كانت مشكلة كافكا ألكبرى هي كيف يوازن بين سخط ألعائلة ،ألأب ،ألأم ،وبين تربيته ألحياتية ،دراسة ،معتقدات،عاطفة،تلك ألاشكالية صنعت منه كافكا ألذي عرفناه من خلال ما قدمه لنا من منجز أدبي ثر ،وما لانعرفه عنه من خصوصيات ذهبت معه إلى ألعالم ألثاني،وهذا ماأختلف ألباحثون عليه عندما تناولوا سيرة حياته ألمختلفة وألتي تأرجحت بين حنان مفقود وعواطف سرعان ماانهارت وبين سوداوية تسلّلت كالفيروس متشظية بين ثنايا قصصه ورواياته.
ولد فرانز كافكا في مدينة براغ عام 1883 في كنف عائلة ميسورة ،ولما شب أحس بظلم أبيه لعماله ألذين يعملون في مؤسسته،أما عن أمه فكان يرى إسم عائلتها مصدر كل غدر وجبن سرعان ماأنعكس على شخصيته وهكذا كان ينظر إلى هذه ألعائلة نظرة إحتقار بناها ذلك ألأب ألقاسي وألأم ألمتعجرفة وهو ما إنعكس سلبا”على ألشخوص ألتي تناولها في أعماله ألأدبية ،حتى مدرسته ألتي كان يعتبرها مسؤولة تماما”عن ضمور ميزاته ألفردية في مراحل حياته ألأولى ،هذه ألعوامل إنعكست سلبا”على علاقاته ألعاطفية ألثلاث فتوجت بالفشل فبات يسأم حتى من تلك أللحظات ألتي يعيشها فكان يقول:( إنها لحياة مزدوجة ،رهيبة حقا”،لاأظن ان هناك مخرجا”آخر منها سوى ألجنون ).
شكل له ألأب عقدة أضافها إلى عقده ألكثيرة فكتب:(أنت وراء كل معاناتي) وفي رسالة إلى أبيه بعد أن تركه هاربا”من قسوته وطغيانه :(هذه ألرسالة قلت فيها ما لاأستطيع أن أقوله وأنا بالقرب منك أوعلى صدرك) .
يذكر ألمفكر ألفرنسي روجيه جارودي في كتابه (واقعية بلا ضفاف) ان والد كافكا كان في نظر إبنه صورة مصغرة للمجتمع ألضاغط ألذي يدفع إلى الاحساس بالغربة ويخنق شخصية ألأنسان ،فالغربة عنده نتاج ألعلاقات الأجتماعية وقد عاشها أول ألأمر في شكل علاقته بأبيه.
أضحت تلك ألعلاقة معيارا”لتصرفات كافكا فعلى ألرغم من حصوله على درجة ألدكتوراه في ألقانون فقد أتجه لقبول عملا” صغيرا”لا يتناسب مع هذا ألمؤهل ألذي حصل عليه ،في مؤسسة للتأمينات ألعمالية ضد الحوادث في بوهيميا عام 1908 هربا”من سطوة ألأب يقول في ذلك:(درست ألحقوق وهذا يعني إنني أرهقت أعصابي تماما” وتغذيت بالنفايات ،ومما يزيد ألطين بلة إن هذه ألنفايات لاكتها ألآف ألأفواه) .
في عام 1902 ساقته ألمصادفة أن يلتقي (ماكس برود) ألذي أصبح فيما بعد من أخلص أصدقائه وناشر كتبه بعد موته ،وطوال عشرة سنوات من كتابته للقصص ألقصيرة يفاجأنا كافكا مع بداية ألعام 1912 بروايتين تعتبران من كنوز ألأدب ألعالمي هما (ألتحولات) و(ألمحاكمة) وقد أحدثتا هزة عنيفة بعد نشرهما ،وقد تناولنهما ألسينما ألعالمية خاصة عمله ألروائي ألمحاكمة ألذي أنتجته هوليود عام 1962 وقامت ببطولته ألنجمة ألمعروفة رومي شنايدر.
في مقطع من مقاطع هذه ألرواية نقرأ:( تخيل نفسك تستيقظ في صبيحة أحد ألأيام لتجد نفسك رهن ألأعتقال بدون أية تهمة ،ومطالبا”بالمثول أمام قاض ألتحقيق ألذي يبلغك بفقدان حقوقك ،وتمثل أمام محكمة يستحيل ألوصول إليها ،وقانون غير مرئي وحكم لايمكن ألتنبؤ به ) هذه هي أجواء ألرواية ألتي قال عنها ألكاتب ألقدير توماس مان:( إن عقلي ليس معقدا”بما فيه ألكفاية لفهم ألمحاكمة ) كذلك قال فيها ألشاعر كورت توخولوسكي:( إن ألمحاكمة كتاب لايقدر إنسان بمفرده طوال حياته أن يفسره تفسيرا”كاملا”).
أخذ صديقه ماكس برود على عاتقه نشر نتاج كافكا بعد أن صرعه ألمرض فنشر له / ألقلعة / عام 1926 و/ أمريكا / عام 1927 و/ ألتناسخ / و/ ألغائب / و / طبيب ألقرية / و/ فنان ألجوع / و / ألحكم / و / يوميات فرانز كافكا / ألتي حررها برود وكذلك / ألقضية / و/ ألقلعة / ألتي أعيد نشرهما.
