ممدوح رزق
كنت أعمل بصورة مؤقتة محررًا عامًا، وبتحريض فاتن من فيلم shattered glass فكرت في كتابة موضوع مختلق للجريدة ـ لا تنقصه بالطبع الحصانة اللازمة من الشكوك ـ عن عجوز تجاوز السبعين، يعيش وحيدًا، تعلم في سنواته الأخيرة القرصنة الإلكترونية، يقرر السطو على أحد منتديات مدينته على الإنترنت كي ينشر من خلاله ذكرياته عنها، ضمن تاريخه الشخصي والعائلي المرصّع بالأكاذيب الانتقامية، والتي تضمن في الوقت نفسه أن يحتفظ ذلك الماضي بقدرته الاستحواذية على اهتمام زوّار المنتدى بعد الاستيلاء عليه.
وكما هو متوقع بشكل خفي؛ تبدّل صوت الفكرة بداخلي ليصبح همسًا مغويًا لرواية تريد التكوّن؛ فبدا كأنها تخاطبني مثل ضوء سحري مفاجئ: هذا العجوز ليس إلا أباك، أي أنه أنت.. اكتشفت حينئذ أن الفكرة في البداية كانت حلمًا متنكرًا لي بأبي.. بنفسي حين يكون كل منا الآخر، أو كما كتبت بعد ذلك في “الفشل في النوم مع السيدة نون”: “في (خلق الموتى) كانت هناك سردية مضادة عن قتل الابن استخدمتها لقتل الأب، ثم لإعادتهما إلى الحياة في صورة أخرى.. التخلّص بالدعابة من الأبوة، والبنوة معًا فلا أحد منهما يطيق الآخر، وكلاهما يتبادلان دوريهما، ويتصارعان طوال الوقت.. كأنه وجه آخر ـ هزلي ـ للذنب الأوديبي عند (ديستوفيسكي) في (الإخوة كرامازوف) .. ربما أمي هي التي كتبت (خلق الموتى)، وتكتب الآن (الفشل في النوم مع السيدة نون) بطريقة ما”.
قبل ذلك كنت قد بدأت في تجهيز دراسة عن “الغفلة”، أو ما يشبه حفلًا أبيقوريًا لتبادل اللعنات الساخرة واقتفاء تماثلها بيني وبين شارلي شابلن “Modern Times”، توم هانكسForrest” Gump”، تشاك بولانيك “نادي القتال”، هرمان هسه “صيف كلنكسر الأخير”، بورخيس “التاريخ الكوني للخزي”، وودي آلان ” Annie Hall”، كونديرا “البطء”، نابوكوف “العين”، وأيضًا كيركيجور وبوكوفسكي وأونجاريتي وغيرهم.. كشفت فكرة الرواية عن طموحها لاستعارة الوجه السردي لذلك العمل الذي لم أدوّن منه سوى بعض الصفحات التحضيرية.. كان هذا الطموح متوافقًا مع يقين متزايد بأن “الأخطبوط الكوني” أو “أن أعيش كل الحيوات وأموت كل الميتات” مثلما وصفته في رواية “سوبر ماريو” ليس هاجسًا وإنما مرض متجذّر، سيتجلى في “خلق الموتى” بواسطة ما سأسميه بعد خمس سنوات في رواية “إثر حادث أليم” بـ “التناص الوحشي” أو تحويل الأعمال الأدبية والفنية إلى نوع من الأحجية الزمنية.
هكذا بدا أن تحالفًا مستترًا ينشأ بين عدة إغراءات أساسية على نحو تدريجي، سيصير بعد اكتماله إلى نوع من التواطؤ القهري.. علاقات شبحية تنمو في ظلام الذهن أو تتجهّز بفضل بديهيات لاشعورية بين هواجس جمالية قد تتشكل ظاهريًا كانشغالات منفصلة.. ربما كنت مشاركًا دون وعي في ذلك التواطؤ بعدم الانتباه، أي بكيفية مبهمة من القصد تجاه مساحة الهذيان المكتشفة، والتي ستمتد إليها غابة الطفولة انتظارًا لاستقرار وحوشها على نبرتها الجديدة.. لكنها لن تكون جديدة حقًا، لأن تلك “النبرة” ستكون “الجاز”، وهذا ما يقودني للعودة مجددًا إلى “الفشل في النوم مع السيدة نون”: “هذه روايتي الثالثة، وللمرة الثالثة أحاول ـ بطريقتي ـ أن أشكّل الرواية على إيقاع (الجاز).. جربت هذا في (سوبر ماريو)، وفي (خلق الموتى) حتى أن أحد وجوه شخصية رئيسية فيها ـ لو أمكن التغاضي مؤقتاً عن الحماقة الكامنة في تعبير “شخصية رئيسية” ـ كان (عازف ترومبيت).. انعدام الحديث عن ملامح عمله كعضو بفريق (جاز) في الرواية ـ إضافة لدلائل أخرى ـ كان دافعًا عند القراء بشكل عام للتأكد من أنها مهنة وهمية، ومتخيلة .. حلم .. أمنية، لكنني ربما أجد الآن فرصة مثالية للتركيز العابر على أن إيقاع الرواية الذي يماثل إيقاع الجاز أفضل دليل على قوة الأمنية ـ لن تصبح أمنية فحسب مع هذا الاكتشاف الذي لم ينتبه إليه أحد لدى شخصية استبدلت الكلام عن الجاز بتنفيذه فعليًا .. الفكرة الشكلية لموسيقى الجاز ـ وهو عنوان مقال لـ (هيدن كاروث) ـ في (خلق الموتى) لم تعد مجرد هيكل كتابي أو موسيقي، بل أصبحت حياة، وموت .. لكن لماذا يكون تركيزي عابرًا على تلك النقطة؟! .. لماذا لا أسترسل قليلًا في الشرح مستعينًا بمقال (هيدن كاروث): (كلنا يعلم أن مؤدي الجاز عادة لا يضربون النوتة بقوة، ولكنهم ينسلّون إليها من الأعلى، أو من الأسفل، ونفس الطريق عند تلاشي النغمة، فالانزلاق، والانسلال، وعدم البراعة المقصود، والخشونة أيضًا جليّة في الأداء) .. (فكرة الجاز هي الارتجال العفوي في قالب بسيط، ومحدد) .. إيقاع الجاز في (الفشل في النوم مع السيدة نون) هو الفكرة الشكلية للجنس، وبصرف النظر عن الرواية نفسها فأداء الجاز ـ عندي ـ أقرب الأشكال الموسيقية للمضاجعة .. الكتابة بهذه الكيفية تتفحص الأثر المهيمن، والكُلي للشهوة عبر ألاعيب، وتقاطعات الوجود الخاص بواسطة توحد، وتقمص اللغة للهويات المتأرجحة، العنيفة للجسد .. كأنها تؤمن ـ بطريقتها أيضًا، ومثلما يتم التعبير عن روح الجاز ـ بأن (التحرر والانضباط يلتقيان في النشوة فقط)”.