرة والاحتماء بالجدة ، كل ما تبقى من دفء و رائحة الوالد المتوفي غيلة ربما !
« في صيف بعيد،مات أبي بلدغة أفعى في حقل من سنابل صفراء،
في شتاء دافئ، تزوجت أمي من بائع للمعاطف المستعملة،
وفي خريف ما ، انتزعت صورة أبي من الجدار ، ورمتها في كيس للأزبال.
نظرت إليها بملء غضبي، بصقت على الأرض، ثم اندفعت خارج الدار، وبقيت طوال حياتي قريبا من جدتي في علبة من طين.»
لابد من الإشارة بل الاعتراف بما حصل لي من ارتباك وأنا اقرأ قصة مجرد درس ص52 فالوطن “عائد” في نظري وليس “غائب” كما ف القصة ،لان العودة في اعتقادي ضرورة مكملة لغبطة الأستاذ وهو ينصت بإمعان ويتدبر للتعاريف والتمثلات الساخرة التي لا محالة ستقوي فكرة الانتماء للوطن الحقيقي، وليس الوطن المستباح من طرف شردمة الانتهازيين
اما في قصتي play” ” (ص38 )و رحيل العمر (ص 60)كأنما يشد المتقي بنعومة موغلة في التأدب، على أذن قارئه ليهمس له منبها ، بمنتهى الذكاء والحرفية ،أن زمن الحكي ولى، وهو زمن ساحر وجميل بكل تأكيد، لكن مشاغل وانشغالات الناس وهمومهم اليومية التي لا تنتهي، وما أحدثه عالم السرعة من تغيير على كل المستويات ،وكذا غزو الألعاب الالكترونية والنت والرسوم المتحركة للبيوت، عجل بزوال دور الجدة( ربما الرواية؟ ولم لا القصة؟ ) وزوال زوادة الحكي الممتع، وماعاد الأطفال يتحلقون ليلا ويعتكفون في حضن الجدات الدافئ- كما أيام زمان -ويحلقون على بساط الريح المسحور .بل ماعادت الجدات ،أصلا ،(في موضوع آخر) تجدن مكانا مشرفا ،لائقا وآمنا ،في البيوت ، تلدن إليه، إلا الأماكن الرطبة المعتمة ،كما سلعة زائدة مآلها الزوايا المنسية. حيث غابت القيم الأخلاقية والروابط العائلية الحميمية ووشائجها المقدسة لتحل محلها — حسب دلالات النص المتوارية خلف السطور-،جفاء وبرودة صقيعية بين أفراد الأسرة و تبني سلوكات ينتفي فيها الحس الديني والوازع الأخلاقي والإنساني ككل . (أحفاد ….يتابعون بعشق شريطا للرسوم المتحركة ثمة جدة في زاوية معتمة تفرك حكاياتها بالتيد والصابون حتى لا تتعفن ……..ثمة جدة مفقوسة سبب لها plystation خريفا غامضا) ص38
متسائلا في حيرة وأسى عن هذا الخريف الغامض للجدة كذلك في قصة رحيل العمر
« ثمة ما يشبه الهيكل العظمي، في زاوية معتمة.
ثمة أحفاد يتابعون بشغف شريطا للرسوم المتحركة،
وثمة جدة « مفقوسة »، سبب لها النمر المقنع
خريفا غامضا»ص60
وبعد هذه النظرة العجلى على قليل من ملائكة المتقي ، يظهر جليا ان المتقي مازال، بعد “الكرسي الأزرق”، ممسكا بسياط السرد القصير ممتطيا صهوة القصة القصيرة جدا متعجلا الوصول بها إلى ضفاف أجمل وشواطئ وآفاق أرحب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قاص من المغرب
خاص الكتابة