في تساؤل لأحد ألباحثين في أعمال كافكا يقول: ( ما ألذي يغري كافكا بالنهايات ألمفزعة ،حيث يموت ألبطل دائما”مع إختلاف ألأساليب،فبطل ألقلعة يقتل،وبطل ألمحاكمة يعدم ،وبطل ألمسخ يموت وكأنه حشرة بشعة) وذهبت إحدى ألمجلات ألفرنسية مطالبة أن تحرق مؤلفات كافكا لأنه داعية إلى ألهدم وأليأس ،بل إن أديب فرنسا جان جينيه يقول:( ياله من حزن ! لاشيئ يمكن فعله مع كافكا هذا،فكلما أختبرته وأقتربت منه أراني أبتعد عنه اكثر) بل وصل به ألأمر أن يشك في نفسه وفي قدرته على ألتحصيل وألفهم فقال:( هل ينقصني عضو في جسمي ؟ فقلق كافكا وضجره أفهمهما جيدا”لكني لا أقبلهما أبدا”)
كان كافكا يستعين إثناء حديثه بأعضاء جسمه ووجهه كاملة،كما وصفه ألمقربون منه ،وكان بسيطا”،خجولا”،يائسا”،معذبا”،وكانت حياته ألبارزة هي ألغضب ألذي يولده ألقلق.عام 1917 بدأت أعراض مرض ألتدرن ألرئوي تظهرعليه ،وقد كتب عن مرضه يقول:( آلام ألرئة ليست سوى إنعكاس لآلامي ألمعنوية).
في نظرة سريعة لاهتمامات كافكا ألأدبية تقودنا أعماله ألتي كتبها وتفصح في ذات ألوقت عن تأثره بدستويفسكي وتولستوي وجوركي فكان ذلك ألتأثر واضحا”في أعماله خاصة أبطاله من ألعمال ألمقهورين بالآلات والمعذبين بالتشريعات،وعلى ألرغم من إنه عاش أعواما”قصيرة إلا إنه أستطاع أن يحدث خرقا”في ألكتابة ألروائية وأن يصبح قدوة لكل من جاءوا بعده فتأثيره على ألرواية ألألمانية وألأوربية بشكل عام واضح لالبس فيه بل وصل تأثيره إلى أمريكا ألشمالية وأمريكا أللاتينية وحتى عالمنا ألعربي ،وكافكا هذا أعتبر رائد ألكتابة ألسوداوية أو ألكابوسية ألتي يعّرفها ألقاص ألمصري ألمعروف يوسف ألشاروني بأنها(تصوير ألأحداث غير ألواقعية بطريقة تبدو واقعية للغاية كما يحدث في ألكابوس ،فالبطل في أعماله الأدبية يعيش ألحدث ألكابوسي حيث تتزاحم عليها ألتفصيلات ألواقعية ،ولكن بشكل يوحي بأن هناك قوى ما تتخذ موقفا”مضادا”لها بصورة تتحول معها ألحياة ألطبيعية لهذه ألشخصية إلى ما يشبه ألكابوس،وهذا ما نراه متجليا”في أعماله ألروائية ألمنشورة بعد وفاته كالقضية وألقلعة).
ويمكن ألقول وبتعبير أحد ألكتاب إن كافكا خسر ألحياة ولكنه ربح ألأدب.
ويبقى من كافكا وهو يودعنا عام 1924 متأثرا”بمرضه ألمزمن إن حياته ألعاطفية إنتهت بعد ان حسم أمرها لصالح أدبه ألذي إختاره وعرف أنه ملاذه ألأخير ،فالمرأة ألتي أحبها وخطبها مرتين ثم تخلى عنها في آخر لحظة أصبحت كابوسا”هي ألأخرى تضاف إلى كوابيسه ألعديدة وظهرت هذه ألأشكالية في عدد من رواياته وقصصه خاصة في قصته ألقصيرة ( جريمة قتل) ألتي أراد فيها كافكا أن يكون وداعه مع ألنساء أللاتي أحبهن وداعه ألأخير ،فسكماربطل قصته أعطاه ألشجاعة ألكافية لكي يقتل ألمرأة ألتي أحب ،وأعتبرذلك ألفعل إنتصارا”عجز عنه كافكا من تحقيقه في حياته.
ومن ألجديربالذكر إن هذا الموبوء لازال يشغل ألحياة ألثقافية ألعالمية ،وفي كل عام تعاود رواياته وقصصه لتتصدرألمكتبات بطبعات جديدة،أما مايكتب عنه فلا توجد لديناأحصائيات بهذا ألصدد ولكن ألجديد في هذا ألمجال صدور رواية عن علاقة كافكا بأمه بعنوان (ألأذى) للكاتب ألمكسيكي سيالتييل ألتريستي ،ورواية ثانية بعنوان
( لغز إبن كافكا ) للروائي ألأمريكي كورت لوفيان وبين والد كافكا وإبنه ألمفترض تكمن ألمغامرة ألكتابية كما يقول ألكاتب رواد خير ألله ألذي نقل هذا ألخبر ،ولا نعلم
متى ستتوقف هذه ألكوابيس من ملاحقة كتّاب وقراء فرانز كافكا ،فهناك دائما”نوافذ مفتوحة لاستقبالها حتما”طالما بقيّ ألبعض منا حالما”بالقرب منها ومتأملا”متى يرحلعنه كابوس كافكا..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقد و شاعر عراقي