أحمد فرج مريد
تشبه الحياة في العالم السفلي حياة الفئران الخائفة في المجارير.
وحتى فئران المجارير لم تسلم منا نحن؛ أطفال المجارير،
فاللعبة الرسمية لنا كأطفال أو قل متشردين: هي اصطياد الفئران الرمادية والسوداء، البارحة ظفرت بفأر أبيض وهذا كما يقال يبشر بفأل حسن.
غدا.. سأباشر العمل في البالوعة “كاف”؛ أول عملٍ لي في حياتي. توسط لي أحد أخوالي لدى قائد عمال المجارير لأعمل هناك. يقولون أن البالوعة كاف هي مكان فيه رزق كثير.
قال خالي لي في يومي الأول: لا تفتعل المشكلات، وإلا سينقلونك لمكان أسوءٍ بكثير! لقد حذرتك، فلا تقل خالي لم يفعل.
ثم مسح خالي على رأسي وقال:
المهم..أنت الآن رجل كبير.. والعائلة تؤمل فيك خيرا.
ما الخير الذي ستؤمله في؟ يا خالي – قلت في نفسي. أي خير في هذه الحياة الكريهة.
منذ اللحظة الأولى وأنا أكره نَفَسِي ورائحتي العطنة، أكره أسناني الصفراء التي رأيتها صدفة في مرآة قديمة. حتى أسناني لا أستطيع أن أكرهها كفاية لأنني لم أرها في المرآة سوى صدفة، فالمرآة محرمة علينا، لكي لا ننشغل بأنفسنا عن العمل.
منذ اللحظة الأولى تخبرني أمي مؤنبةً: يوما ما ستنكسر رقبتك، لأنك تنظر عاليا ولا ترضى. أشعر بالحزن حين تقول أمي ذلك. فرقبتي بالفعل تؤلمني، ولكن ليس من النظر عاليا، وإنما من الآمال الملقاة على عاتقي.
في المجارير لا توجد أسماء أو كنيات، يوجد أرقام.
قال لي المسؤول عنا: هل تحفظ رقمك؟
-أجبت: 11-7
11 حيث المسكن، و7 رقمي في الأسرة.
نظر لي المسؤول حين لاحظ قلة اكتراثي وخمولي:
عليك أن تبذل ما في وسعك لأجل عائلتك. فهززت رأسي موافقا، ومضطرا.
صعدت السلم لأضع يدي بين ثنيات البالوعة مادا إياها عسى أن يرمي أحد المارة بقايا الطعام أو الفتات.
مرت الساعات ببطء، بثقل غريب، بأنفاس تحترق في الأعماق وتزفر بالذل.
وفجأة سمعت صوت جمعٍ يمر،
قال أحدهم: يا له من كائن مزعج، لا يتوقف عن مد يده بهذا الشكل.
فعلق أحدهم بجانبه: لماذا لا يقتلونهم ونتخلص منهم، كائنات كريهة.
بكيت..لم أعرف لماذا؟
مرت الدقائق التالية كأنها نغزات في صدري، شعرت بأنفاسي تتلاحق تخنقني، عيني جاحظة وتذرف الدموع بشكل مفرط، شعرت بشيء يتمزق.. لاحقا عرفت: إنها كرامتي!
حاولت التنفس بشكل أبطأ، عددت من 1 إلى 10 ببطء كذلك، هكذا أخبرونا، أن نوبات الفزع تصيب المبتدئين، لذا يجب عليهم أن يتنفسوا ببطء حتى تزول النوبة.
التقطت أنفاسي ثم بعد دقائق هدأت.
سمعت صوتا يقترب من البالوعة، فقمت بمد يدي بكل عزمٍ، وظللت أطلب الخبز في توسل عجيب، فاجأني من نفسي..
عرفت من الصوت أن المار هو رجل وولد صغير.
قال له أبوه: أعط قطعة خبز لهذا الكائن المسكين، لكن لا تقترب كثيرا، فرائحته كريهة.
حزنت..
حزنت كثيرا.. ما هذا الألم، لماذا كلماتهم تقتلني بهذا الشكل؟ لكن لماذا أتألم: أليست هذه هي الحقيقة!
ثم اقترب الولد، وكانت رائحته غريبة، رائحة تبعث على السرور وتشرح الصدر، فظللت مادا أنفي من بين ثنيات البالوعة أشم الرائحة لأكثر وقت ممكن.
هنا قال الرجل لابنه: أعطه قطعة من الكورواسون. فمد الولد لي قطعة، فأكلتها.
ما هذا الكورواسون؟ إنه .. إنه لذيذ جدا جدا.. أنا أشعر بشعور مختلف، لم أختبره من قبل، هل هذا هو طعم السعادة؟
ثم طلب الولد من والده أن يعطيني قطعة أخرى، فأعطاني..وحين أوشكت على أكلها، تذكرت أن عملي أن أجمع ما أستطيع للجميع، فقرصت نفسي مقاوما لهفي للمزيد من الكورواسون محدثا نفسي: أفق لا تكن أنانيا.
ظللت طول مدة رجوعي للبيت، أردد الكلمة: كورواسون! رددتها كثيرا وفي كل مرة كان تدغدغ قلبي، فصرت أدعو كل ما أحبه: كو- روا-سون.
“اسمها: كو-روا-سون لا كوراسين”. قلت مصححا لأحد أقراني.
تشجعت كثيرا للذهاب للعمل مرة أخرى، تفاجأت أمي من نشاطي في اليوم التالي، ولكنها سرت لأن الأمور تسير على ما يرام.
وبينما أنا في الطريق أتنقل بين المجارير، سارحا في الكورواسون، اكتشفت أني عبرت ممرا بالخطأ. حاولت أن أتذكر كيف أعود للمسار الطبيعي للعمل، وبينما أنا أتذكر، دهمني صوت من الخلف: هل ضللت طريقك؟ . لم ألتفت بسرعة فقد خفت على نفسي، وبدأت أعرق عرقا باردا من شدة الخوف، قدمي لم تحملني على الهرب. استدرت ببطء، نظرت إلى المتكلم، فوجدته رجلا كبيرا بالسن يجلس على عربة بعجل تحمله.
فاطمأننت..
ثم أجبته: مرحبا يا عم.. نعم لقد ضللت الطريق.
أخبرني الرجل الكبير: نادرا ما يزورني أحد.. هل تود أن تحتسي معي كوبا من عصير البطاطا.
نظرت إليه مستعجبا.. ثم لما التقت أعيننا، شعرت بطمأنينة عجيبة، هذا ليس وجها سيغدر بي.
شيء ما في عينه أخبرني أن طريقينا سيتقاطعان يوما.
دخلت إلى منزله الواسع، كل شيء منظم بعناية تستغربها على ساكن من سكان المجارير.
تبادلنا الحديث بينما يسكب عصير البطاطا، فأخبرته عن عملي بالبالوعة كاف، ولما انتهيت من الحديث مد إلي كوب العصير. شربته، ومن شدة إعجابي به قلت له:
كورواسون!
ضحك الرجل من الكلمة. فظننت أنه لا يعرفها، وحين هممت أن أشرح له، بادرني:
أعرف هذه الكلمة.. لقد..لقد.. كيف عرفتها أنتَ؟
فأخبرته. وحينها قص قصته علي.
هذا الرجل حاول الخروج إلى المدينة العلوية في يوم من الأيام، وعاش بين سكان المدينة العلوية متخفيا.
قبضت عليه الشرطة بعد فترة لأن رائحته تبدو كسكان المجارير..
كان الكلام مسليا جدا، ولكني تذكرت أن لدي عملا وسأعاقب إن تأخرت أكثر من ذلك، فاستأذنته في الذهاب على أن أعود إليه كل يوم ليقص علي رحلته إلى العالم العلوي.
مع مرور الوقت تجددت اللقاءات بيننا، فصار صديقي، فكنت أدعوه الحكيم، وهو يدعوني الصغير.
كان هناك شيئا جميلا في أن ننادي بعضنا بصفات حقيقية؛ حية.
بعد فترة من العمل في البالوعة كاف، شعرت بالضجر..
ثم في لحظة حماس أخبرت الحكيم عن نيتي في تكرار تجربته.
أصابت الحكيم نوبة فزع كالتي مررت بها، ونهاني عن ذلك بعد أن هدأ. أخبرني أنني سأقاسي فوق ما كنت أقاسي ولا داعي لذلك. ثم قال: يا صغير أنا أحبك ولا أريد لك إلا الخير، لا تفعل أرجوك، أنت صديقي الوحيد ولا أريد أن يصيبك أذى.
لكنني كنت عزمت بالفعل، وكلمت أحد المهربين إلى العالم العلوي واتفقت معه على قطعتي كورواسون ظللت أجمع -فيهما لشهور- نظير ذلك.
وحينما أخبرته بموعد الرحيل بكى. تمنى لي التوفيق ثم قال:
أنت تتحدى موروث أجيال كامل. لن تتقبل الناس الفكرة وسيهاجمونك من أجلها، لكن ستكون حيا، حيا للمرة الأولى وأنت تفعل ذلك.
صعدت إلى العالم العلوي في ممر ضيق استمر لساعات وكلما اقتربت من الوصول أشعر برائحتي الكريهة تزول. لمحت ضوء الشمس. وقفت متسمرا ومندهشا!
“لم أر الشمس يوما كقرص كامل..” قلت بينما أخرج ببطء من الممر إلى الجهة الأخرى
وحين رأيت الشمس كاملة لأول مرة، بكيت! بكيت من شدة الفرح. كانت هذه أول مرةٍ أختبر فيها شعورا كذلك الشعور.
ظللت أبكي بصوت عال جدا.. وأقول: لا ااااااااااا إنها الشمسُ، إنها كورواسووون.
ويبدو أن صوتي كان عاليا جدا للحد أن انتبه أحدهم لي، اختبأت وراء صندوق.
وفجأة وجدت يدا تسحبني وتضربني بالعصا.
فتحت عيني ببطء والنور مسلط على عيني. سمعت أحدهم ينهرني: استيقظ! بينما يلكزني بالعصا.
فهمت بعد ذلك أنني في شيء يدعى مخفر الشرطة.
كان الجميع ينهال علي بأسئلةٍ كثيرة: من أنتَ، ما قصتك؟ هل أنت من كوكب آخر؟
لم أفهم أي شيء مما يقال.
ثم بعد أن هدأت قليلا أحضروا لي شرابا لأشربه فقد بدا علي الوهن من قلة الطعام وكثرة الاستجواب.
ولما تذوقت العصير شعرت بشيء جميل يصعد إلى أعلى رأسي لم أدر ما هو، غير أنني قلت صائحا: كورواسوووووووون !
ضحك الجميع مني، وأخبروني إن تعاونت سيحضروا لي ما أشاء من الكورواسون، فوافقت متشجعا.
وصل خبري إلى الهيئات العليا، والتي طالبت بعقد فحوصات لي، وتبين أن لدي أعضاء تشبه الإنسان العلوي.
ثم قاموا بغسلي بالماء وشيء يدعى الصابون، وقام أحدهم بقص شعري، فكنت أدفعه ولكنهم ثبتوني رغما عني.
وبعد فترة من كل هذه التصرفات الغريبة وضعوني أمام المرآة، فقلت لهم:
إنها مرآة أعر… ثم صمت طويل..
من هذا؟ قلت. ماذا فعلتم بي؟ صرخت. ا ه ه ه ه بكيت.
حينها أحضروا لي معلما للبديهيات يأخذ بيدي ليحكي لي كل شيء تدريجيا بشكل أفهمه.
وبعد شهور من التحاور، طلبت اللجنة العليا أن تجتمع بي.
دخلت إلى بهو فسيح ومكان يبدو كأنه الجنة، ويبدو أنها حلقة من الكراسي وفي المنتصف من المفترض أن أقف أنا.
كان السقف به رسومات غريبة لأطفال تمسك أقواسا ورجال ونساء عاريون.
لأول مرة أرى صدر امرأة وصدر رجل وأشياء أخرى عرفت ما هي بعد ذلك.
طرحت اللجنة علي عدة أسئلة، فأجبتها بما أعرف.
وأخبرتهم أن هناك حكيما حاول الدخول من المجارير إلى العالم العلوي ولكن الشرطة ردعته.
فأخبروني بعلمهم بقضيته، وأنهم أرجعوه منذ زمن طويل لأنهم لم يفهموا ما هو.
ثم أخبروني بعد تقييم طويل أنني منحت درجة : إنسان.
انتشر خبر صعودي إلى العالم العلوي بين جماهير العالم العلوي.
وعقدت مناقشات بشأني، وبشأن العالم السفلي، وبعد أن أوضحت اللجنة العليا للجماهير أنني وسكان المجارير لا نمثل خطرا، قرروا أن يسمحوا لهم بالعيش في مكان مخصص لهم مؤقتا حتى يتأهلوا ليصبحوا بشرا كاملين.
طلبت من اللجنة أن أذهب وحيدا إلى المجارير لأري الناس أن هناك حياة للجميع في العالم العلوي.
ذهبت إلى الفتحة التي خرجت منها، وحين خطوت خطوتين، هوى أحدهم بهراوة على رأسي.
يبدو أن أخباري بشكل ما وصلت عالم المجارير.
فتحت عيني لأرى رجال شرطة المجارير حولي يمطرونني بوابل من الأسئلة مع الركل والضرب والدماء والعرق.
قال أحدهم: أتظن لأنك لبست مثلهم وأكلت مثلهم ستصبح واحدا منهم.
انهرت صارخا: أجل سأصبح منهم، وأنتم ستصبحون منهم، فهناك مكان للجميع، ولن أقبل بهذه المعيشة لسكان المجارير بعد الآن.
ضربوني وكبلوني وانهالوا علي بالشتائم واللكمات.
حتى صرت قعيدا كصديقي الحكيم.
وبعدها رموني في المجارير لأقاسي الموت البطئ.
أغمضت عيني ببطء وتمنيت شيئا واحدا: أن يصبح سكان المجارير بشرا.
بينما أشعر بشعلة الحياة تخبو، سمعت صوتا يهمس في أذني: لا تخف! ستكون بخير!
أفقت لاحقا لأكتشف أنني بين يدي صديقي الحكيم، والذي أخبرني أنه حذرني من مغبة فعلي.
ولكنني لم أسكت له، وأخبرته أنني لن أتوقف حتى إن مت.
فهدأني وطلب مني أقص عليه ما حدث.
حكيت له، تارة أضحك من كل قلبي، وتارة أبكي، وتارة أتحمس، وتارة أشعر بالخزي لما أصابني حين عدت بالخبر السعيد لسكان المجارير.
أخبرته عن نيتي إكمال ما بدأت. فاجأني بردة فعله وقال:
وأنا معك.
قمنا بنشر الخبر، أن الذاهب إلى المدينة العلوية عاد.
وبعد قليل وقتٍ في المكان المتفق عليه، حضرت جموع قاطني المجارير.
وبدأت أقص عليهم كل التفاصيل، وهم بين مكذب ومتحمس، بين ضاحك وهازئ، وبين حالم ومصدق!
حتى قلت: أتسمون هذه الحياة حياة؟ أتسمون الرائحة الكريهة والتقاط فتات الخبز حياة! لا ليست حياة، الحياة بالأعلى هي الحياة!
فجأة سمعنا جلبة بالخارج، وفوجئنا بقوات الشرطة تقتحم المكان، فلم أتوقف، وأخبرت الجميع كيف يذهبون إلى العالم العلوي، وهناك سيرحب بهم كبشر مكرمين.
وبينما أنا مندفع في إلقاء خطبتي، ألقى أحد رجال الشرطة علي هراوة ضخمة فأسقطتني من كرسي الذي أقعدت عليه.
وأحسست بلهب الحياة يخبو شيئا فشيئا..
وأنا أفقد الإحساس بكل شيء حولي، فقلت لهم قبيل طلوع الروح بصعوبة شديدة:
الأذى كل الأذى أن نموت ولم ندرك أن هناك حياة كالحياة.
لا تستسلموا من بعدي، كورواسووون
فهتف الجميع: كورواسووون
وخبت الحياة .. وبينما تصعد روحي، شعرت أني أراقب الجميع من فوق.
أتخيل الفتيات يلبسن فساتينا جميلة وحلي، والأطفال يلعبون ويتعلمون، والنساء والرجال سعداء ولديهم ما يكفيهم.
فاطمأننت، ورحلت روحي عن عالم المجارير السفلي، لتعيش خالدة بين أروقة العالم العلوي الجميل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وكاتب محتوى مهتم بأدب الأطفال وتقديم المحتوى القصصي بكافة أنواعه من حكايات وأغان وبرامج ترفيهية..