لأن محبة الكل مشروطة.. قراءة في رواية “الكل يقول أحبك” لمي التلمساني

الكل يقول أحبك
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبير سليمان

هل حقاً في أيامنا هذه أصبحت محبة الكل مشروطة، أي لم يعد هناك حباً خالصا دون منفعة ؟

بهذا التساؤل تبدأ مي التلمساني في سرد حكايات أبطالها عبر خمسة فصول، في كل فصل يحكي بطل حكايته وتجربته، مثلما فعل من قبل نجيب محفوظ في الكرنك، وهو أسلوب سرد متعدد الاصوات يدخل القاريء عبر كل صوت داخل كل شخصية بكل تعقيداتها وصراعها الداخلي، تتضافر الفصول وتمتزج فيما بينها، دون تشتيت للقاريء، وبرعت التلمساني في الإمساك بخيوط الحكايات لتخرج الرواية في بناء محكم دون إفراط في التفاصيل، لذاخرجت لنا الرواية مشوقة وممتعة، حتى نصل للفصل الأخير الخاص بالبطل ” بسام” الجان المحبط الذي هو محور الأحداث بالنسبة لكل من البطلة نورهان وداينا سليمان، ويشكل لدى أولهن محطة فاصلة وليست نهائية، ساهمت في تغيير شخصيتها، ويشكل لدى الثانية محطة الوصول وبر الأمان، حيث يشترك كل من طرفي العلاقة في تشابه الاحتياجات النفسية والمادية، فيجتمعان ويجد كل منهما ضالته في الآخر، رغم تمرده وعدم ميله للاستقرار، مثل كثير من الرجال مثله، فهو يعلم أنه مرغوب، ويجيد اللعب بالحيل العاطفية ليصيد فريسته ويجذبها إليه، ثم يبرع في الفرار من أي قيد يحرمه من حريته.

تقدم لنا الأديبة مي نماذج متنوعة لعدة رجال شرقيين يعيشون في كندا، تضطرهم الظروف للهجرة هربا من حياة غير مستقرة ماديا ولا تليق بأساتذة جامعة في بلادهم، وفي هروبهم من حياة لاآدمية يحاولون تعويض كل ما فقدوه بالعيش بحرية في بلاد الغرب، تبدأ فصول الرواية بكمال المصري الذي يعاني إحباطا عاطفيا لتجاوزه هو و زوجته سن الستين، ثم تقدم لنا كريم ثابت وتنتهي ببسام، والثلاثة يشتركون فيما بينهم بمعاناتهم من الصراع الداخلي بين حبهم لوطنهم الأصلي وكراهيتهم للأوضاع التي أجبرتهم على الهجرة، وفي سعيهم للتمتع بكل مباهج الحياة وخوض المغامرات العاطفية دون قيود، ينشدون من خلالها التوازن النفسي والثقة.

يعترف كمال في حديث داخلي صامت أنه بدأ مغامراته العاطفية بعلاقة مع صديقة إيرلندية، وصف مشاعره تجاهها ” أنه كان يشعر معها براحة واطمئنان، ووجد تعويضا عما يفتقده، لكن بعدما نضبت الرغبة افترق عنها لشعوره بالذنب تجاه زوجته، ويعترف بأنها كانت مجرد صداقة مع فوائد!”.

 ويكمل اعترافاته الداخلية بأنه لم تبق في ذاكرته إلا لينا العقاد السورية، والتي تولدت علاقة الحب بينهما لتشابه احتياجهما العاطفي، وهربا من روتين العلاقة الزوجية، معترفاً بأنه اكتفى بإعادة اكتشاف معاني جديدة للشهوة، والتحرر مؤقتا من القيود والأماني، وبعد افتراقهما حاول تعويض بعدها عنه في الواقع بحضورها الطاغي في الأحلام، ويذكر نفسه بأنه قضى فترة امتدت عامين في تأرجح بين الرغبة في الاستمرار والخوف من التغيير، وكيف انتهت العلاقة عندما اعترف كل منهما بعدم القدرة على التضحية بزوجه وبعلاقة آمنة ومستقرة، حتى إن تسرب إليها الملل القاتل، وأكبر دليل على أن العلاقة هنا تجسد حباً مشروطا أنه لم يسع للاحتفاظ له، وحاول نسيان حبه بالاستسلام للمشاعر التي يحاول اكتشافها من جديد مع زوجته ناهد.

تتشابه شخصيتا كمال وكريم، لدرجة يشعر كمال أنه يرى في كريم امتدادا له، وربما أيضا يعيش حالته، يحاول التمرد على روتين حياته مع زوجته، التي يحبها ويعترف بأنها تعلم كيف تلبي احتياجاته العاطفية، بالرغم من ذلك هو أيضا يقع في سحر إغواء صديقته اليشيا، تحاول نورهان محاصرته، إلا أنه لا يمل من محاولات التقرب من الصديقة لتحررها ولأنها تعكس الصورة المختلفة لزوجته، فهي جامحة تعيش حياتها بدون قيود، وهذا النموذج يحبه الرجل الشرقي لكن حبا مؤقتا، ويرفض الزواج منه، بالنسبة له هي فقط وسيلة لإنعاش قلبه وإشباع رغباته.

من خلال حكايات شخصياتها تنتقل بنا التلمساني من مكان إلى آخر في أقصى شمال القارة الأمريكية الشمالية، مرة تأخذنا داخل قطار، ومرة اخرى في إحدى المطارات لتحكي لنا حكايات ممتعة مثل حكاية “لستر بيرسون” الذي أطلق اسمه على مطار تورنتو، لنعرف أنه من الحاصلين على جائزة نوبل للسلام سنة 1957، قبل أن يصبح رئيسا لوزراء كندا في الستينات.

عندما نصل لحكاية نورهان، نجدها تروي كيف نشأت علاقة حبها ببسام، وتبرر ما حدث بأن فقدها لأمها بعد معاناة مع السرطان جعلها تقع في الحب بسرعة وتستسلم بكل جوارحها له، وأن هذا يحدث في سنوات الشباب المبكرة، إذ يحتاج الإنسان لعلاج الفقد الموجع بوخزة لذيذة في القلب، ولفارق السن الكبير بينهما “عشرون عاما” يعرف بسام كيف يحتل قلبها، فهو صاحب تجارب وهي مازالت بريئة وساذجة، هو أول حب يطرق باب قلبها وهي بالتأكيد ليست أول النساء في حياته، تصف حبها لكريم بمنتهى الصدق بأنه حبا لا علاقة له باللهفة، ولا بالاكتمال في الآخر، وأنها أحبته لأنه زوج ثابت ومستقر يرضيها جنسيا، ومع نورهان تحدث نقطة تحول في مسار الأحداث عندما تلتقي بداينا، وتكتشف أنها زوجة حبيبها القديم بسام، فينقلب كيانها، وتصاب بالغثيان وتعجز عن إخفاء مشاعرها فمهما تقدم بنا العمر لا ينسى الواحد منا أول حب أو أول صدمة هزت كيانه.

ونقطة التحول هذه تنقلنا إلى حيث بداية العلاقة بين داينا وبسام، وكيف تطورت العلاقة بينهما ستدهشك قدرة داينا على احتلال حياة رجل متزوج في حكم العازب، وكيف أنقذته من حالة الاكتئاب وعدم الاستقرار العاطفي مع زوجة مريضة نفسيا تتلقى العلاج في مصحة ثم تتوفى، فلا يجد أمامه سواها لتعويضه عن معاناة سنوات، وقد وجد كل منهما في الآخر ضالته المنشودة.

تنتقل بنا مي التلمساني في سلاسة بين محطات حياة أبطالها المختلفة، بداية من تركهم لبلدهم الأصلي وهجرتهم إلى كندا، ثم تنقلهم داخلها من ولاية إلى أخرى،  وارتباط كل مكان لديهم بتجربة ما مهنية أو عاطفية، وتقدم لنا عرضا موجزا عن تاريخ مجزرة حماة، والحرب الأهلية اللبنانية، وكيف نجح بطلها بسام الحايك في الهجرة الغير شرعية أولا، وكيف أنقذته زوجته الكندية من الهلاك عندما منحته الجنسية، وتجاوز بفضلها حالة ال ” تروما” وإن لم تغادره بالكامل.

لم أندهش عندما وصفت التلمساني حالة المراوغة لدى بسام ومحاولته الفرار من الزواج حتى ممن أحبها، لدرجة أنه ظل يماطلها عامين قبل أن يستسلم لها، وكيف لايكف عن التماس العذر لنفسه في علاقاته الغرامية المتعددة وقلت لنفسي ببساطة إنها عقدة الرجل الشرقي الذي يرفض الظهور بمظهر الخائن أو الأناني!

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم